غالباً ما توصف الملابس بأنها "بشرتنا الثانية"، وشكل من أشكال التعبير عن الذات.
وبينما يتم توجيه الهوية الاجتماعية نحو عالم خارجي متّسم بالقيم والرموز المشتركة، يتم توجيه الهوية الشخصية نحو ما نشعر به تجاه أنفسنا، فقد وصف الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (1988) كيف تقوم الممارسات والأدوات بخلق إحساس بالذات، مشدداً على أهمية الانشغال بالذات من خلال مجموعة من الممارسات والأنشطة المتنوعة، كالعناية بالجسد والإشباع المعتدل للحاجات.
وبالتالي، إذا اعتبرنا أن الملابس هي تقنية خاصة بالذات، فإن الملابس الداخلية هي تقنية خاصة بعوالمنا الداخلية والحميمية، ويعدّ اللانجيري عالماً يكتنفه الغموض والإثارة، وتحيط به في الكثير من الأحيان الخيالات الجنسية والفانتازم، مع العلم بأنه قد يتخذ بعداً فلسفياً وثقافياً واجتماعياً أبعد من مجرّد حصره في غرفة النوم.
بين الخجل والإثارة
عندما شقت طريقها لأول مرة في أواخر القرن التاسع عشر، كانت تصاميم اللانجيري عبارة عن ملابس داخلية مزيّنة و"مكشكشة" بهدف أن تكون جذابة، ومنذ ذلك الحين أصبحت هذه الصناعة تحقق أرباحاً طائلة من المتوقع أن تصل إلى حوالي 78 مليار دولار أميركي بحلول العام 2027.
في وقتنا الراهن، لم تعد الملابس الداخلية النسائية تقتصر فقط على حمالات الصدر والسراويل الداخلية، بل باتت الأسواق العربية والأجنبية تزخر بالكورسيهات والمشدات والعديد من الزخارف والدانتيلات، التي تزيّن الملابس الداخلية وتساعد في إضفاء مسحة من الإثارة، تسير بالتوازي مع أحدث اتجاهات الموضة.
نعيش في عالم يحاصر المرأة أحياناً في قوالب نمطية، ويعتبر أن اللانجيري هو من الأكسسوارات المرتبطة فقط بالعملية الجنسية، بحيث أنها تبقى على جسد المرأة لمدة دقيقتين أو أكثر وينتهي بها المطاف على أرضية غرفة النوم
وانطلاقاً من كونها "الحاجز الأخير" أمام الجسد العاري، فإن تصاميم الملابس الداخلية تتأرجح بين الخجل واللعب على وتر الإثارة، وتظل موضوع افتتان دائم بسبب تصاميمها التي تعزّز من جاذبيتها، فالبعض منها يكشف أجزاء من الجسد أكثر مما يسترها، بطريقة تفتح أحياناً الباب أمام التخيّلات.
وفي هذا الصدد، لاحظت الفرنسية شانتال توماس، وهي أول مصممة تجعل من اللانجري أكسسواراً من أكسسوارات الموضة، أن جوهر الملابس الداخلية يكمن في التلميح، مشددة على ضرورة أن تكون التصاميم مثيرة، إنما في الوقت نفسه أنيقة وراقية لكيلا تقع في فخّ الابتذال.
ولكن لماذا تعتبر بعض النساء الكورسيهات وسراويل الدانتيل من أكسسوارات الإثارة بينما تشعر الأخريات بأنها امتداد طبيعي للأنوثة؟
لا شك أن علاقة المرأة باللانجيري تختلف من سيّدة إلى أخرى وفق العديد من العوامل والاعتبارات، فبعض السيدات يملن إلى الملابس الداخلية المثيرة بسبب انعكاسها الإيجابي على صحتهنّ النفسية، في حين تختار أخريات القطع العملية والمريحة، غير آبهات بتوجهات الموضة وصيحاتها.
في دراسة بعنوان You do act differently when you’re in it :lingerie and femininity، أجرت راشيل وود 16 مقابلة معمّقة مع مجموعة واسعة من النساء فيما يتعلق بأفكارهنّ حول الملابس الداخلية.
وكشفت الدراسة وجود تضارب في المشاعر عند اختيار اللانجيري: ففي حين كشفت بعض السيدات بأنهن يشعرن بزيادة في ثقتهنّ بأنفسهنّ عند ارتداء الملابس الداخلية المثيرة، زعمت نساء أخريات أن الهدف من هذه القطع هي إشعال الرغبة الجنسية لدى الشريك، هذا وكشفت العديد من النساء أنهن بدورهنّ شعرن بالإثارة لمجرد التفكير في قطع اللانجيري.
بغض النظر عن الآراء الشخصية للمرأة، فلا شك أن هناك وصمة حول عملية شراء اللانجيري، فعندما سُئلت النساء في الدراسة عما كنّ يبحثن عنه في الملابس الداخلية، كان الشرط الوحيد في الكثير من الأحيان أن تكون هذه القطع "لطيفة".
وعليه، قد يكون الذهاب إلى الأسواق الشعبية، حيث الرجال هم البائعون الرئيسيون للانجيري، أمراً محرجاً بالنسبة للعديد من النساء، ما ساهم في ازدهار متاجر الملابس الداخلية اللانجيري عبر الإنترنت.
ومع ذلك لا يمكن أن نغفل حقيقة أن هناك صناعة هائلة تكمن وراء الملابس الداخلية النسائية، فتمارس (عن قصد أو غير قصد) ضغوطات نفسية على النساء، وقد تدفع العديد منهنّ، من خلال الإعلانات النمطية، إلى اختيار قطع غير مريحة، تتحكم في أجسادهنّ وتعيد تشكيلها لتتماشى مع الموضة.
قوة الملابس الداخلية
"لا شيء يساوي القوة الحسّية للملابس الداخلية الأنثوية"، هذا ما كتبتهBaronne d’Orchamps منذ أكثر من مائة عام، في كتاب بعنوانTous les Secrets de la femme، فقد أدركت الكاتبة أن الملابس الداخلية هي أداة قوية تمنح المرأة سيطرة معيّنة على دماغ الذكور.
لا شك أن هناك شيئاً مثيراً للاهتمام يدور في فلك الملابس الداخلية، غير أن هذا "التعطش" لطبقة الملابس الأقرب إلى جلد المرأة لم يتجسّد من فراغ، كما أوضحت كولين هيل، في كتابها A History of Lingerie.
ومن خلال تتبع تاريخ الملابس الداخلية من خلال التصوير الفوتوغرافي للأزياء، كشفت هيل عن المسار الذي اتخذته الملابس الداخلية لناحية تصاميمها والتلميح إلى كيفية مساهمة تطورها في حدوث تحولات في الأعراف الجنسية والمفاهيم الثقافية للجنس الأنثوي.
"لا شيء يساوي القوة الحسّية للملابس الداخلية الأنثوية"
في الواقع، إن مصطلح لانجيري مشتق من الكلمة الفرنسية Linge التي تعني الكتان، وبالتالي يشير بشكل مباشر إلى المواد التي كانت تصنع منها الملابس الداخلية التقليدية والتي كانت تدل على المكانة الاجتماعية.
ولكن بحلول أواخر القرن التاسع عشر، أصبحت كلمة "لانجيري" تستخدم بشكل شائع لوصف الملابس الداخلية التي تجاوزت الوظيفة العملية وأصبحت أداة للمتعة الإيروتيكية.
لماذا يتم ربط اللانجيري بالإثارة؟
بالرغم من الإهتمام المتزايد بعلم النفس الكامن وراء الموضة والزيادة الهائلة في الأبحاث والدراسات التي تدور حول صورة الجسد الأنثوي الغارق أحياناً في القوالب النمطية، فإن التطرق لسيكولوجية الملابس الداخلية النسائية، وتحديداً اللانجيري، تبقى نادرة لحدّ يومنا هذا.
في دراسة أجرتها جامعة كونكورديا الكندية في العام 2014، سمح الباحثون لذكور الجرذان بممارسة الجنس مع إناث الجرذان اللواتي يلبسن سترة صغيرة، وعندما عرضت على الذكور فرصة أخرى للتزاوج مع إناث فئران عارية أو فئران ترتدي السترات، فضلوا التزاوج مع الفئران التي ترتدي سترة، نظراً لأن ذكور الجرذان لامست السترات بشواربها أثناء ممارسة الجنس.
وعليه، افترض الباحثون بأن الفئران، مثل البشر، تقيم رابطاً بين النظر ورائحة الملابس والجنس، وقد رسمت هذه النتائج أوجه تشابه مع التأثير المثير للملابس الداخلية على الذكور من البشر وربط عالم اللانجيري بالإثارة الجنسية.
في حديثها مع موقع رصيف22، أوضحت الدكتورة مها نصرالله، وهي معالجة نفسية متخصصة في العلاقات الزوجية والجنسية، أنه في الكثير من الأحيان يتم الربط ما بين اللانجيري والعلاقة الجنسية، بحيث يعتبر بعض الأزواج أن هذه الملابس الداخلية النسائية من شأنها إضفاء أجواء من الإثارة على العلاقة: "بعض السيدات يشعرن بأنهنّ جذابات وتزداد ثقتهنّ بأنفسهنّ أكثر حين يرتدين اللانجيري، الأمر الذي يرفع مزاجهنّ لممارسة الجنس".
وأضافت نصرالله أن بعض الرجال اعتادوا في مخيّلتهم على ربط اللانجيري بالرغبة الجنسية: "قد يعتقد الرجل ان إقدام شريكته على ارتداء اللانجيري والملابس الداخلية المثيرة هو دليل على كونها مستعدة لإقامة علاقة جنسية معه".
غير أن مسألة ارتداء اللانجيري لا يجب تعميمها على جميع الأفراد، وفق ما أكدت مها: "هناك سيدات لا يحبذن فكرة ارتداء اللانجيري، كما أنه لا يجب حصر الملابس الداخلية النسائية بعالم الجنس".
وفي هذا الصدد، أكدت مها نصرالله أن هناك العديد من النشاطات والسلوكيات التي تساعد على إشعال العلاقة الجنسية بين الشريكين، بمعزل عن فكرة ارتداء اللانجيري: "الأهم هو التركيز على ما يجعل المرأة تشعر بأنها جذابة وواثقة من نفسها"، مشيرة إلى أن الرجل تجذبه في العادة المرأة القوية والتي تعرف جيداً ما تريد.
وبدورها، اعتبرت كارولين ماير، أخصائية علم النفس السلوكي ومؤلفة كتاب The Psychology of Fashion إن ارتداء اللانجيري أو الملابس الداخلية الجيدة قد يعزز ثقة المرأة بنفسها، حتى لو لم يرها أحد: "الشعور بالثقة يمكن أن يجعلنا نبدو أكثر جاذبية جسدياً، لأننا نميل إلى الوقوف والمشي والتحدث والإيماء بشكل مختلف".
ليس من الضروري أن تكون الملابس الداخلية النسائية "مزركشة" للغاية أو مثيرة بشكل علني لتجعل الأنثى تشعر بالقوة والثقة بالنفس، إنما يمكن للمرأة اختيار القطعة التي تناسبها والتي تتيح لها التعبير عن هويتها وتفضيلاتها وحالتها النفسية، دون ربط اللانجيري بالقوالب النمطية التي لا تخدم سوى العقول المتحجرة
إذن يمكن أن يثير ارتداء الملابس الداخلية مشاعر الأنوثة والتحرر الجنسي والقوة، ولكننا للأسف، نعيش في عالم يحاصر المرأة أحياناً في قوالب نمطية، ويعتبر أن اللانجيري هو من الأكسسوارات المرتبطة فقط بالعملية الجنسية، بحيث أنها تبقى على جسد المرأة لمدة دقيقتين أو أكثر وينتهي بها المطاف على أرضية غرفة النوم.
لكن هذه المفاهيم غير دقيقة وغير منصفة، إذ يجب التعامل مع الملابس الداخلية على أساس أنها شيء تشتريه المرأة وترتديه لنفسها في المقام الأول.
بمعنى آخر، ينبغي ألا يتم حصر اللانجيري بالعملية الجنسية أو اعتبارها مجرد قطعة ملابس ترتيدها النساء لحماية أعضائهنّ الخاصة، بل يجب أن تكون رمزاً للموضة، تدل على الأنوثة وتلعب دوراً مهماً لناحية تمكين المرأة، واللافت أن هناك الملايين من النساء اللواتي أدركن ضرورة تغيير أنماط استهلاكهنّ للانجيري وفق ما يريحهنّ ويتوافق مع نظرتهنّ إلى أنفسهنّ.
ففي نهاية المطاف، ليس من الضروري أن تكون الملابس الداخلية النسائية "مزركشة" للغاية أو مثيرة بشكل علني لتجعل الأنثى تشعر بالقوة والثقة بالنفس، إنما يمكن للمرأة اختيار القطعة التي تناسبها والتي تتيح لها التعبير عن هويتها وتفضيلاتها وحالتها النفسية، دون ربط اللانجيري بالقوالب النمطية التي لا تخدم سوى العقول المتحجرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع