شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
كيف خدم صديقي المثلي السلطة الأبوية حين تزيّن بالمكياج

كيف خدم صديقي المثلي السلطة الأبوية حين تزيّن بالمكياج

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 22 أبريل 202109:11 ص
Read in English:

Men Who Wear Makeup Serve the Patriarchy More Than Anyone Else


في مجتمعاتنا ذات النهج الشمولي، هناك الكثير من القضايا الإشكالية التي تصادف الأفراد والفئات والتصنيفات المقولبة اجتماعياً، وأحياناً يتم تفسير المواقف منها بطريقة غير عقلانية ولا تخضع لأي منطق؛ ربما واحدة من هذه الإشكاليات هي مفهوم الهوية الجنسية.

في أحد الأيام اتصل بي صديق، وكل منّا في بلد، ليخبرني أنه قد انفصل عن زوجته نهائياً، وبعد نقاش طويل نسبياً، صرّح أنه بعد زواجه بفترة، بدأ يشعر بشيء غريب في داخله، واكتشف لاحقاً هويته الجنسية كمثلي، وأنه ينتمي إلى عالم مختلف كلياً في المشاعر والأفكار.

حينها، عندما أخبرني بتلك السرعة المتدفقة، بدا الأمر بالنسبة لي مفاجأة غير متوقعة، ربما لأني كنت أعلم تفاصيل حياة قديمة كنا فيها متسكعين في المسائل الجنسية مع الفتيات. لكني تعاملت بشكل تلقائي على أن الموضوع هو خيار شخصي، بغض النظر إن كان هذا الخيار ناتج عن مشاعر أو رغبات خاصة أو أفكار للتجريب. بطبيعة الحال، الخيارات الشخصية دائماً لها أولوية إنسانية بغض النظر إن ناسبتنا عقائدياً أم لا.

استمرت صداقتنا بشكل اعتيادي إلى يوم جرى فيه اتصال فيديو، كنا نتحدث حول الكثير من الأشياء، إلى أن نهض صديقي واستقدم أدوات مكياج وبدأ بتزيين وجهه في مرآة جانبية، وحينها بدأ نقاش طويل حول مسألة المكياج، نتج منها في المحصلة - بحسب رأيه - أني شخص ميّال إلى البطريركية كآلية تفكير. طبعاً كانت هذه واحدة من معضلات سوء التفسير المتشنج إزاء موضوع المثليين، وطريقة فهم خاطئة حول أي موضوع يقترب من خصوصياتهم الحياتية أو الخيارات الخاصة بهم.

كان اعتراضي على فكرة مكياج صديقي ليس لأنه مثلي الجنس، بل لأن فكرة المكياج، في جوهرها، هي نتاج تقسيم جندري واقتصادي وتاريخي

أنا بطبيعة الحال، هويتي الجنسية مغايرة وأميل إلى النساء. وكان اعتراضي على فكرة مكياج صديقي ليس لأنه مثلي الجنس، بل لأنّ ثقافة المكياج الذي نقوم به كسلوك يومي، هو في الجوهر، نتاج تقسيم جندري واقتصادي وتاريخي. فرضته قوة سياسية ذات بُعد أبوي على المرأة، في مرحلة ما، كي تكون أكثر قبولاً جمالياً وجنسياً في المفهوم البطريركي.

بشكل أبسط، إننا ككائنات بشرية ننتمي لمفهوم الطبيعة كوجود فلسفي وثقافي. وما عملية تمدّننا المعاصر إلا أنماط بنى فكرية وسياسية ودينية تحدد أشكال وعينا وثقافتنا المرتهنة للنظم الاستهلاكية الحديثة، والتي يشكّل فيها مفهوم المكياج وفلسفته جزءاً كبير من هذا الارتهان الوجودي. فكرة المكياج ما هي إلا عملية تقوم على إرضاء السلطة الأبوية، ذلك حين تتجمل المرأة، على سبيل المثال، وتغير في شكلها وتصرفاتها من أجل إرضاء ذكر أحمق، أو بطريقة تبريرية أخرى، تقوم بالتجمّل من أجل نفسها وليس من أجل الآخر. لكن عذراً عزيزتي، أليست فكرة شعورك الشخصي بالجمال هو في مضمونه ناتج لرغبتك أن تكوني أكثر إثارة جنسية للآخرين! أن تكوني مقبولة للمزاج الذكري التلقيحي؟

طبعاً أنا لا أدين هنا التجمّل من أجل تحقيق المآرب الجنسية، والتي هي سلوكيات موجودة في عوالم أي كائن على الأرض، الإنسان والحيوان. لأن المأرب الجنسي، هو جزء من مفهوم الوجود للطبيعة التي تقوم على مسألة التناسل الذي هو أساس وجوهر الحياة قبل أن تعلو مفاهيم الجنس الفلسفية. لكني أشرح فقط فكرة المكياج كشيء معاصر استهلاكي اقتصادي مُفترض من قوة تتحكم بالوعي الجمعي.

إذن، عندما يخرج رجل مثلي ليمارس هويته الجنسية كتشبيه للمرأة التي هي في الواقع القائم عبارة عن جزء من هيكلية ممتعة للبطريركية، فإذاً، كل مفهوم التمرد الاجتماعي والسعي للاعتراف بالهوية الجنسية التحررية لا قيمة له، لأنه ببساطة لم يناهض سلطة المؤسسة التي تفترض تلك الهوية التقسيمية للجندرة، بل هو انتقال من طرف جندري إلى طرف جندري آخر. "على قولة المتل الشعبي: "محل ما... شنقوه".

تبرير فكرة نظافة الجسد، وبالأخص الدينية، من أجل إرساء القوة التخيلية للبطريركية الاجتماعية الجاهزة، وأيضاً التبريرية حتى لدى أعتى الليبراليين، هو أكثر شيء سافل يمكن قوله

ما هي المشكلة أن تكون مثلي جنسي دون أن تقدّم نفسك ككائن أكثر غنجاً جمالياً أو سلوكياً أو لغوياً؟ دون أن تقدّم نفسك كصورة تخيلية مشتهاة للآخر؟ أليس مفهوم الغنج بحد ذاته أو التجمّل هو مفهوم استلابي للذات اتجاه السلطة الأبوية القائمة؟ تلك الأبوية التي تنتظر كل فعل استثاري من كائن مدلل كي تمهّد له الانتصاب المقدس؟

المعضلة ليست في الهوية الجنسية، أو قبولنا أو عدم قبولنا لها، بل بقبول الآخر دون أن يتحول إلى كائن أدنى قيمة، حيث يفترض مهمته فقط في إمتاع طرف يعتقد بنفسه أنه منزّل من السماء الأبدية، وأنه الفاعل الجبار الذي سيخترق أسوار القسطنطينية.

بمثال آخر تقريبي وشخصي، أنا لا أرغب كثيراً بفكرة المرأة التي تخرج ككيان ناعم كلياً في مناطق الاستثارة جنسياً؛ كالفرج النظيف بشكل مطلق أو الجسد الذي لا يمتلك أي زغب. ليس لأني أفضل أو لا أفّل هذه المسائل، بل لأن فكرة التعامل مع الإنسان كحقيقة طبيعية فيزيولوجياً، فيها قيمة فلسفية وروحية أعلى بكثير من كائن شبيه بالملاك النظيف الذي تقوم مهمته على أن يكون وجبة مشتهاة للذكورة.

هذه الصورة الملائكية للجسد النظيف ليست سوى محاولة خضوع أنثوي طوعي في المستوى التخيلي. إنها فقط عبارة عن سفائن لحمية جاهزة للامتصاص والالتهام والاختراق بصورة كلية وخاضعة لقوة السيطرة الذكرية التخيلية بأسوأ صورة اغتصابية، بغض النظر إن كانت هناك طبائع فيزيولوجية لكل كيان. إلا أننا نتحدث هنا عن ثقافة متوارثة اجتماعياً للمهمة التي تقوم على كل كائن بشري، وبنفس المعنى، المثلي الجنسي، في عملية المكياج كمثال، يمارس ذات الصيغ التي تمارسها الفتاة في تقديم نفسها كوجبة للذكر، إنها استلاب طوعي للذات من أجل إرضاء السلطة البطريركية.

ما هي المشكلة أن تكون امرأة بشعر طبيعي ينمو في الجسد دون أن تشعر بموقف الضعف أو السخرية الذكرية الاجتماعية منها إن لم تحلق مناطق الإثارة من أجل ذكر يتبجّح بالحرية؟ طبعاً سيخرج البعض كالعادة ليتحدث بلسان شبه علمي أو شبه ديني، عن أن الموضوع مسألة نظافة وليس كما قدمته في سياق الحديث. وطبعاً سأقول لك باختصار.. "بحياة أختك لا تحلف ع المصحف، مصدقك يا رجل، ولو، مو بيناتنا هالسحبات التبريرية لذكوريتك. وحلفّتك بأختك لأنو بعرف عم حلفك بالغالي– حسب وعيك– وأختك ها مو أمك، لأنو بحسب ثقافتك أمك تم استهلاك أنوثتها على الأيروس الأبوي، بس أختك ما زالت بتحتفظ بالدم العذري غير المسال.. ما هيك؟.. سيدي، نو بروبليم".

فكرة التعامل مع الإنسان كحقيقة طبيعية فيزيولوجياً، فيها قيمة فلسفية وروحية أعلى بكثير من كائن شبيه بالملاك النظيف الذي تقوم مهمته على أن يكون وجبة مشتهاة للذكورة.

بالنتيجة، تبرير فكرة نظافة الجسد، وبالأخص الدينية، من أجل إرساء القوة التخيلية للبطريركية الاجتماعية الجاهزة، وأيضاً التبريرية حتى لدى أعتى الليبراليين، هو أكثر شيء سافل يمكن قوله من أجل إبقاء التصورات التخيلية والتي ترتقي إلى مستويات مادية لاحقاً، عن مفاهيم الجنس، بغض النظر إن كانت مثلية أم لا. بنفس المنطق يمارس بعض المثليين في مجتمعاتنا الأبعاد والمعضلات الثقافية نفسها لمفاهيم التحول الجنسي دون إدراك كافٍ، أن موضوع خيار الهوية الجنسية هو معنى ثقافي قبل ممارسته كسلوك، وأن أحد أسباب عدم تحقيق حريته في المستوى الاجتماعي، هو أن الباحثين عن هوياتهم لا يحاربون ولا يناهضون المؤسسة التي تفرض قوتها السياسية والثقافية على الوعي الجمعي. فما الفائدة من أن تكتشف خيارك الجنسي، وأن تنتقل من طرف جندري مقموع إلى طرف جندري آخر مقموع أيضاً. هذه ليست حرية لأنّ المؤسسة التي تستعبد الاثنين ما زالت قائمة ومتحكمة بكل تفاصيل الوعي الجمعي.

خيار التحرر جنسياً، دينياً، سياسياً، ثقافياً.. الخ، لا يتجزأ. فمثاليّ المرأة التي ترغب ضمناً أن تكون ملاك نظيف ليلتهمها ذكر قوّام عليها بحسب المفهوم الديني، والمثلي الذي يمارس الوعي الأنثوي المعاصر لأنّه يمتلك رؤية بأن التحول وخيار الهوية الجنسية، هو في الدرجة الأولى خضوع للأيروس صاحب الحضور المسيطر، كلا النموذجين مستلبين لسلطة مؤسساتية مهيمنة على الوعي البشري المعاصر. إن لم توضع المؤسسات- كل المؤسسات- تحت المقصلة، فكل هذا الإدعاء بالتحرر الجنسي والتنقّل في الهويات عبارة عن هراء أجوف.

فعملياً، الفهم الخاطئ للنقاش العقلاني في مجتمعاتنا الشمولية هو قائم بنسبة كبيرة وسيء للأسف. عزيزي المثلي، ليست المشكلة باعتراف السلطة، أي سلطة بحقوقك، لأنها أصلاً لن تعترف بتلك الحقوق إلا في اللحظة التي تُوضع فيها أمام الموت. بل المشكلة الحقيقية هي أن تمارس هويتك الجنسية دون أن تشعر بأنك الكيان المدلل، الذي تم زراعة وعي شامل في ثقافته التاريخية بأنّ تلك السلوكيات المقسّمة جندرياً هي حقيقتنا البشرية المطلقة.

بتصوري، المعضلة هي معضلة وعي ذاتي تجاه خياراتنا وهويتنا الجنسية وتطبيقها سلوكياً وليست معضلة قانون للاعتراف بالهوية، لأنه عاجلاً أم آجلاً، سيعترف الجميع، دولاً وأفراداً وقوانين، بالآخرين وخياراتهم وهوياتهم الجنسية. المعضلة هي أن لا نمارس السلوكيات التي تفترض التقسيم الجندري إزاء ذواتنا.

الجنس فلسفة المتعة، إذاً ليستْ بحاجة لوضع تلك الفلسفة وتطبيقاتها المادية داخل صناديق تعبّر عن حدود مقولبة في وعينا الجاهز.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image