يربط المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد مسألة القوة والحفاظ على الهوية بإنتاج قصة سردية مقنعة. قد تكون في بعض الأحيان مبنية على اختلاق الإرث والتلاعب بمفاصل محددة من الماضي القومي. وقد استشهد سعيد بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي كمثال على عدم استطاعة الفلسطينيين بناء قوة سرد تاريخي تُساهم بحشد الناس حول هدف مشترك، في الوقت الذي قامت فيه فكرة "دولة إسرائيل" في أساسها على سردية "ضالة الصهيونية المنشودة".
حديث سعيد جاء ضمن الإطار العام لجدلية السردية. لكن الجدل اليوم، يحوم حول توظيف تقنيات العصر الرقمي، ووضع هيكلية أساسية لبناء سردية فلسطينية ومصدرٍ لتثبيتها، وحول كيفية استخدام تقنيات الذكاء الصناعي والإنترنت بشكل أكثر عمقاً وتطوراً وملاءمة للثورة التكنولوجية الحالية. وذلك من أجل تقليل الفجوة الرقمية والمعرفية التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي الذي بدأ بهيكلة سرديته الصهيونية منذ ما قبل النكبة حتى العصر الرقمي، متأقلماً مع التكنولوجيا الراهنة.
يحتاج الفلسطينيون، في ظل تشتتهم، إلى استغلال الثورة التكنولوجية لتمتين القوة الجمعية أكثر من غيرهم، من أجل بناء رواية متنوعة وفريدة من نوعها ومترابطة في الوقت ذاته. لذلك أثار منتدى فلسطين الرقمي، والذي يبادر إلى تنظيمه مركز "حملة"- المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي، أفكاراً تتعلق برقمنة الذاكرة الفلسطينية، كما ذهب إلى سياق متصل حول بناء سردية فلسطينية وعلاقته برقمنة الذاكرة والتاريخ باستخدام السياق التاريخي والاجتماعي والثقافي، لتجسيد علاقة بين اللاجئين الفلسطينيين في الشتات وبين المكان الذي تركوه أو تركه آباؤهم وأجدادهم منذ أكثر من 72 عاماً. فطرح السؤال حول كيفية توظيف هذه العلاقة لتجسيد حالة للتقارب والحفاظ على الذاكرة وتثبيت رواية فلسطينية موحدة أمام الرأي العالمي في ظل ثورة وسائل التواصل والذكاء الاصطناعي.
"لا توجد هناك سردية فلسطينية واحدة، وذلك بسبب تغير الظروف والعصور والجغرافيا والخلفيات الاجتماعية وطبيعة الحياة"
كيف تُحكى فلسطين رقمياً
إياد البرغوثي، من مبادرة "فلسطين المش محكية"، وأحد المشاركين في جلسة حوارية تحت عنوان "السردية الفلسطينية في العصر الرقمي"، يقول إن "التراث السردي ينتقل برحلة الماضي إلى الحاضر عبر نصوص متفرقة، بوسائل نقل مختلفة، وبحقول جغرافية متنوعة الثقافات، وخلال أزمنة مختلفة لكل منها ظروف معينة، حتى وصلت إلينا بأشكالها المختلفة دون أن يؤثر ذلك على مضمونها في الثقافة والهوية". ويرى البرغوثي أنه "لا توجد هناك سردية فلسطينية واحدة، وذلك بسبب تغير الظروف والعصور والجغرافيا والخلفيات الاجتماعية وطبيعة الحياة وغيرها من العناصر. لكن جميعها متشابهة وتحمل نفس المضمون وفي طياتها الحقيقة البسيطة والمباشرة".
ويتابع حديثه قائلاً: "لكن كل هذه السرديات يجب أن تُنشر كقصص عبر الوسائط الرقمية ضمن الإطار العام للهوية الفلسطينية. واستغلال هذه المساحة الرقمية لتسليط الضوء على قصص وسرديات جديدة لم يتم التحدث عنها من قبل، من شأنه أولاً أن يبني سردية فلسطينية متينة، وثانياً أن يزيل الأفكار النمطية السلبية عن الفلسطينيين وقضيتهم أمام المجموعات والشعوب الأخرى. في حملة 'فلسطين المش محكية' نستخدم الوسائط والنظريات الرقمية الحديثة لتسليط الضوء على قصص مختلفة لم تحكَ من قبل، ضمن إطار موحد وهو الهوية الفلسطينية، بطريقة تلائم العصر الرقمي، وتجذب المتلقي"، يقول البرغوثي.
ويتطرق عمر بدار، من معهد "تفاهمات الشرق الأوسط"، الذي شارك في الجلسة ذاتها، إلى منصات التواصل الاجتماعي والفضاء الرقمي كفرصة لنشر الرواية الفلسطينية والقصص الفلسطينية غير المروية في الإعلام الدولي، الذي تسيطر فيه الرواية الاسرائيلية. فيشير بدار إلى أن "العصر الرقمي يتيح لنا كفلسطينيين أن نصلح الصورة السيئة التي خلقها الإعلام الدولي حول الفلسطينيين، من خلال بث السردية الفلسطينية عبر الفلسطينيين أنفسهم وليس كما يبثها الإعلام الدولي المنحاز لإسرائيل".
ويقول بدار: "اليوم، أتاح لنا العصر الرقمي ووسائط التواصل أن نستخدم أدوات جديدة مثل الرسوم المتحركة والفيديوهات التفاعلية، حتى نضع القضية الفلسطينية على الخارطة، خاصة بالنسبة للأشخاص الذين لا يعرفون شيئاً عن فلسطين وتطور الأحداث التاريخية فيها. فهم يحتاجون إلى معلومات وبيانات تصلهم عبر أدوات مقنعة، تساعدهم في تشكيل رأيٍ موضوعي حيال الصراع بين إسرائيل وفلسطين". ويعتقد بدار أن الولايات المتحدة تدعم إسرائيل بمليارات الدولار سنوياً حتى تستطيع تغييب الرواية الفلسطينية باستغلال العصر الرقمي.
"العصر الرقمي يتيح لنا كفلسطينيين أن نصلح الصورة السيئة التي خلقها الإعلام الدولي حول الفلسطينيين، من خلال بث السردية الفلسطينية عبر الفلسطينيين أنفسهم"
رقمنة الأرشيف في مواجهة البروباغندا الصهيونية
بدوره، أشار د. سليم أبو ظاهر، مدير ومحرر مشروع "أرشيف المتحف الفلسطيني الرقمي" في المتحف الفلسطيني، في جلسة أخرى نظّمها المنتدى بعنوان "رقمنة التاريخ والذاكرة الفلسطينية"، إلى أن المتحف وثق أكثر من 200 ألف وثيقة رقمياً، منذ عام 2018، ضمن مبادرة استراتيجية تساهم في إنتاج روايات بديلة حول فلسطين وثقافتها ومجتمعها بمنظور جديد يرسخ الهوية الوطنية الجامعة ويكرس ترابط الفلسطينيين ببعضهم.
وأضاف: "هذه الوثائق أو العناصر المرقمنة موزعة على عدد من المحاور التي تغطي مجمل جوانب التاريخ الاجتماعي في السياق الفلسطيني، كالحياة الاجتماعية والهجرة واللجوء، على مدى أكثر من قرنين، في سياق الرفض القاطع للمحاولات المتعلقة بتزييف وإعادة تشكيل مشهدية الرواية من خلال إقصاء الرواية الفلسطينية. ويتطلع مشروع الأرشيف الرقمي للمتحف الفلسطيني إلى متابعة رحلة البحث عن الأرشيفات الفلسطينية المهددة بالاندثار، لرقمنتها وحفظها وإتاحتها للأجيال القادمة".
وفي الجلسة ذاتها، تحدثت لورا البسط، محررة المحتوى الرقمي في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، عن أهمية الرقمنة فيما يخص الشأن الفلسطيني في المحافظة على السردية الفلسطينية في مواجهة البروباغندا الصهيونية، والحفاظ على الذاكرة التاريخية الفلسطينية للأجيال القادمة. فتقول: "نحن نحمي الأرشيف المكون من مواد وصور ومستندات وإسطوانات من التلف والمصادرة والسرقة"، مؤكدة أن "الفلسطينيين عُرضة للسرقة الرقمية". وتحدثت البسط، عن مشروع "المسرد الزمني التفاعلي للقضية الفلسطينية"، الذي أطلقته مؤسسة الدراسات الفلسطينية بالشراكة مع المتحف الفلسطيني، الذي يتتبع ويسلط الضوء على أبرز الأحداث في تاريخ فلسطين الحديث منذ نهاية الحقبة العثمانية حتى الوقت الراهن.
هكذا تحضر فلسطين خارج الجغرافيا
منصة خرائط فلسطين المفتوحة هو مشروع فلسطيني يستخدم تقنيات المصدر المفتوح وخرائط قديمة تعود للقرن التاسع عشر من أجل عرض القرى والمدن الفلسطينية وأسمائها الأصلية باللغة العربية، ومقارنة التغييرات التي حصلت جراء الاستعمار والاحتلال.
مجد الشعيبي، أحد القائمين على هذا المشروع، شارك في جلسة "رقمنة التاريخ والذاكرة الفلسطينية"، يقول إن "المشروع ليس مشروعاً جامداً، بل يتيح للمتفاعلين معه عن طريق الـMapa Phone إنتاج المعرفة وقاعدة البيانات التي ستكون حتماً مفيدة للمعرفة المستقبلية". ويضيف: "إنتاج المعرفة وإعادة إنتاجها من قبل فلسطينيين شباب، سيغير بالتأكيد فهمهم لفلسطين والوضع الذي تعيشه اليوم، عن طريق فهمهم لتاريخها". هدف مشروع منصة خرائط فلسطين المفتوحة، بحسب الشعيبي، هو فتح هذه الخرائط وإتاحتها بطريقة سهلة وسلسة ومفيدة وقابلة لإعادة الاستعمال من قبل العموم.
"إنتاج المعرفة وإعادة إنتاجها من قبل فلسطينيين شباب، سيغير بالتأكيد فهمهم لفلسطين"
"Palestine VR" أو "فلسطين الواقع الافتراضي"، هو مشروع فلسطيني رقمي آخر يهدف إلى ربط الملايين من فلسطينيي الشتات ببلدات وقرى أجدادهم، وإلى المحاكاة الافتراضية للمعاناة الناتجة عن سياسات الاحتلال ضد الفلسطينيين في وطنهم. تقول ميس العلمي، المدربة في المشروع، وخلال مشاركتها في جلسة حوارية ضمن منتدى فلسطين الرقمي بعنوان "توثيق الاحتلال رقمياً: فلسطين VR الواقع الافتراضي"، إن "Palestine VR" تطبيق مجاني، وهو أداة جديدة تقدم جولات افتراضية في فلسطين للفلسطينيين الذين لا يمكنهم زيارة فلسطين". وتتابع: "نريد مشاركة فلسطين معهم، ومساعدتهم على الشعور بهذا المكان وفهمه".
هذا التطبيق، بحسب العلمي، يصور أشخاصاً يعيشون داخل المجتمعات الفلسطينية المحلية، وهم يتحدثون عن الانتهاكات الإسرائيلية وأسرلة الأماكن العربية، بحيث يستطيع المشاهد التفاعل مع المكان ومشاهدته ومشاهدة تفاصيله بالطريقة التي يرغب بها ومن كافة الزوايا الممكنة. وتشير العلمي إلى أن أحد أهداف هذا المشروع هو إتاحة المواد المنتجة للاستخدام ضمن أي ندوة أو مؤتمر أو نشاط مجتمعي قد يخدم القضية الفلسطينية.
"يتجول هذا التطبيق في مدن مختارة في فلسطين لعرض الطرق التي يظهر بها الاحتلال والفصل العنصري جغرافياً وجسدياً، وتزويد الجمهور بالقدرة على الإبحار في جولات فلسطين الافتراضية بأنفسهم ومشاركتها مع مجتمعاتهم لزيادة الوعي. الكثير من الانتهاكات يمكن تسليط الضوء عليها من خلال هذه الأداة، لعل أهمها الاستيطان وسرقة المياه ومصادرة الأراضي، وغيرها"، تقول العلمي، وتتابع: "ما يميز هذا المشروع هو أن الفلسطينيين أنفسهم، الذين عاشوا المعاناة منذ ولادتهم في المكان، يتحدثون عن الانتهاكات التي تحصل على الأرض، ومن قلب الحدث، وبالصورة".
سلط "منتدى فلسطين الرقمي" الضوء على العديد من المشاريع الفلسطينية الرقمية، فمنها ما تهدف لبناء أرشيف رقمي ضخم للتاريخ الاجتماعي الفلسطيني، وأُخرى تسعى لتوظيف أفكارها في الشبكة لربط الفلسطينيين في كل أنحاء العالم بوطنهم، وتأكيد الحق بالأرض، وتوثيق الجرائم الصهيونية. هذه المشاريع تلفت الانتباه إلى التقنيات الرقمية الحديثة وكيف يمكن تلخيص المعلومات والبيانات في معلومات مفيدة، وتحويلها إلى معرفة فيما يتعلق بالأنماط التاريخية والاتجاهات المستقبلية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون