اثنان من أشهر الاقتباسات الحوارية في السينما المصرية التي يستخدمها رواد مواقع التواصل الاجتماعي في النكات المصورة أو ما يعرف بالكوميكس هما: "أسامحك ازاي بعد ما نجست لي الكباريه" (فيلم كباريه - 2008) و"استهدي بالله يا بنتي وقومي اقلعي هدومك" (فيلم الفرح - 2009).
تستمد هاتان الجملتان الحواريتان قوتهما ليس فقط من التناقض الشديد الذي تحملانه، ولكن أيضاً من السياق الذي قيلتا فيه والذي يجعل منهما جملاً حقيقية وواقعية للغاية، والأهم من ذلك أن فيهما تعبيراً حقيقياً عن جوهر المجتمع المصري المليء بالمتناقضات.
المتأمل لحال الدراما المصرية في السنوات الماضية يمكنه أن يلمس سيطرة النزعة الأخلاقية على الغالبية العظمى من المحتوى المقدَّم، وبما يجعل من بعض هذه الأعمال خطباً إنشائية تُصَبّ على رؤوس المشاهدين.
استدعت هذه النزعة الأخلاقية شخصيات مثالية لإلقاء مثل هذه الخطب على المشاهدين، فهي شخصيات تلتزم بـ"الكود" الأخلاقي للمجتمع بمفهومه الأوسع، وتمثل كل الفضائل المجردة كالخير والعدل والحكمة والشجاعة، إلخ. بتعبير آخر، خلقت هذه النزعة الأخلاقية شخصيات خرافية وأبطالاً خارقين لا وجود لهم في الواقع، فهم لا يعرفون النقص البشري، ولا التناقض المصري، رغم أنهم من تجليات هذا التناقض. كيف ذلك؟
أبطال خارقون ومتديّنون
في مسلسل "النهاية"، البطل هو المهندس زين، رجلٌ متفانٍ في عمله، زوجٌ مخلص ومحب لزوجته، يؤمن بقيمة العلم ودوره في تحقيق العدل على الأرض، يسعى إلى إنقاذ مجتمعه (والبشرية كلها) من الحرب على الموارد.
في مسلسل "البرنس"، البطل هو رضوان البرنس، عامل في ورشة لطلاء السيارات، متفانٍ في عمله، بارّ بوالده وأهله وجيرانه، زوج مخلص، يؤمن بقيمة العمل ويسعى إلى تنفيذ وصية والده بتقويم سلوك إخوته المنحرف.
في مسلسل "الفتوة"، البطل هو حسن الجبالي، يمتلك محلاً لصناعة النحاس، متفانٍ في عمله، وابن بارّ، وأب حنون، يؤمن بقيمة العدل، ويسعى إلى رفع الظلم عن أهل حارته.
أما مسلسل "الاختيار"، فالحديث عنه أو عن بطله أمر شديد الحساسية، وأي محاولة جادة لتحليله هي بمثابة الخوض في حقل ألغام، لما لهذا البطل من رمزية على المستوى الوطني والديني، ولهذا يجب أن أؤكد ابتداءً أن الشهيد أحمد المنسي هو بطل حقيقي تتجاوز قيمته ما يمكن أن تعبّر عنه الكلمات أو الأعمال الدرامية، وأنه بالتأكيد ليس محل تحليل في هذا السياق أو غيره، ولكننا نحاول تحليل العمل الفني والشخصية الدرامية لا الشخصية الحقيقية.
أما وقد أقررنا الفصل بين الشخصيتين، الحقيقية والدرامية، فيمكننا القول إن البطل في مسلسل "الاختيار" هو شخص مثالي بحكم التعريف، ضابط في القوات المسلحة المصرية، متفانٍ في عمله، زوج مخلص، ابن بار، يؤمن بقيمة الولاء للوطن والدفاع عن أرضه والموت في سبيله.
هذه هي المسلسلات الأربعة الرئيسية لهذا الموسم، والتي يقوم ببطولتها أربعة من أكثر نجوم الدراما شعبية وجماهيرية في الوقت الحالي وهم يوسف الشريف، ومحمد رمضان، وياسر جلال، وأمير كرارة، ولهذا سنتخذها أمثلة ونماذج معبّرة عن الموسم الدرامي ككل.
على مدار السنوات القليلة الماضية، والتي شهدت ازدهاراً كبيراً في صناعة الدراما التلفزيونية، كان التطور الأبرز في رسم شخصية البطل في هذه الأعمال هو المغالاة في مثاليته. المثالية هنا لا تعني مجرد الإيمان بالقيم والفضائل والالتزام الصارم بالمبادئ، ولكن بمعنى المبالغة في تضخيم مناقب البطل ودرء أي نقص عنه حتى وإنْ كان نقصاً إنسانياً لا يعيب في شيء.
البطل في هذه الأعمال هو الأفضل في كل شيء، في "النهاية" هو أفضل مهندس وأكثر ذكاءً من كل أقرانه وقادر على حل أزمة الطاقة. في "البرنس" هو أفضل صنايعي وما يستطيع إصلاحه من أضرار الحوادث لا يقدر عليه صانعو السيارة أنفسهم، أو كما يقول البطل في أحد المشاهد: "طالما رضوان البرنس حط إيده في عربية اللي صانع العربية ميعرفش هي مرشوشة ولا فبريكة". في "الفتوة" هو أقوى الرجال وأقدرهم على التحطيب، ويستطيع بمفرده أن يهزم جيشاً من الفتوات. وفي "الاختيار" يمتلك البطل من الحكمة ما يفوق كل مَن حوله، وليس أعداءه فقط، وفي الواقع إن ما شهدته مصر من تحوّلات في سنوات ما بعد ثورة 25 يناير، كان أكبر وأضخم من أن يحيط به وقت حدوثه شخص مهما بلغ من البصيرة والحكمة، أما اليوم فما أسهل الحكمة بأثر رجعي، وما أكثر القائلين باستشراف الحاضر وتوقعه.
في الأعمال الدرامية لهذا العام، تُضاف إلى كل هذه الصفات والمناقب التي يمتاز بها البطل صفة جديدة هي التديّن. يمكننا أن نلاحظ الحضور الواضح للتدين كأحد الملامح الرئيسية للبطل، وبشكل يبدو كما لو أنه مقحم على النص دون أن يؤدّي أي وظيفة درامية حقيقية.
بطل الأعمال الدرامية المصرية لهذا العام ليس فقط خارقاً. هو يمتاز بصفة جديدة هي التديّن. يمكننا أن نلاحظ الحضور الواضح للتدين كأحد الملامح الرئيسية لشخصيته، وبشكل يبدو كما لو أنه مقحم على النص دون أن يؤدّي أي وظيفة درامية حقيقية
في "البرنس" تقوم وصية الأب على أساس ديني أخلاقي، وهو تقويم السلوك المنحرف للأبناء، كما أننا نجد البطل شديد التقوى والورع لا ينفك يستشهد بآيات من القرآن الكريم في حديثه، كأن يقول في أحد المشاهد: "ده ربنا بيقول ولا تنسوا الفضل بينكم". هذا ليس استخداماً تقليدياً لإحدى الآيات البسيطة التي يتكرر استخدامها في المشاهد المشابهة، أو كالتي قد تأتي على لسان عامل بسيط، كما أنه ليس سلوكاً عابراً، وإنما يتكرر أكثر من مرة على لسان البطل. في "الفتوة" نعرف أن الذهب الذي تقاتل عليه الفتوات كان في الأصل موهوباً من أحد الأمراء لتعمير مسجد للصلاة، وهي معلومة مجانية ليس لها أي وظيفة درامية، ولو كان الذهب مجرد كنز مجهول المصدر لما تغير في الأمر شيء، ولكن الغرض هو إضفاء هالة من التدين على البطل الذي نسمعه في نهاية أحد المشاهد يقول بشكل مفاجئ: "ما تيجي نروح المسجد نصلي لنا ركعتين، يمكن ربنا يبارك لنا".
في "الاختيار" يبدو الأمر كما لو كان حتمياً، فبما أن العدو هو مجموعة من المتطرفين الذين يقترفون جرائمهم باسم الدين، كان من المنطقي أن يكون الدين حاضراً بصورته المعتدلة أيضاً، غير أن المسلسل بالغ في هذا الأمر إلى حد استجلاب أحد شيوخ الأزهر للدفاع عن ابن تيمية، الذي يلقبه السلفيون بشيخ الإسلام، ويستند إليه المتطرفون في فتواهم. كما بالغ في تصوير هذه الصفة عند البطل الذي نشاهده في أحد المشاهد فور عودته إلى منزله يبسط سجادة الصلاة ويصلي، ثم ينتهي المشهد، أو نسمعه في مشهد آخر يحدّث ابنه عن سيناء فيقول: "دي بقى أحلى مكان في مصر، علشان ربنا قال كده".
النتيجة الطبيعية للمغالاة في مثالية البطل هي شيطنة ند البطل. في مسلسل "البرنس" لم يكتف الكاتب والمخرج محمد سامي بالخلاف بين الإخوة على الميراث كدافع للصراع، وهو الدافع البسيط والمنطقي والواقعي أيضاً، ولكنه تجاوز ذلك إلى تآمر الإخوة لقتل رضوان وزوجته وأطفاله، وبعد فشل هذه المحاولة الشيطانية بامتياز، اجتمع الإخوة مرة أخرى للتشاور في أمر استكمال الجريمة وقتل الأخ والابنة، فتقول أخت رضوان: "أنا هاخدها الحمام أخنقها"، هكذا بكل بساطة يتحول نزاع تقليدي على الميراث إلى هذه الصورة الشيطانية المتطرفة وغير المبررة.
هذه الصورة الحدية للشخصيات، هي انعكاس لاختزال الصراع الدرامي بين الخير المجرد والشر المجرد، وليس بين شخصيات لديها رغبات متضاربة، ومن ثم فإن البطل هو ممثل الخير، وند البطل هو ممثل الشر، تباين شديد الوضوح بين الأبيض والأسود بلا أي درجات رمادية.
البطل مؤمن بالقيم الأخلاقية والفضائل ولا يساوره أي شك ولا ينتابه أي صراع داخلي ومن ثم لا يخطئ على الإطلاق. أما ند البطل فهو على درجة كبيرة من الوعي بالشر الكامن داخله ويحكم بنفسه على أفعاله بأنها غير أخلاقية، أو كما يقول فتحي، الأخ الأكبر في مسلسل البرنس لإخوته أثناء التخطيط لقتل رضوان: "اللي هنعمله صعب، ولا رب ولا دين يوافق عليه". نلاحظ هنا حضور البعد الديني وكيف أن ند البطل (الشرير) يدرك الوزر الديني لأفعاله ليكون المقابل الموضوعي للبطل (المتدين).
الحسبة وشرطة الأخلاق
"وأنا أقول ما قيمة الحرية والديمقراطية في مجتمع سيطر عليه انفلات أخلاقي، وابتعد في تعامله عن قيمه وموروثاته؟ كيف سيعمل هذا الشعب، كيف سيمارس حريته؟ ما قيمة أن نكسب أشياء كثيرة ونخسر أخلاقنا؟ أنا لا أرى إبداعا في ما يوصف بالخارج عن الآداب والخارج عن قيمنا وموروثاتنا".
جاءت هذه الكلمات على لسان الفنان المصري محمد صبحي في لقاء جمع ثلة من الفنانين المصريين بالمرشح الرئاسي في حينها عبد الفتاح السيسي. في اللقاء نفسه عبّر السيسي عن رؤيته لأهمية الفنون ودورها في مواجهة التطرف والتشدد، ولكنه استدرك بأن "الفن فيه مشكلة" كما أشاد بالأفلام الأمريكية قائلاً: "أنا بتوقف قدام الأفلام الأمريكية وألاقي إنهم بيدّو رسايل بيحاولو يصيغو بيها المجتمع بتاعهم، بيحطو ثوابت في حياتهم، بحيث إنها مع التكرار تبقى صورة موجودة في نفوس اللي موجود".
الرقابة الأخلاقية المفروضة على الأعمال الدرامية المصرية لا تعني أن المجتمع مثالي، أو أن "سوسو شريفة وديسمبر شريف" كما يقول فؤاد المهندس في فيلم "أرض النفاق"، وإنما تجسّد التناقض الذي يجد متعة في ممارسة السلطة الأخلاقية على الغير بدافع حماية "الحياء العام"
بعد النجاح في الانتخابات الرئاسية وتقلد السيسي السلطة بشكل رسمي، بدأ النظام في السيطرة الكاملة على المنصات الإعلامية من خلال شركة إعلام المصريين، وبعد عام ونيف من لقاء الفنانين أعرب السيسي عن غضبه من "مسلسلات المخدرات والزنا في رمضان"، لتبدأ مرحلة أخرى من السيطرة على المحتوى الفني عبر مجموعة "سينرجي للإنتاج الفني" المملوكة لتامر مرسي والخاضعة لسيادة شركة إيجل كابتال للاستثمارات المالية، والتي تقوم بإنتاج وتوزيع أهم الأعمال الدرامية والسينمائية لأبرز النجوم ومن بينها الأعمال الأربعة التي تطرقنا إليها في هذا المقال.
وهنا نصل إلى اللحظة الحالية بعد ست سنوات على لقاء السيسي بالفنانين، وكلمة محمد صبحي التي رأى فيها أن مجتمعنا "سيطر عليه انفلات أخلاقي"، واتفق معه الفنان المعتزل لأسباب دينية حسن يوسف والذي تحدث عن "انهيار الأخلاق المصرية"، وكذا كلمة عادل إمام للسيسي التي قال فيها: "إحنا مسلمين كويسين، ونحن نعلم أنك مسلم صالح".
الاتفاق بين السلطة السياسية والفنانين على حاجة المجتمع للتقويم الأخلاقي كان إيذاناً بعودة الدراما التلفزيونية تحت السيطرة بعد فترة ازدهار فني قصيرة أعقبت ثورة 25 يناير 2011، والتحوّل من تناول موضوعات وشخصيات مختلفة وجديدة على الدراما المصرية إلى حالة من التنميط في الموضوعات والشخصيات المغالية في مثاليتها لتقديم صورة المواطن النموذجي كما تراها الدولة: مثالي، متدين، ذو خلق.
كل هذا لا ينفصل عن الرقابة الأخلاقية الصارمة التي يفرضها المجتمع سواء على المنتج الفني نفسه مثلما حدث حينما ثارت ثائرة المجتمع على مسلسل "سابع جار"، لتكون الاستجابة السريعة في إيجاد المقابل الموضوعي والأخلاقي والمثالي له في مسلسل "أبو العروسة"، أو على الفنانين خارج العمل الفني فيتحول تكريم فيفي عبده أماً مثالية لمثار جدل كبير، أو أن يكون ظهور رانيا يوسف في مهرجان القاهرة بفستان لافت أمراً عظيماً يستدعي خروجها على الملأ باكية معتذرة.
كل هذا لا يعني بالطبع أن المجتمع نفسه مثالي أو أخلاقي، أو أن "سوسو شريفة وديسمبر شريف" كما يقول فؤاد المهندس في فيلم "أرض النفاق"، وإنما هو مجرد انعكاس للتناقض المصري الخالص الذي يجد متعة خاصة في ممارسة السلطة الأخلاقية على الغير بدافع حماية المظهر العام، أو على حد التعبير القانوني "الحياء العام"، وهو ما يوافق هوى السلطة السياسية لفرض سلطتها الأبوية بالتبعية، هذه السلطة التي تحمل هي ذاتها تناقضها الخاص.
في الإعلان الدعائي لشركة قطونيل، نرى أماً تشجع ابنها على المذاكرة مستشهدة بتفوق أبيه الدراسي، يسمع الأب المضطجع على الأريكة في الخلفية حديث الأم ويضحك بصورة موحية. يلخص هذا المشهد التقليدي السلطة الأبوية التي تقوم على أساس أخلاقي غير حقيقي، فالأب يعرف أنه لم يكن متفوقاً في الدراسة. أما المفارقة الحقيقية، فهي أن هذا الإعلان تم تصويره بعد منع إعلان سابق تغني فيه ميس حمدان عن الملابس الداخلية لابن الجيران، وهو ما أثار حفيظة المجتمع بالطبع، وبلغ الأمر حد اعتذار الشركة عن الإعلان في بيان رسمي جاء فيه: "ونحن إذ نؤكد حرصنا على الذوق العام والقيم المصرية النبيلة، نؤكد على استمرارنا في تقديم كل ما يتناسب مع مجتمعنا المصري الأصيل".
قبل عشرة أعوام أو يزيد، قرأت مقالاً يتهم المنتج أحمد السبكي بمحاولة تسليف (من السلفية) المجتمع المصري من خلال أفلام مثل "كباريه"، و"الفرح" التي تقدم وعظاً دينياً مباشراً. وبعيداً عن الاختلاف أو الاتفاق مع كاتب المقال، إلا أنني أرى أن الشخصيات التي قدمتها هذه الأفلام هي شخصيات مصرية حقيقية بكل ما فيها من تناقض، بين ما تظهر وما تبطن، وما فيها من نقص بشري يؤهلها بقوة لتكون شخصيات درامية حقيقية، لا أبطال خارقين وشخصيات مثالية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...