رحلت الممثّلة اللّبنانية رينيه ديك (2021-1943) بعد صراع دام عدة سنوات مع المرض، وبعد معاناة مع نقابة الفنانين اللبنانيين وإهمال الدولة لها. فقد خسرت الفنانة القديرة حياتها دون أن تتلقّى المساعدات التي تستحقّها بعد كل ما قدمته للفّن اللبناني.
منذ الصغر تحدّت رينيه الأعراف وتحرّرت من كل القيود التي فرضت عليها بهدف تحقيق أحلامها. رفضت الزواج عقب تخرّجها من المرحلة الثانوية. تركت منزل عائلتها وانتقلت إلى بيروت لتبدأ بمسيرتها الفنية في المرحلة الذهبية التي شهدها لبنان. في الثامنة عشرة من عمرها انتسبت إلى “مدرسة المسرح الحديث” التابعة لإدارة لجنة مهرجانات بعلبك وبدأت بالظهور على خشبات المسرح، فكان دورها الأوّل في مسرحية “الذباب” إخراج منير أبو دبس. والتي لعبت فيها دورين، الأول تمثيلياً والآخر راقصاً. وكشفت من خلالهما عن موهبتها التي جعلتها تستحق مكانها كعضوة فاعلة في الفرقة.
تحرّرت من كل القيود التي فرضت عليها بهدف تحقيق أحلامها. رفضت الزواج عقب تخرّجها من المرحلة الثانوية. تركت منزل عائلتها وانتقلت إلى بيروت لتبدأ بمسيرتها الفنية
لرينيه أعمال عُرضت على المسرح وعلى الشاشة، ستبقى محفورة في الذاكرة وتعيش من بعدها لتشاهدها الأجيال القادمة، ومنها دور “ناردين” في “الإزميل” للكاتب أنطوان معلوف، و”الممرضة مونيكا” في “علماء الفيزيا”، “السيدة” في “الخادمتان”، في نسخة أخرجها التونسي الراحل عبد الرزّاق الزعزاز. كما أنها شاركت في “فيلم أميركي طويل” لزياد الرحباني، و”طيارة من ورق” للمخرجة الراحلة رندا الشهّال.
وخلف الأعمال الفنيّة لرينيه قصص يتشاركها اليوم من أحبّوها، ليعرّفونا من خلالها على جوانب شخصيتها. ومنها القصّة التالية التي كتبها المسرحي علي مطر: “ليست المرة الأولى التي تموت، رينيه ديك. لعل هذه الميتة الأخيرة هي الأرحم. الممثلة الأكثر صدقًا ومرونة، ذات الوجه الأرستقراطي والصوت المائي، لكن ذات الحظ العاثر، التي عنونت صحيفة "الجمهورية" قبل حوالي أربع سنوات عنها: خبر مخزٍ: رينيه ديك “تموت جوعًا”. حياة رينيه ديك تعكس بؤس النظام اللبناني وثقافة اللبنانيين الأنانية. عام 1996، في “زيكو هاوس” مع فادي أبو خليل ورائد ياسين وأنا لعبنا مسرحية “راديو، شعر، وحديث”، إعداد أبو خليل وإخراجه. وضعت رينيه كل خبرتها المسرحية في تلك الغرفة-العلبة. تمثل هذه الممثلة المخضرمة التواضع والقلب الرقيق والتفاني في العمل والتحول إلى عجينة طيعة بيد المخرج المتطلب. كانت مهمومة يومها برعاية أمها العجوز، وقططها الكثيرة “لا أقوى على رؤية قطة متشردة” قالت لنا، ترعاهت ولو تسببت في فوضى ببيتها المتواضع”.
وأضاف: “أخبرتني مرة عن محاولات الانتحار، وقسوة الرجال الذين مروا في حياتها. لكن حاجة أمها لها كانت تمنعها من الذهاب إلى النهاية. لكن أليست كل محاولة انتحار نصف ميتة؟ أليس التهميش والإقصاء والوحدة أصعب من الموت المادي؟ حقوق رينيه ديك ومثيلاتها وأمثالها من الفنانين لم تجر على لسان “بي الكل” مثلًا. بل إن الصنف البشري الذي يقوده ينظر إلى مثيلات رينيه باحتقار وسادية. لو كانت رينيه ديك كندية لكرمت مثلما كرّم ليونارد كوهين ليس أقل من ذلك، لكن في بلاد تحكمها العصابات ستموت رينيه أكثر من مرة قبل أن يأتي الموت الرحيم”.
“أخبرتني مرة عن محاولات الانتحار، وقسوة الرجال الذين مروا في حياتها. لكن حاجة أمها لها كانت تمنعها من الذهاب إلى النهاية".
وكتب الشاعر والاعلامي جوزيف عيساوي عبر صفحته على فيسبوك: “زرتها ببيت أهلها بالمعاملتين عالبحر برفقة الصديق انطوان ابو زيد أواخر التمانينات، بعد نجاة من الانتحار. قلتلها بمزح: شكلو الموت ما بيحبّك رينيه. ابتسمت: بس انا بحبّو.. لولاه ما بقدر مثّل. بعد شوي قالت: هوّي رفيقي عالمسرح حتى لو بكسرلو مناخيرو بس طلّع الأدوار الصعبة. قلتلها: شفتِ ليش ما بدّو ياكِ، مبسوط حاضر معك كدافع لتمثّلي وحاضر كمان بأدوارك التراجيديّة. قولك جوزيف بس يقبل فيّي بيعملّي وليمة عا شرفي؟ ارتاحت هالإنسانة العملاقة بإنسانيّتها وطيبتها من مهنة الحياة. مهنة تعّبتها اكتر من المسرح اللي كان حياتها الحقيقيّة، السعيدة والعميقة. ورغم ندرة الانتاج بسبب الحرب واحتقار الدولة للمسرح خاصة المسرح الحديث والنضيف، ضلّت رينيه تحلم بالخشبة قشّة خلاص من الشرط البشريّ والضجر والحاجة. رينيه ديك مرا بوهيميّة من طراز الغجر الأصليّين وموهبة بيعشقها مخرجي المسرح وجمهورو الذوّيق....”.
رحلت رينيه ديك التي عرّت روحها في أعمالها دون أن تحصّل حقوقها. دون أن تقوم النقابات نفسها التي كانت تطبّل للسلطة ليلة أمس بواجباتها تجاهها. لكن على الرغم من أوجاعها ونجاحاتها والعوائق التي وقفت في دربها تركت رينيه اسمها الذي سيتردّد على خشبات المسارح في لبنان وفي العالم العربي، وليذكّر كل الذين سيطلون من بعدها أنّه كانت هناك امرأة استثنائية شقّت لهم الطريق فعاشت على الخشبة ساعات كثيرة سعيدة لأنها حققت أحلامها بعصاميتها وموهبتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.