في فبراير 2017 قضت محكمة مصرية بسجن الشيخ محمد عبدالله نصر خمس سنوات، بتهمة "ازدراء الأديان"، لإنكاره أحاديث في كتاب البخاري، أحدها عن عذاب القبر، وقوله في برنامج تلفزيوني إن الخلافة الإسلامية خرافة، وإنه المهدي المنتظر. وقضت محكمة استئنافية بتخفيف الحكم إلى سنتين.
والآن يعود الرجل الذي منحه الإعلام لقب "الشيخ ميزو" إلى الواجهة، بتأييد محكمة النقض للحكم، وإيداعها قبل أيام حيثيات الحكم بالسجن. وكان أولى بالقضاء وبالنيابة القائمة بسلطة المحتسب حفظُ القضية، والتوصية بالعلاج النفسي لمقدم البلاغ، وهو محام مهووس بالشهرة، ولعل أجهزة غامضة أو واضحة تستخدمه لإلهاء الناس عن قضايا الاستبداد والغلاء. ولكن القضية الهزلية سلكت مساراً جادّاً.
ربما يكون مفيداً للقراء أن يراجعوا مقالاً نشرتُه في صحيفة "العرب" اللندنية، في 4 أبريل 2017، وعنوانه ("الشيخ ميزو"... من الميدان للسّجن بأمر المهدي المنتظر). ولن أقول إن هذا الشيخ الأعزل يعاقب على خطابه الداعم لمدنية الحكم، ورفضه تسييس الدين استئناساً بشعار "يسقط الشاويش والدرويش"، وتولي منصب المنسق العام لجبهة "أزهريون مع الدولة المدنية" في ظلّ حكم الإخوان. وإنما أقول إن للأحكام القضائية والفتاوى أبعاداً أعمق، وأشدّ تأثيراً، من منطوقها. والأخطر من أخونة نظام الحكم هو تديين القضاء، ولهذا التديين ثمار مرّة، قد تصبح دامية، لنفاق ديني وروح سلفية تمّ استنباتها قبل خمسين عاماً. وفي هذا التديين القضائي إنكار لمدنية الدولة.
يعود إلى الواجهة الرجل الذي سُجن بتهمة تهمة "ازدراء الأديان" ومنح لقب "الشيخ ميزو"
تضمنت حيثيات حكم المحكمة أنها "رأت إثبات التمسك والتشرف بأحكام الإسلام وحدوده، وإن كانت لا تطبق في بلادنا، إلا أن جميع القضاة يقرونها ويقدرونها، حيث ثبت للمحكمة من الأوراق والتسجيلات المقدمة في الدعوى، أن المتهم المفترض به العلم حاصل على شهادة عالية في أصول الدين، قسم الدعوة والثقافة الإسلامية بتقدير جيد، وهو يرتدي الزي الأزهري الكامل"، وإنكاره وجود حدّ في القرآن لبتر يد السارق "يفتح باب التطاول على أركان وحدود الإسلام والتشكيك فيها، وكلٌّ يفسر على هواه، ويأتي يوم "كذا" علينا وعلى من يأتي بعدنا يصعب أن يستنبط الحق من كثرة الباطل والخبيث الذي انتشر، تحت اسم حرية العقيدة والفكر".
المادة الثانية الكارثية في الدستور
الحكم يحتج بالمادة الثانية الكارثية في الدستور. وما وراء منطوق الحكم أكثر خطراً. استندت محكمة فرّقت بين الدكتور نصر حامد أبوزيد وزوجته الدكتورة ابتهال يونس، عام 1995، إلى هذه المادة الموجهة إلى المشرّع لا إلى القاضي. وأدى الحكم إلى مغادرتهما مصر، خشية قيام أحمق باغتيال باحث قضت المحكمة بأنه مرتد.
وكان فرج فودة قد اغتيل، عام 1992، بفتوى أهدرت دمه، وشهد محمد الغزالي في المحكمة بأن فودة "كافر ومرتد... ويجوز أن يقوم أفراد الأمة بإقامة الحدود عند تعطيلها، وإن كان في هذا افتئات على حق السلطة، ولكن ليس عليه عقوبة". ونجا نجيب محفوظ، عام 1994، من القتل، بفتوى لعمر عبدالرحمن.
حكم هجين... لا هو مدني ولا ديني ولا عسكري
عمامة على بدلة عسكرية
استبسل ممثلو اليمين الديني في لجنة كتابة دستور 2014 في رفض سطر واحد، في ديباجة الدستور، يقول إن مصر "دولة مدنية"، وجرى التوافق على أن مصر "حكومتها مدنية". وكانت النتيجة هي ما نشهده من حكم هجين، يصعب توصيفه، فلا هو مدني ولا ديني ولا عسكري، وإنما هو ذلك كله بأنصبة تتفاوت من وقت إلى آخر، ومن موقف إلى ما يليه.
قد توضع عمامة على بدلة عسكرية، وأحياناً يلوح الكاب فوق زي سلفي، والخطاب السياسي الرسمي أحياناً يعزّز قولي. والحكم الخاص بالشيخ ميزو لا تنقصه إلا عمامة وامتشاق سيف. وليس أنسب في هذا السياق من كلمة "امتشاق"، لدلالتها على مقتضى الحال.
المادة 64: "حرية الاعتقاد مطلقة"؛ المادة 65: "حرية الرأي والفكر مكفولة"؛ المادة 66: "حرية البحث العلمي مكفولة". ولكن حيثيات الحكم ترى أن حرية الفكر لا تجيز "لمن يجادل في دين من الأديان بأن يمتهن حرمته أو يحط من قدره أو يزدريه عن عمد منه
لا أظن حيثيات حكم قضائي انتهجت هذا الأسلوب اللائم، المعتذر إلى الله عن عدم تطبيق "أحكام الإسلام". وإذا كانت القضية حرب نصوص دستورية، يجادلون فيها بنصّ المادة الثانية: "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، ففي الدستور نصوص لعلّها تُدخل أقوال الشيخ في باب حرية الاجتهاد.
أوهام "إثارة الفتنة المجتمعية"
المادة 64: "حرية الاعتقاد مطلقة"؛ المادة 65: "حرية الرأي والفكر مكفولة"؛ المادة 66: "حرية البحث العلمي مكفولة". ولكن حيثيات الحكم ترى أن حرية الفكر لا تجيز "لمن يجادل في دين من الأديان بأن يمتهن حرمته أو يحط من قدره أو يزدريه عن عمد منه، ويحتمي بحرية الاعتقاد، وأن المتهم أراد بهذه التصريحات إثارة الفتنة المجتمعية".
مدنية الدولة تنسف أوهاماً لا وجود لها إلا في عقول تعادي الحداثة. من هذه الأوهام "إثارة الفتنة المجتمعية"، وبعد بلاغ المحامي المجنون بالشهرة، ولم تُسجل شكوى من مواطن آذته أقوال الشيخ ميزو، وأصابته أعراض "الفتنة المجتمعية" أو غير المجتمعية. حتى لو انزلق ميزو وغيره، مدفوعين بحبّ الشهرة إلى ما تراه المحكمة امتهاناً لأحكام الدين، فإنهم جديرون بالتجاهل، شأنهم شأن الخائضين في آيات الله، وقد نصح القرآن بالإعراض عنهم "حتى يخوضوا في حديث غيره".
ولا أظن مسلماً يسوؤه ما استقرّ، منذ مئة عام، من نسف خرافة الخلافة الإسلامية، أو إنكار عذاب القبر، أو ادعاء أحد بأنه المهدي المنتظر، أو أنه إله.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...