عندما كشف نيكي سبارجٍن في فيلمه "فوكوس" (2015) لشريكته عن سر نجاحه في مهنته بالنصب والاحتيال على كبار الأغنياء من تجار مخدرات ومتنفذين وغيرهم، أخبرها أنه يعتمد على "الاحتيال" على الذاكرة البصرية للأشخاص الذين هم هدفه، وقدم لها عدة أمثلة على ذلك، من بينها أنه يقوم باستخدام صور لأشخاص أو أرقام أو غيرها يشاهدها "الهدف" بشكل متكرر دون أن يعي أنه يراها، بحيث يجدها في كل مكان يكون فيه، ومن جراء ذلك التكرار تصبح تلك الصور مغروسة في ذاكرته البصرية، باللاوعي خاصته، وبما أنها تستوطن في الذاكرة البصرية للهدف، فإنه شبه مستحيل أن ينساها.
هذا كان سر نجاح سبارجِن، الذي أدى دور شخصيته الفنان ويل سميث، في عمليات نصبه واحتياله، إلا أن أسلوب استهداف الذاكرة البصرية لم يفلح مع الأردنيين، فبالرغم من أن الاستعدادات للاحتفال بمئوية الدولة الأردنية في 11 نيسان/ أبريل سبقتها تحضيرات منذ قرابة الأربعة شهور شملت عدة أشكال، أهمها الصور واللافتات في الشوارع، تلتقطها عيون المارة من مشاة وسائقين بحيث أصبحت وجبة بصرية يومية اقتحمت الذاكرة بقوة، إلا أن الأحداث الأخيرة التي مرت على الأردنيين سببت خضة قوية تفوقت على كل أنماط استهداف الذاكرة البصرية، وجعلتها تضع الاحتفال بحدث تاريخي وطني لا يحدث إلا كل قرن على الرف، حيث كان احتفال الأردنيين بمئوية دولتهم بلا طعم ولا لون ولا رائحة.
وقبل استرجاع تلك الأحداث التي قلبت موازين توقعات سابقة، تحديداً أثناء التحضيرات لهذا اليوم منذ شهور، بأن مئوية الدولة ستكون الحدث الأعظم الذي يشغل بال الأردنيين، لا بد من التعريف بمعنى مئوية الدولة الأردنية، ففي هذا اليوم يحتفل الأردن بمرور 100 عام على تأسيس دولته، التي بدأت بوصول الأمير عبد الله بن الحسين الأول إلى عمّان في العام 1921 وإعلانه من هناك تأسيس إمارة شرق الأردن، تلاه تأسيس أول حكومة في نفس العام برئاسة رشيد طليع.
بالرغم من أن الحكومة الأردنية قدمت "هدية" للشعب هي عطلة رسمية بمناسبة مئوية الدولة، وبالرغم من أن الديوان الملكي الهاشمي أجاب على تساؤلات الأردنيين: "وين الأمير حمزة"، لا يزال هاشتاغ #وين_الأمير_حمزة والتفاعل بما جرى من أخبار خلال اليومين الماضيين متفوقين على الذاكرة الحسية والبصرية للأردنيين
ومن أهم المحطات التي شهدها الأردن عقب تأسيس دولته، انتخاب المجلس التشريعي في العام 1929، واستقلاله وإعلان انتقاله من الإمارة إلى المملكة الأردنية الهاشمية في العام 1946، من ثم صدور أول دستور في عهد الاستقلال عام 1947.
بالتأكيد لم يكن على البال ولا على الخاطر أن يضع الأردنيون الاحتفال بمئوية دولتهم على الرف والانشغال بأمور أخرى. فبحسب التوقعات السابقة، حتى إنْ لم يتم الاحتفال بهذه المناسبة الوطنية بسبب ظروف فيروس كورونا وتفاقم الأزمة الصحية وظروف حظر التجول في الأردن، سيتم الاحتفال بها على مواقع التواصل الاجتماعي، لا أن يكون وسم #وين_الأمير_حمزة متصدراً موقع "تويتر" منذ قرابة خمسة أيام، رغم محاولات تغذية وسم #مئوية_الدولة_الأردنية.
وبالرغم من أن الحكومة الأردنية قدمت "هدية" للشعب هي عطلة رسمية بمناسبة مئوية الدولة، وبالرغم من أن الديوان الملكي الهاشمي أجاب على تساؤلات الأردنيين: "وين الأمير حمزة" عندما ظهر الأمير بصحبة العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني وأمراء آخرين في صورة تجمعهم لدى زيارة الأضرحة الملكية ظهر الأحد، لا يزال هاشتاغ #وين_الأمير_حمزة والتفاعل بما جرى من أخبار خلال اليومين الماضيين متفوقين على الذاكرة الحسية والبصرية للأردنيين.
تفوّقت تلك الأخبار على كل خبر لا يتعلق بالأمير حمزة بن الحسين، أو كما يلقبه أردنيون "أمير القلوب"، عندما انتشر يوم الجمعة الماضي فيديو جديد سجله الأمير في وقت سابق، تحديداً قبل عامين، يوثق فيه تعرضه لمحاولة تجسس من قبل ضابط أردني يعمل في الحرس الملكي الخاص للعاهل الأردني، قبل أن يكشفه مرافق الأمير ويشي به عاملون في الفندق الذي تواجد فيه مع عائلته في إحدى الدولة الأوروبية.
الفيديو الذي تم تسريبه استفز الأردنيين، مثله مثل الفيديوهات والتسجيلات الصوتية الذي سبقته وتم تسريبها "دون معرفة مَن قام بذلك" على مواقع التواصل الاجتماعي، منذ الإعلان عن أزمة الأمير حمزة مع أخيه الملك قبل أسبوعين، إذ منذ ذلك الوقت لا يمر يوم أو يومان إلا ويتم تسريب تسجيل، يتفاعل معه الأردنيون بقوة، بل ينتظرون في كل ليلة تسريب فيديو جديد.
وتخللت الأخبار "الطازجة" خلال الأيام الماضية، والتي أرقت الأردنيين وجعلتهم يسهرون حتى ساعات الفجر الأولى، كما يلحظ المتتبع لمواقع التواصل الاجتماعي، نشر مقال رأي للكاتب والمحلل السياسي الأردني فهد الخيطان، تحت عنوان: "خمس حقائق حول الفتنة ورموزها" تطرق فيه إلى مفاصل خطيرة تتعلق بالتحقيقات التي تجرى حول مزاعم عن نوايا إحداث انقلاب على حكم الملك عبد الله الثاني، واللافت أن تطرق الكاتب لهذه المفاصل يتنافى مع قرار مدعي عمّان حظر النشر في قضية الأمير حمزة إلا بما يخص حرية التعبير عن الآراء، لا التطرق إلى معلومات تخص التحقيقات.
تخللت الأخبار "الطازجة" خلال الأيام الماضية، والتي أرقت الأردنيين وجعلتهم يسهرون حتى ساعات الفجر الأولى، نشر مقال رأي للكاتب والمحلل السياسي الأردني فهد الخيطان تطرق فيه إلى مفاصل خطيرة تتعلق بالتحقيقات التي تجرى حول مزاعم عن نوايا إحداث انقلاب على حكم الملك عبد الله الثاني
ومما أشار إليه الخيطان في مقاله: "كان الاعتقاد الأولي بأن رموز الفتنة عملوا على توظيف الأمير لتحقيق مآربهم، لكن المعلومات الاستخبارية التي جرى جمعها على مدار أشهر تشير بوضوح إلى دور مختلف للأمير وانخراط كامل في عمليات التحضير لساعة الصفر"، وهنا يلمح الكاتب بساعة الصفر أي "الانقلاب".
وبدلاً من أن يسهر الأردنيون في ليلة مئوية دولتهم، سهروا في إحداث "قصف إلكتروني" على مقال الكاتب الخيطان، مع تضمين القصف لهاشتاع #وين_الأمير_حمزة، مثلما جاء في تغريدة نشرها الناشط مد الله النوارسة ووصف فيها المقال بأنه "كارثي".
فيما وصف الناشط سيف الرواشدة المقال في تغريدته بـ"المقلق جداً جداً"، وكتب: "قانوناً يجب أن يحاسب الكاتب لنشر تفاصيل واتهام واضح للأمير، المقال مخيف فيه من الفتنة ما فيه، والله أعلم أنه تمهيد لشيء قادم بحق الأمير حمزة كمحاكمة أو ما شابه".
ولأن كفة ميزان الاهتمام انحازت إلى قضية الأمير حمزة بن الحسين على الاحتفال بالمئوية، تحدث رصيف22 مع الأخصائية الاجتماعية والنفسية الدكتورة عصمت حوسو، وسألها عن البعد النفسي والاجتماعي لما يحدث في بال الأردنيين الذين أعطوا أولوية لزحمة أخبار وتطورات الأمير حمزة على الاحتفال بيوم وطني، خصوصاً أن الشعب الأردني معروف بوطنيته، فأجابت: "بالرغم من أن حدثاً كهذا لا يحصل إلا كل 100 عام لم يُتَح للأردنيين الاستمتاع به، ليس فقط بسبب انشغالهم بموضوع الأمير حمزة بل لأنه ليس من المعقول ولا المقبول أن يحتفلوا، والكثيرون منهم جائعون، وهم غير قادرين على تأمين قوت يومهم بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمرون بها من جراء تبعات كورونا".
وأضافت: "المواطن الأردني اليوم مثقل نفسياً بالأحداث الأخيرة، فمئوية الدولة تزامنت مع حدث سبب ألماً للشعب الأردني أكثر مما سبب لأصحابه وهو موضوع الأمير حمزة الذي يتمتع بحب شعبي، والأردنيون غير قادرين، لا على الصعيد النفسي ولا الاجتماعي والاقتصادي، على تركيز بوصلة اهتمامهم على أي احتفال حتى لو كان يخص وطنهم الذي يعشقونه".
وفي تغريدة ساخرة للمغرد الأردني أبو كمال تكشف حجم انشغال الأردنيين بموضوع الأمير حمزة، وبقاءهم مستيقظين حتى ساعات متأخرة بانتظار أي تسريب لفيديو أو تسجيل صوتي هنا أو هناك، جاء: "في أي تسريبات ولا ننام خفاف الليلة؟".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين