"مدينة كبيرة في حالة جيدة من الحفظ، بجدران شبه مكتملة، وغرف ملأى بأدوات الحياة اليومية، وقد بقيت الطبقات الأثرية على حالها منذ آلاف السنين، وتركها السكان القدماء كما لو حصل ذلك بالأمس".
هكذا وصفت بعثة أثرية مصرية، يترأسها عالم المصريات المخضرم زاهي حواس، أحدث كشف أثري في البلاد: "المدينة الذهبية المفقودة" تحت الرمال، والتي اصطلح على تسميتها "صعود آتون".
علماً أن الهدف الأول من هذا العمل كان العثور على المعبد الجنائزي الخاص بالملك توت عنخ آمون بعد اكتشاف معبدي الملكين "حورمحب" و"آي".
مركز ثلاثة من أعظم الملوك
وفق بيان البعثة، الذي نُشر في 8 نيسان/ أبريل، فإن المدينة التي تأسست في عهد الملك أمنحتب الثالث (حكم بين عامي 1391 و 1353 ق.م)، واستمر استخدامها من قبل توت عنخ آمون وخلفه الملك "آي"، هي "أكبر مدينة قديمة عُثر عليها على الإطلاق" من إرث المصريين القدماء.
تقدم "لمحة نادرة عن حياة قدماء المصريين في عصر الإمبراطورية"... بعثة مصرية تعثر على "المدينة الذهبية المفقودة - صعود آتون" التي تمثل "ثاني أهم كشف أثري" بعد مقبرة توت عنخ آمون المكتشفة عام 1922
كما أنها كانت "أكبر مستوطنة إدارية وصناعية" في عصر الإمبراطورية المصرية على الضفة الغربية للأقصر، على بعد 500 كيلومتر جنوب العاصمة القاهرة. و"أمنحتب الثالث" هو أحد أعظم حكام مصر، وكان الملك التاسع في الأسرة الثامنة عشرة وازدهر عصره الممتد أربعة عقود ببذخه وعظمة آثاره، وليس أدل على ذلك من تمثالي ممنون، وهما تمثالان حجريان ضخمان له ولزوجته قرب الأقصر.
وعقب أسابيع من أعمال التنقيب التي انطلقت في أيلول/ سبتمبر من العام الماضي، بدأت تشكيلات من الطوب اللبن في الظهور من جميع الاتجاهات، ما أدهش البعثة الأثرية. ومع استمرار التنقيب سبعة أشهر، كُشفت عدة أحياء، بما في ذلك مخبز كامل بأفران وخزائن فخار، وأحياء إدارية وسكنية. وعُثر على منازل يصل ارتفاع بعض جدرانها إلى نحو ثلاثة أمتار وتقسيم المدينة إلى شوارع.
وتشير المراجع التاريخية إلى أن المدينة كانت تتألف من ثلاثة قصور ملكية للملك أمنحتب الثالث، إضافة إلى المركز الإداري والصناعي للإمبراطورية.
أختام أمنحتب الثالث
وفيما سعت البعثة لتحديد تاريخ المدينة، ظهر العديد من الاكتشافات الأثرية التي تدل على الحقبة التاريخية التي وجدت فيها. ومن ذلك: نقوش هيروغليفية على أغطية خزفية لأواني النبيذ، والخواتم والجعارين والأواني الفخارية الملونة، والطوب اللبن الذي يحمل أختام الملك أمنحتب الثالث "نب ماعت رع" أي "سيد العدالة هو رع".
"مدينة كبيرة في حالة جيدة بجدران شبه مكتملة، وغرف ملأى بأدوات الحياة اليومية، وقد بقيت الطبقات الأثرية على حالها منذ آلاف السنين، وتركها السكان القدماء كما لو حصل ذلك بالأمس"
عُثر داخلها أيضاً على جدران متعرجة وهي من العناصر المعمارية النادرة في العمارة المصرية القديمة، وقد برزت بشكل أساسي في نهاية الأسرة الثامنة عشرة.
عُثر كذلك على إناء يحتوي على جالونين من اللحم المجفف كُتب عليه: "السنة 37، لحوم مسلوقة لعيد حب سد الثالث من جزارة حظيرة ‘خع‘ التي صنعها الجزار إيوي". تبرهن هذه المعلومات القيمة على أن المدينة كانت نشطة وتحدد فترة مشاركة الملك أمنحتب الثالث الحكم مع ابنه إخناتون (آخر ثماني سنوات من عهده).
وكُشف عن مدفن كبير لم يُحدد مداه بعد، لمقابر منحوتة في الصخور بأحجام مختلفة يمكن الوصول إليها عبر سلالم منحوتة في الصخر، تشترك في بعض سماتها مع تلك المقابر في وادي الملوك ووادي النبلاء. و"تتوقع البعثة العثور على قبور مليئة بالكنوز لم تمسها أيدٍ"، وفق بيانها.
ما أهمية الكشف؟
يأتي هذا الكشف في وقت تسعى السلطات المصرية إلى استعادة النشاط السياحي الذي هو المصدر المهم للدخل القومي للبلاد الذي تأثر بالاضطرابات السياسية والأمنية المتلاحقة منذ ثورة 25 يناير عام 2011. قبل أيام، أبهر العالمَ "الموكبُ الملكي" لنقل مومياوات 22 ملكاً وملكة من متحف إلى آخر.
"تتوقع البعثة العثور على قبور ملأى بالكنوز لم تمسها أيدٍ"... العثور على "أكبر مستوطنة إدارية وصناعية" من إرث المصريين القدماء يُنعش الآمال بحل "أحد أعظم الألغاز في التاريخ"
لكن القيمة التاريخية لهذا الكشف للمدينة المفقودة تتعدى الترويج للحضارة المصرية القديمة. قالت بيتسي بريان، أستاذة الفنون والآثار المصرية بجامعة جون هوبكنز الأمريكية، إن المدينة المفقودة تعد "ثاني أهم اكتشاف أثري" بعد اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون عام 1922.
بدوره، قال حواس: "لدينا الكثير من المعلومات حول المقابر والمعابد، ولكن هذه هي المرة الأولى التي تُكشف فيها أسرار عن حياة ملوك العصر الذهبي لمصر".
ورجحت البعثة الأثرية أن استمرار التنقيب "يكشف النقاب عن معلومات ستغير التاريخ، وتعطينا نظرة ثاقبة فريدة عن عائلة توت عنخ آمون". وشددت على أن اكتشاف المدينة المفقودة يقدم "فهماً أعمق للحياة اليومية للمصريين القدماء من حيث أسلوب بناء وديكورات المنازل والأدوات التي استخدموها وكيفية تنظيم العمل".
وتؤكد هذه المدينة على البراعة المعمارية للمصريين القدماء إذ جاءت مقسمة بشكل منظم. على سبيل المثال، عُثر في جزئها الجنوبي على المخبز ومنطقة الطهو وأماكن إعداد الطعام كاملة مع الأفران وأواني التخزين الفخارية، ويبدو من ذلك أن عدداً كبيراً من العمال والموظفين كانوا يستفيدون من ذلك.
المنطقة الثانية المكشوف عنها جزئياً عبارة عن الحي الإداري والسكني إذ ضمت وحدات أكبر ذات تنظيم جيد، كما أنها مسيّجة بجدار متعرج، مع نقطة دخول واحدة تؤدي إلى ممرات داخلية ومناطق سكنية.
وكانت المنطقة الثالثة مخصصة لورش العمل، فظهرت في أحد جنباتها منطقة إنتاج الطوب اللبن المستخدم لبناء المعابد والمنشآت. كما عُثر على أدوات مستخدمة في النشاط الصناعي مثل أعمال الغزل والنسيج، وركام المعادن والزجاج، فيما لم تُكتشف المنطقة الرئيسية لمثل هذا النشاط بعد.
وفيما عُثر على دفنتين غير مألوفتين لبقرة أو ثور داخل إحدى الغرف، اكتشفت دفنة رائعة لشخص ما بذراعيه ممدودتين إلى جانبه، وبقايا حبل ملفوف حول ركبتيه، ويعدّ موقع هذا الهيكل العظمي ووضعه غريبين نوعاً ما، ويجري المزيد من البحث حول هاتين الملاحظتين حالياً. علماً أنه كُشف عن ثلث المدينة فقط حتى الآن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...