شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"لكنه صاحب فكرة سيارة للشعب!"… بروباغندا النازية التي لا تزال حاضرة بيننا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 8 أبريل 202101:29 م

أكاد أجزم أن لأغلب من عاشوا في سوريا قصّة أو ذكرى مع رموز أو شعارات ألمانيا النازية وقائدها أدولف هتلر، التي انتشرت ولا تزال تنتشر دونما ضوابط في أنحاء البلاد وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، بأشكال مختلفة.

هنالك من مروا يوماً بجانب جدار يحمل رسم الصليب المعقوف–وهو الشعار المعروف الذي تبناه حزب العمال القومي الاشتراكي الألماني– أو أدوا "التحية الرومانية" المتمثلة بمد الذراع الأيمن إلى الأمام مع انحراف قليل نحو السماء والتي تبناها النظام النازي أيضاً وباتت مرتبطة به أكثر من أي حركة أو تنظيم، قديم أو معاصر، في مدارسهم. هناك من يذكرون كيف كانوا، عندما يتصفحون مواقع التواصل الاجتماعي– فيسبوك تحديداً– يرون اقتباسات عديدة، صحيحةً كانت أو خاطئة، منسوبة لمؤسس الحزب النازي أدولف هتلر (1889-1945).
وقد نشرتُ حديثاً مقالاً باللغة الإنكليزية عن ظاهرة الانتشار غير المضبوط لرموز الحزب النازي ومقولات منسوبة إلى هتلر في سوريا ولبنان، على سبيل المثال لا الحصر، بناء على تجاربي الشخصية في سنوات المدرسة، والجامعة، والكشافة، والعمل، في معرض ذكري قصصاً وتجارب لي ولأصدقائي.

معظم الردود التي تبعت نشر المقال، في 17 آذار/مارس 2021، أكدت لي أن الظاهرة لم تقتصر عليّ وعلى معارفي. انهالت عليّ الصور والأمثلة من عدد من السوريين واللبنانيين وأناسٍ من دولِ أخرى، مؤكدةً مدى انتشار هذه الظاهرة المؤسفة. لكن بعض الردود أبرزت أن إشكالية أساسية لا تزال منتشرةً في المنطقة، حتى بين من لا يؤيدون هتلر أو النازية، ولا ينكرون الهولوكوست أو يهلّلون لها، وهي المبالغة الشديدة والمغلوطة في توصيف تحسّن أحوال الألمان خلال السنوات الست الأولى من الرايخ الثالث الذي امتدّ منذ تعيين هتلر مستشاراً للبلاد عام 1933 إلى خسارة ألمانيا الحرب العالمية الثانية وانتحار هتلر عام 1945.
حتى بين من لا يؤيدون هتلر أو النازية، ولا ينكرون الهولوكوست أو يهلّلون لها، هنالك مبالغة شديدة ومغلوطة في توصيف تحسّن أحوال الألمان خلال السنوات الست الأولى من الرايخ الثالث الذي امتدّ منذ تعيين هتلر مستشاراً للبلاد
بالطبع، ليس السوريّون أو سكان الشرق الأوسط وحدهم من وقع فريسة هذا الاعتقاد، الذي تمكنت آلة الدعاية السياسية النازية من ترسيخه في أذهان الناس داخل ألمانيا وخارجها، في وقتٍ كان وزير الدعاية، يوزف غوبلز، يترأس جهازاً رائداً في مجال البروباغاندا على مستوى العالم.
لا يزال كثرٌ يستسهلون توجيه نزعات "عبادة الشخصية" (الـ Führerkult بحالة هتلر) تجاه من يرون فيه "قائداً عظيماً"، و "زعيماً وطنياً قوياً"، و"معادياً للإمبريالية"، وغيرها من الأساطير المحيطة بالديكتاتور ومجرم الحرب النازي. تقتصر معرفة الكثير ممن يكرّر هذه التعليقات على مشاهدتهم مقاطع فيديو تظهر كاريزما الزعيم النازي، وعلى معلوماتٍ منوعة قد تبهر البعض مثل تصميم هوغو بوس للباس الجنود الألمان، وكون سيارة فولكس فاغن هي من منتجات العهد النازي وفكرة هتلر شخصياً، وهو ما سأخوض فيه لاحقاً.
لكن ليس أولئك فقط من يؤمنون بأن هتلر أتى من منطلق استرداد مكانة بلاده وإعمار اقتصادها واسترجاع سيادتها بعد الكساد الكبير وبعد فرض نير معاهدة فيرساي عليها. بين الأسباب التي يذكرها من تسمح لهم قلة معرفتهم بتاريخ ألمانيا النازية والحرب العالمية الثانية بنظرة تشوبها السطحية، هو أن السنوات الست الأولى من الرايخ الثالث شهدت تحسناً عظيماً في أحوال الألمان، وثورة صناعية واقتصادية كبرى قادت إلى استرداد عظمة ألمانيا.
من الصحيح أن الموجة التي ركبها هتلر وحزبه كانت حالة الامتعاض العام التي لحقت بجمهورية فايمار (دولة ألمانيا منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918 حتى استلام هتلر عام 1933) نتيجة الكساد ونتيجة بنود معاهدة فيرساي، التي تم توقيعها في 1919 وجردت ألمانيا من أراض واسعة مع سكانها، وحملتها رسمياً ذنب إشعال فتيل الحرب العالمية الأولى، وألزمتها بجبر الضرر للحلفاء من خلال تقديم تعويضات متعددة، وغيرها من البنود التي شجبها الألمان. أوصلتهم هذه الموجة إلى سدّة الحكم بطريقة شرعية عام 1933 (كانت هناك محاولة انقلاب فاشلة في 1923 في ميونخ حاول خلالها النازيّون بقيادة هتلر اقتحام مبنى وزارة الدفاع البافارية. لم يحدث لها مثيل في الغرب حتى قيام أنصار الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، باقتحام مبنى الكونغرس الأمريكي في 6 كانون الثاني/يناير 2021).

في المجلّد الأول من كتابه "سنوات هتلر" الذي يحمل اسم "الانتصار 1933-1939" (صادر عن Head of Zeus عام 2019)، يقدّم أحد أهم مؤرّخي ألمانيا المعاصرين، فرانك مَكْدُونَه، تأريخاً كرونولوجياً مفصّلاً للسنوات الستّ الأولى التي بداية الحرب العالمية الثانية في أيلول/سبتمبر 1949، عندما غزا الجيش الألماني النازي (فيرماخت) بولندا.
مثله مثل الكثير من الأحزاب الديكتاتورية، التي تدّعي أخذها تحسين أحوال العمال والفلاحين وباقي الفئات الكادحة على عاتقها إذا ما تولّت زمام حكم البلاد التي تنشط فيها– كحزب البعث في سوريا مثلاً– لم تكن ثمار الحزب النازي قبل الحرب العالمية الثاني مواتية لأولئك الكادحين، كما بقي المواطن الألماني على حال أسوأ بكثير مما هو عليه في المملكة المتحدة أو في الولايات المتحدة.
في 'المقارنة الدولية للدخل الوطني' للعام 1938 التي أجراها الباحث الاقتصادي الأنغلو-أسترالي، كولن كلارك، وذكرها مَكْدُونَه في كتابه، بيّن كلارك أن مستوى معيشة الألمان في ذلك العام كان أدنى بنسبة 50% مما هو عليه في الولايات المتحدة، وبـ 30% مما هو عليه في المملكة المتحدة. يذكر كتاب "سنوات هتلر" أيضاً أن معظم مصاريف الألمان كانت على الغذاء، مستهلكين أربعة أضعاف كمية الخبز بالمقارنة مع الأمريكيين، وضعفي كمية البطاطا، وأن بدل الإيجارات الشهرية بلغ حوالى 12% من دخلهم.

أما بالنسبة للعاملين في القطاع الزراعي والصناعي، وهم الفئة الشعبية التي استهدفها الحزب النازي بشكل أساسي في أدبياته، كما تفعل الأحزاب الشعبوية والديكتاتورية عادةً من خلال الوعود التي يتبين فراغها لاحقاً بتحسين أحوالهم، تظهر الأرقام ليس فقط تحسناً غير بارز في مستواهم المعيشي بالمقارنة مع دول متقدمة أخرى، ومع ما كان حالهم عليه في جمهورية فايمار، بل انخفضت في الكثير من الحالات. يقول مَكْدُونَه في كتابه: "من 1932 إلى 1938، انخفضت الأجور المدفوعة بالساعة للعمال غير المهرة بنسبة 3%، في حين زاد عدد الساعات التي يعملونها كل أسبوع بنسبة 15.2%. ما يعني أن معظم العمال الألمان باتوا يعملون ساعات أطول لقاء أجورٍ أكثر انخفاضاً."  
من المعلومات التي كان من المُثير للدهشة انتشارها بين طلاب مدارس لم يبلغوا سنّ المراهقة بعد، أنّ سيارة فولكسفاغن الألمانية الشهيرة كانت واحداً من مشاريع هتلر، وهو أمر صحيح. منذ كان عمري حوالى 14 عاماً، ومن ثم عندما بدأت بتعلّم اللغة الألمانية في المرحلة الثانوية، وأنا أسمع عن كيف أراد الزعيم النازي إنشاء سيارة ذات مواصفات عالية يمكن للمواطن الألماني العادي اقتناؤها وقيادتها، وأن تسميتها بسيّارة الشعب جاءت من هذا المنطلق: "Volk" بمعنى شعب؛ "Wagen" بمعنى "سيارة"؛ تجتمعان بكلمة مركبة واحدة ويفصل بينهما حرف "S" الدال على الملكية.
تصنيع سيارة الشعب كان أحد أحلام هتلر منذ البداية. لكن هل كانت الفولكسفاغن فعلاً سيارة يستطيع المواطن الألماني العادي اقتناءها؟ يقول مَكْدُونَه أنّ 1,271,000 ألمانياً من أصل نحو 68,000,000 فقط كانوا يملكون سيارة عام 1938. في حين أن 1,000,000 بريطاني كانوا يمتلكون سيارات قبل ذلك بستّ سنوات. كان ملاك السيارات، حتى تلك اللحظة، ممن يكسبون أعلى الأجور في البلاد (عام 1936 كان أجر 62% من العمال السنوي أقل من 1,500 مارك، في حين أن سعر الفولكسفاغن الأكثر طلباً 1,600 مارك– من المهم التنويه أيضاً إلى أن مصاريف السيارة بلغت حوالى 67,65 ماركاً في الشهر؛ أي أكثر من نصف الراتب الشهري الوسطي لـ 62% من العمال الألمان).
تصنيع سيارة الشعب كان أحد أحلام هتلر منذ البداية. لكن هل كانت الفولكسفاغن فعلاً سيارة يستطيع المواطن الألماني العادي اقتناءها؟ يقول مَكْدُونَه أنّ 1,271,000 ألمانياً من أصل نحو 68,000,000 فقط كانوا يملكون سيارة عام 1938، من أساطير شعبية هتلر.
أما لمن لا يستطيعون دفع المبلغ كاملاً، أتاح النظام النازي إمكانية تقسيطها، ولكن حتى ذلك لم يكن مواتياً للأغلبية الساحقة من السكان، واستغرق حوالى ثلاث سنوات للحصول على سيارة، وأكثر من ذلك بكثير لإيفاء أقساطها. لم يزد عدد السيارات التي تم طلبها من خلال هذا البرنامج عن 270,000، بحسب مَكْدُونَه، ولم يتم تسليم سوى القليل فقط منهم.
النظرة السطحية لأحوال الناس في الديكتاتوريات لا تنحصر فحسب بألمانيا النازية، التي شهدت تحسناً طفيفاً فقط في فترة الكساد الكبير. عشرات الناس في لبنان أخبروني مراراً وتكراراً كيف أنه لم يكن من حقّ السوريين الانتفاض في وجه نظام الأسد عام 2011 لأن سوريا كانت "متقدمة اقتصادياً" و"تقدم التعليم والطبابة مجاناً" و"محققة للاكتفاء الذاتي". كما أن كثيرين ينظرون بسطحية إلى عملية إعادة إعمار بيروت التي قادها رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، بعد الحرب الأهلية اللبنانية، على أنها ثورة نهضوية. في كلتا الحالتين، والعشرات غيرها من أصقاع الأرض، يتناسى مردّدو هذه العبارات، التي قد تكون صحيحة جزئياً، النظر في سياقها التاريخي، وشكل تطبيقها العملي، ومتانة ونوع الأرضية التي بنيت عليها.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image