حكي لي أبي ذات مساء حكاية تدور أحداثها حول ناقة طيبة قُتلت ظلماً فداءً لصاحبها، ثم تحررت روحها وتجسدت في هيئة امرأة قامت بالثأر. شغلتني تلك الحكاية على نحو خاص، ودفعتني للتساؤل: "هل تعود الأرواح مجدداً للحياة في أشكال مُغايرة؟" أكد لي أبي أن هذا يحدث فقط مع الأرواح التي حُصدت قبل أن تنتهي مهمتها في الحياة أو تلك التي قُتلت ظلماً. بدا لي الأمر مشابهاً للأرواح الشريرة أو الطيبة التي انتشرت قصصها في أفلام الرعب. غير أنني لم أكن مرعوباً من تلك الفكرة على الإطلاق، بل انشغلت في التفكير بالأرواح نفسها: أين هي؟ وما وظيفتها؟ وهل حقاً يمكن لها الانتقال من جسد لآخر؟
في فترة انضمامي للجماعة الإسلامية طرحت تلك التساؤلات على شيخي، فأجاب: "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا". هذه ليست بإجابة قاطعة، فأنا أسأل الشيخ الذي يعرف كلام الرب ثم يخبرني بأن الرب يعرف ولا يريد لي أن أعرف بدوري. وإن كنتُ قليل العلم، أليس من الأولى بي أن يزيدني علماً؟ تلك الأسئلة أثارت غضب شيخي. فأحياناً يكون السؤال محرّم ومدخل من مداخل الشيطان، ثم أرجع ذلك إلى وسوسة النفس الأمارة بالسوء. فكرت في النفس، وهل هي تماثل الروح أم شئ آخر؟ وبالطبع لا إجابات مقنعة.
لا يمكن أن أقول له بأنني سأكون فيلسوفاً. لقد انقرضت الفلسفة بعدما هدمها رجال الدين، وحصروها عند ابن رشد الذي اعتبروه أخر الفلاسفة العرب
بعدها بعدة أعوام، كنت في مرحلة الثانوية العامة، حيث درست الفلسفة لأول مرة في حياتي، الفلسفة: فيلو سوفيا أو محبة الحكمة. يا له من مصطلح. علم بحاله تخصص في وضع أسس للتفكير السليم. أحببت تلك المادة وأحسست أنني جزء منها، حتى أنني لم أكتفِ بدراسة الكتب المدرسية والالتزام بالمنهج الدراسي المقرر. بل عكفت كذلك على قراءة النظريات والكتب المبسطة عن هذا العلم الواسع، كأنني اكتشفت ذاتي معه. وحين حصلت على شهادة الثانوية العامة، كان لدي قرار مسبق بدراسة الفلسفة التي تميل لها روحي. وعلى الرغم من أن تحصيلي كان يتيح لي الالتحاق بكليات أخرى كالصحافة أو الإعلام، غير أنني فضلت الفلسفة عن كل شيء.
لم تهضم أسرتي تلك الدراسة، كانت أمي تتساءل بسخرية: "وإيه الفلقسة دي؟ اللي بتخلي الواحد يفلقس؟" أما أبي فلم يهتم، وإن كان سألني مرة: "يعني هتبقي مدرس ثانوي؟" لم يكن التدريس في نيتي ولم يخطر لي على بال. "أومال هتشتغل إيه؟" تلك معضلة أخرى، لا يمكن أن أقول له بأنني سأكون فيلسوفاً. لقد انقرضت الفلسفة بعدما هدمها رجال الدين، وحصروها عند ابن رشد الذي اعتبروه أخر الفلاسفة العرب، وبالتأكيد لا توجد شركة أو مؤسسة معنية بتعيين الفلاسفة. هذا ما كان يخبرني به الأصدقاء، فالشهادة للعمل وتحسين ظروف المعيشة، خاصة لمن خرج من أسرة فقيرة وبائسة مثلي. كنتُ أكتم ما أشعر به، لم أخبرهم أن روحي هي من اختارت هذه الطريق، وأنني أتبعها.
الروح من جديد، المحرك الخفي للإنسان نحو مصير يجهله أو يعلمه، لن تفرق. وهي الشغل الشاغل لكافة الفلاسفة. كانت الدكتورة تشرح لنا تناسخ الأرواح، وتقارن بين رؤية أرسطو لها وبين رؤية أفلاطون. وتستفيض في الشرح موضحة الفرق بين النسخ والمسخ والفسخ، مشيرة بأن النسخ يحدث حين تخرج الروح من جسد بشري لتحل في جسد بشري آخر، بينما يحدث المسخ عندما تخرج الروح من جسد بشري لتحل في جسد حيوان، أما الفسخ فهو إحلالها في جماد. ثم تستشهد بمقولة فيثاغورس: "لا تأكل الدجاجة فقد تكون جدتك".
أتذكر أنا حكاية أبي والناقة الطيبة التي أصبحت امرأة، وأفكر أيضاً في المعلم الأول ومؤسس هذا العلم "سقراط"، ومأساته ومحاكمته. تلك المحاكمة التي راودتني كثيراً وأنا طفل، حيث كنتُ أشعر في بعض اللحظات أنني أحضر تلك الجلسة التاريخية البعيدة، متذكراً الرخامة الرطبة، ومذاق السم الذي يسري في دمي، ثم لا شيء. كل تفصيلة تظهر كومضة في منطقة ما في العقل ثم تتلاشي.
حين رأيت صورة سقراط لأول مرة اجتاحتني دهشة عظيمة، إنه نسخة طبق الأصل عن أبي: الملامح نفسها، الأنف الأفطس، الجسد القصير البدين. وكأنهما داخل كتاب للتسلية: أوجد خمسة فروق بين الصورتين. لا فرق حقيقي باستثناء اللحية، فلحية أبي مشذبة وخفيفة بعكس لحية سقراط. أنا أيضاً صورة مستنسخة عن أبي، وحين سأصل إلى خمسينيات العمر سأصبح صورة ثالثة متطابقة لسقراط وأبي. ربما سأكون وقتها أكثر تطابقاً لسقراط، خاصة أن هذا كان يعاني من أمراض جلدية تركت أثارها على وجهه. ربما كانت الصدفية التي أعاني منها حالياً. هل اختار لي القدر نفس الوعاء/ الجسد؟ هذا جائز. وماذا أيضاً؟ مهن مشتركة؛ فقد كان سقراط يعمل في شبابه الأول على نحت التماثيل الخاصة بالإلهة، وكنتُ أعمل مع والدي في ورشته الصغيرة في صناعة التماثيل الفرعونية منذ أن التحقت بالثانوية العامة وحتى تخرجي من الجامعة. تلك مصادفة أخرى تستحق التأمل أو لا تستحق، فلا شيء يقيني هنا.
لم أتوقع أبداً أن تفعل زوجتي ما فعلته زوجة سقراط قديماً، حيث ستشكو مني للجميع مؤكدة أنني أروج لأفكاري الإلحادية
يعاني الناطق أو المبجل (ذلك الذي يتذكر تفاصيل من حياته السابقة) من التكذيب وربما يتهم بالجنون. هناك العديد من الحالات التي رُصدت عن موضوع التناسخ؛ فتاة تتذكر موتها الأول، طفل يكشف تفاصيل عن حياته السابقة والطريقة التي قُتل بها، مئات من القصص الغريبة تدور حول تلك الإشكالية، حكايات تتجاوز العقل. العقل/ الجسد/ الروح... هذا ما يتشكل منه الإنسان الذي يمارس حياته في حدود الزمكان.
أما أن يكون التجسيد شاملاً لكل ما سبق فهذا دافع لجنوني أنا شخصياً. كنا نقول أن العقل تعلق بالتفكير الفلسفي، وأن الجسد يتطابق مع سابقه، وأن الروح لا تزال تحوم حول عاداتها القديمة، اللف في الشوارع، والراحة والسكينة داخل ورشة صديقي النجار أو في دكان صديقي الحلاق. تجد متعتها في مجادلة الناس، وحثهم على التفكير الوجودي والكوني. وهو ما كان يسبب الضيق لزوجتي السابقة.
بالمناسبة، مرة كنتُ أكتب مقالة عن أعظم زوجة في التاريخ وهي خديجة زوجة محمد وأسوأ زوجة في التاريخ وهي زانبثي زوجة سقراط. كنتُ أكتب حواراً دار بينهما منذ قرون بعيدة، حيث كانت زانبيثي تعاير سقراط بفقره وتتذمر من قضاء وقته مع الأصدقاء لمناقشة أمور تافهة، من وجهة نظرها. وكان يصلني في الوقت نفسه صوت زوجتي وهي تكرر ما أكتبه نصاً. تلك المصادفة لم تكن الوحيدة.
لم أتوقع أبداً أن تفعل زوجتي ما فعلته زوجة سقراط قديماً، حيث ستشكو مني للجميع مؤكدة أنني أروج لأفكاري الإلحادية، وأعمل على هدم المقدسات والمعتقدات الدينية، وأنني أناصب الحاكم العداء، ولا يمكن لها أن تعيش مع زنديق مثلي. هي نفسها التهم التي قدمتها زانبثي للمحكمة وكانت سبباً في هلاك سقراط؛ الرجل الذي غيّر تفكير البشرية وعجز عن تغيير عقلية زوجته، فمات مسموماً. وعلى سيرة السم، في تلك الأيام كانت روحي تتغذى على السم (سم سقراط وحكمته). هذا ما أطلقته على مادة الكتامين التي أدمنتها لأعوام عديدة، وهي المادة التي كنتُ أتجرعها طوعاً فأختبر معها آفاقاً أخرى. يبدو أنها حالة نيرفانا متفردة أو كارما لا مثيل لها شملت كل شيء.
رغم هذا يا عزيزي سقراط أجد نفسي أكثر حظاً منك. فأنا أكتب وأنت لم تكتب حرفاً. عالجتُ مشكلة القولون، والتي لا بد أنها كانت السبب المباشر في بطنك الكبيرة. والصدفية تكفلت بها الأدوية الحديثة فلم تعد تضايقني على الإطلاق. لكن روحك لا تريد أن تهدأ حتى تستكمل مهمتها. بالتأكيد كلانا يعرف ما ترغب فيه روحك وتشتهيه، "جمهورية الإنسان"، أجل، ذلك الحلم الذي أصبح هاجساً يطاردني كما يطاردني قدرك. غير أنني الآن في قلب المأساة، مأساة متطابقة ومستنسخة هي أيضاً ولا أعرف إن كان بإمكاني تجاوز تلك المحنة والاستمرار في السعي نحو الغاية الكبرى أم أنني سأنال مثل مصيرك. فروحك يا معلمي الأكبر لا تزال في خطر كبير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.