شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"سنجعل السياسيين يروننا بعين العدل"... دكاترة تونس يسكنون الخيام من أجل الحق بالشغل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

السبت 13 مارس 202102:44 م

"لم يكن طريقي سالكاً أبداً، ولم يكن تحقيق شهادة الدكتوراه أمراً سهلاً، فكوني من ذوي الاحتياجات الخاصة تعرّضت لكل صنوف السخرية والشفقة. أذكر يومي الأول في مدرستي بقريتي النائية، بعد مسار أكثر من خمسة كيلومترات، كم تألمت وبكيت لسخرية الأطفال من شكل قدمي، ورغبت بالعودة إلى البيت، لكن أمي أخبرتني بأني خُلقت مختلفاً، ولا بد أن أختار بين العزلة في المنزل أو مواجهة الجميع والنجاح".

هكذا تحدث فتحي ميساوي، الدكتور في الفنون الجميلة، لرصيف22، عن بداية مشواره التعليمي الطويل لنيل شهادة الدكتوراه، لكن نهايته كانت خذلان السلطات، كما هو حال آلاف حاملي الشهادات في تونس.

"كنت فخوراً وسعيداً بصمودي وحصولي بعد كل الصراعات على الشهادة، وكنت آمل أن تكافئني بلادي وتكرم عزمي وإصراري، فتوفر لي على الأقل فرصة عمل أستحقها، ولكن لم أجد سوى التهميش الذي دفعني وأصدقائي لتنفيذ اعتصام وإضراب جوع وحشي، عسى أن تُسمع أصواتنا".

وينفّذ عدد من حاملي شهادة الدكتوراه العاطلين عن العمل بتونس، اعتصاماً مفتوحاً داخل أسوار وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، منذ التاسع والعشرين من حزيران/ يونيو الفائت، للضغط على السلطات ودفعها للإنصات لمطالبهم ووقف تهميشهم.


من اعتصام الدكاترة أمام وزارة التعليم العالي

من اعتصام الدكاترة أمام وزارة التعليم العالي - تصوير فاطمة بدري

اعتصام وإضراب عن الطعام

جمدت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي انتداب الأساتذة الجامعيين منذ سنوات، وانخفض العدد في الجامعات التونسية من 22878 مدرساً سنة 2012، إلى 22343 سنة 2018. أدى لذلك لارتفاع نسبة البطالة بين صفوف الدكاترة، ووصل عدد العاطلين عن العمل إلى أكثر من 5000، حسب تصريحات أعضاء تنسيقية الدكاترة العاطلين عن العمل لرصيف22، ومن المرجح أن يرتفع العدد أكثر خلال الأشهر والسنوات القليلة المقبلة، حيث يبلغ عدد طلبة الدكتوراه 13 ألفاً.

وانتدب 1378 دكتوراً فقط بين سنتي 2013 و2019 من مجموع 9010 متحصّل على شهادة الدكتوراه، كما أغلقت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي أبواب الانتداب أمام بعض الاختصاصات منذ خمس سنوات، على غرار الفيزياء.

وصل عدد العاطلين عن العمل بين صفوف الدكاترة إلى أكثر من 5000.

بذلك، لم يكن أمام هؤلاء الدكاترة سوى اللجوء للاعتصام، والتمسّك بمطالبهم المتمثلة بتشغيلهم في مختلف الوزارات، وبشكل خاص وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ومراكز البحوث، إلى جانب إدراج صنف "دكتور" في سلم الانتدابات التي تفتحها مختلف المؤسسات العمومية والخاصة.

وقوبل الاعتصام في محطاته الأولى بالعنف وإطلاق الغاز المسيل للدموع على يد عناصر الأمن، بحجّة تعطيل سير العمل داخل وخارج الوزارة. وأمام إصرار الدكاترة، أُرغمت الوزارة على التفاوض معهم، لكنها لم تقدم حلولاً مرضية، إذ تعلّلت بصعوبة الوضع الاقتصادي في البلاد وعجزها عن انتداب عدد كبير من حاملي شهادة الدكتوراه، وحصر العدد بمئتي دكتور فقط.

وأمام مماطلة الحكومة صعّد المعتصمون تحركهم، ودخلوا في إضراب جوع وحشي خلال شهر كانون الثاني/ يناير، وتم تعليقه بعد زيارة رئيس الجمهورية لهم وتعهده بالالتفات جدياً لملفهم، وشكّلت هذه الخطوة منعطفاً جديداً في المفاوضات بين الجانبين.

وكان فتحي ميساوي من بين الدكاترة الذين نفذوا الإضراب عن الطعام، وما زالت آثاره الصحية تلازمه حتى الآن، كما توفي والده في نفس الفترة، دون أن يراه في المكان الذي حلم به ودون أن يعوّضه عن كل التضحيات.


فتحي ميساوي أحد المعتصمين أمام وزارة التعليم العالي

فتحي ميساوي أحد المعتصمين أمام وزارة التعليم العالي - تصوير فاطمة بدري

يقول ميساوي: "أخفي عن عائلتي أنني أنفّذ اعتصاماً منذ ثمانية أشهر لأحصل على عمل. لم أشأ أن أجعلهم يشاركونني خيبة الأمل التي أعيشها، لكن لم أكن أعتقد أن والدي سيرحل دون أن يراني مدرساً في الجامعة، ويكتمل شعوره بالفخر بابنه. لقد باع هذا الرجل يوماً كل ما يملك وباعت أمي أقراطها، كي أنال الشهادة، ولكن هذه البلاد تتنكّر لأبنائها الذين اختاروا طريق العلم والمعرفة".

ولأن الفن هو ملاذه، ترجم ميساوي حالته بعد رحيل والده في لوحة رسمها بمكان اعتصامه، وحمّلها حزنه وأمله في غد أجمل، وكانت حاضرة خلال اجتماعه برئيس الحكومة في لقائه التفاوضي معه.

وفي الخامس من مارس/آذار تعهد رئيس الحكومة التونسية، هشام المشيشي، بتشغيل 2400 دكتور كمدرسين جامعيين في القطاع العام، على امتداد ثلاث سنوات بدءاً من السنة الراهنة، وفتح 600 خطة انتداب بالمنشآت والمؤسسات العمومية والوزارات للدكاترة بصفة "باحث"، ابتداء من هذه السنة. وينتظر الدكاترة المعتصمون أن تقدم الحكومة براهين فعلية لهذه الإجراءات، في ظل تنكّر الحكومات المتلاحقة في تونس بعد الثورة لوعودها واتفاقياتها مع الشباب، خاصة المتعلقة بالتشغيل.


اللوحة التي رسمها فتحي ميساوي للتعبير عن مشاعره في الاعتصام

اللوحة التي رسمها فتحي ميساوي للتعبير عن مشاعره في مكان الاعتصام


"فوجئت بواقع مختلف"

هدى، وهي إحدى المعتصمات اللواتي تحدثت لرصيف22 باسم مستعار، بذلت هي الأخرى الكثير من الجهد لنيل الدكتوراه في الفيزياء، فهي تنحدر من حاسي الفريد بمحافظة القصرين، وهي أفقر المعتمديات بتونس، وكان أملها أن تساعدها شهادتها في الحصول على عمل بسرعة، حتى يتسنى لها توفير مورد رزق لأهلها القاطنين بمنطقة خارج حسابات الدولة.

تقول هدى: "أن تكون من بيئة أكثر من فقيرة فذلك يعني الكثير من الشقاء والتعب، خاصة إذا قرّرت التحدي وصمّمت على النجاح. رحلة الشقاء بدأت مبكراً، منذ اكتشفت أنني سأرتاد مدرسة بعيدة جداً عن قريتي المعزولة، بل ويفصلني عنها جبل. كسرت هذا الحاجز الجبلي وقاومت رغم صغر سني وتميّزت". وطيلة سنوات الدراسة، كانت هدى تستغل فترة العطل للعمل بجني الزيتون واللوز والخضر وغيرها لتأمين مصاريف تعليمها.

بمجرد ترك مقاعد الدراسة، ومع أولى خطوات البحث عن العمل، فوجئت بواقع غير الذي رجوت وتوقعت، واكتشفت ألا قيمة لشهادتنا وسنوات شقائنا وصبرنا

تتابع: "لم أكن أريد أن أثقل كاهل عائلتي، وعملت لأوفّر مصاريف دراستي، وفعلاً نجحت ونلت شهادة الدكتوراه بملاحظة مشرف جداً، وجعلت والديّ فخورين بي. لكن بمجرد ترك مقاعد الدراسة، ومع أولى خطوات البحث عن العمل، فوجئت بواقع غير الذي رجوت وتوقعت. اكتشفت ألا قيمة لشهادتنا وسنوات شقائنا وصبرنا، وحملني اليأس للعودة إلى قريتي، ولأنها نائية حيث لا وجود لشبكة الإنترنت والكهرباء غائبة غالباً، لم أستطع متابعة ما يحدث حوليـ حتى علمت بتنفيذ زملائي الدكاترة اعتصاماً فالتحقت بهم، وكلي عزم أن أحارب حتى أجعل ساسة هذه البلاد يروننا بعين العدل، ويعيدون لنا الاعتبار الذي نستحق".

وتخفي هدى عن عائلتها وجودها مع المعتصمين، لعلمها أنهم سيمنعونها خوفاً عليها من برد الشتاء وحرارة الصيف، ومن خطر الإصابة بفيروس كورونا في ظل الوضع الوبائي الصعب.


دكاترة الخيام

فتحي السعدي هو الآخر صاحب شهادة دكتوراه في العربية، وينفّذ مع رفاقه الاعتصام منذ بدايته، ويتمسّك بالبقاء من أجل نيل حقه في التشغيل، حتى لو ظل المعتصم الأخير.

فتحي السعدي أحد المعتصمين أمام وزارة التعليم العالي

فتحي السعدي أحد المعتصمين أمام وزارة التعليم العالي - تصوير فاطمة بدري

يقول السعدي لرصيف22: "لأن اختصاص دراستي غير مطلوب في سوق الشغل، قررت ألا أتوقف في أول الطريق وأن أحصل على الدكتوراه، معتقداً أنها ستكون كافية للحصول على عمل مناسب. بعد تجارب عمل مريرة هنا وهناك بعقود مؤقتة، أيقنت أنني في بلد يُفتك فيه بالحقوق ولا تمنح. انضممت إلى رفاقي منذ بداية الاعتصام وخضت معهم تجربة إضراب الجوع الوحشي، وما زلنا ننام على قارعة الطريق، حتى بتنا نسمي أنفسنا دكاترة الخيام، ولن أبرح مكاني قبل أن تستجيب الدولة".

وينتقد السعدي التعاطي الرسمي مع ملف تشغيل الدكاترة والشروط الجائرة المعتمدة في عملية الانتداب: "يشترطون نشر عدد من المقالات العلمية للتقدم لمناظرات الوزارات، وأغلبنا غير قادر على توفير معلوم النشر. شخصياً كتبت فقط في فترة اعتصامي عشرة مقالات علمية بجودة عالية، قبلت بعض المجلات نشرها ولكن لم أجد المال للقيام بذلك. اللجان العلمية لا تراعي هذا وتمنح الفرص حصراً لمن يملكون المال والوساطة".

بعد تجارب عمل مريرة بعقود مؤقتة، أيقنت أنني في بلد يُفتك فيه بالحقوق ولا تمنح. انضممت إلى رفاقي منذ بداية الاعتصام وخضت معهم تجربة إضراب الجوع الوحشي، وما زلنا ننام على قارعة الطريق، حتى بتنا نسمي أنفسنا دكاترة الخيام، ولن أبرح مكاني قبل أن تستجيب الدولة

السعدي القادم هو الآخر من أحد أرياف الوسط التونسي، عاند الطبيعة القاسية والفقر من أجل النجاح، وما زال يحارب مدعوماً بزوجته التي تقبع بعيدة عنه مع ابنتيه، متحملة كل الأعباء طيلة أشهر اعتصامه.

ويروي: "عندما كنت طفلاً كنت أخرج باكراً قبل ضوء الصباح لأصل لمدرستي البعيدة، وأعود مساء وقد أظلمت الدنيا. كنت سعيداً رغم كل شيء، حتى أنني في أحد المرات صممت اجتياز الوادي الممتلئ بمياه الأمطار. رميت كتبي على الضفة الأخرى كي أضمن أنها لن تتبلل، وعبرت وقد تبلّلت ثيابي، ولم أكن حزيناً لذلك بقدر أسفي على أن كتبي اتسخت قليلاً. اليوم بدل أن أحظى بحقي الطبيعي في العمل أجدني على قارعة الطريق، بعيداً عن زوجتي التي تركتها طيلة فترة حملها وكنت إلى جانبها فقط في فترة الولادة، بجيب خاوٍ ومعدة خاوية أيضاً لتزامنها مع الإضراب الجوع الذي ننفّذه، وأرجو أن تغفر لي".

ويرى صابر ناصري، وهو دكتور بالفيزياء وعضو بلجنة التفاوض في الاعتصام، أن إضراب الجوع الوحشي كان منعطفاً هاماً في مسار التفاوض مع الحكومة.


صابر ناصري أحد المعتصمين أمام وزارة التعليم العالي

صابر ناصري أحد المعتصمين أمام وزارة التعليم العالي - تصوير فاطمة بدري

ويقول في حديثه لرصيف22: "رغم أهمية مقترح رئيس الحكومة القاضي بتشغيل 2400 دكتور عاطل عن العمل على دفعات لثلاث سنوات، إلا أنه يبدو قاصراً، قياساً بعدد حاملي شهادة الدكتوراه دون عمل والذي يناهز 5000، فضلاً عن الزيادات السنوية التي تناهز الألف. وفي إطار مد جسور التواصل والتفاوض مع سلط الإشراف، رأينا أن نثمّن الخطوة، ولكن لن نقبل بشكل نهائي قبل معرفة من سينتفع بهذه القرارات، خاصة وأن انتداب الدكاترة متوقف منذ سنة 2015. كما نرى ضرورة وضع آليات واضحة وذات مصداقية في عملية التناظر، لأن مناظرات الجامعات التونسية يشوبها الفساد والمحاباة، ونحن نتطلع لضمانات حول هذا الأمر، وباقون حتى نجد الإجابات".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image