أثار نشر مجلة فرانس بلو الفرنسية للبحث الذي قام به الخبير الفرنسي في الحماية من الإشعاع النووي بيار باربي، ضجة كبيرة في الجزائر وفرنسا على حد سواء.
حيث كشف باربي عن أن فرنسا أدركتها مخلفات التجارب النووية التي قامت بها في الجزائر في سنوات الستينيات، بعد أن مستها مؤخراً رمال الصحراء الجزائرية التي تحتوي على جسيمات مشعة حملتها الرياح.
وفي الوقت الذي أصيب قاطني منطقة "شابيل دي بوا" في مرتفعات جبال "جورا" بالهلع، وجدها الجزائريون فرصة جديدة، وبرهان دامغ يدعم مطالبهم المستحقة من الدولة الفرنسية، بالاعتراف بجرائمها كاملة والتعويض عن كل الخسائر والأرواح التي سقطت في الجزائر خلال فترة الاستعمار.
ما عزز المطالب الجزائرية وشجعها أكثر، هو الاعتراف الأخير من قبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن المناضل الجزائري علي بومنجل قد تعرض للتعذيب ثم القتل على يد الجيش الفرنسي خلال حرب التحرير الجزائرية.
بحث يجدد آمال المدينة المنكوبة:
في حي تيمادنين، أحد الأحياء الشعبية الفقيرة بمنطقة رقان بالصحراء الجزائرية، يقيم عبد الحليم عمار (33 سنة) وشقيقه عصام (21 سنة) مع أسرتهما التي تتكون من 6 أفراد.
لا يغادر الأخوين منزلهما إلا ليلاً، نظرا لاصابتهما بمرض نادر في العينين جراء تأثير الإشعاعات النووية، جعلهما غير قادرين على مواجهة ضوء الشمس.
"حياتنا أصبحت كالخفافيش، ننتظر غروب الشمس لنخرج من منزلنا" هكذا يستهل عبدالحليم الشقيق الأكبر حديثه مع رصيف22 ويقول: الأعراض بدأت تظهر علّي منذ الطفولة، لم أكن أرى بالنهار سوى ضوء أصفر على شكل خيوط تجعل مسيري وحدي في الطريق صعباً جداً، ومع الوقت تكشفت حالتي اكثر واكثر، وأخبر الأطباء والدي أن أشعة الشمس ستفقدني البصر تماماً حال تعرضي لها.
حُكم علّي بالبقاء بالمنزل نهاراً وأنا في العاشرة من عمري، وهو ما ترتب عليه تركي للمدرسه في الطور المتوسط، يقولها الشاب غاضباً قبل أن يستطرد: الرعب الذي يعيشه الجنوب الفرنسي منذ نشر ذلك التقرير، عشناه لعقود. ومازالت آثاره تحصد الضحايا وتعكر صفو حياتنا.
إصابة عبدالحليم وشقيقه ليست حاله نادره في منطقة رقان الجزائرية التي فجرت فيها فرنسا أول قنبلة نووية بقوة 70 ألف طن من الديناميت المتفجر في 13 فبراير/شباط 1960 في ما يعرف بتجارب اليربوع الأزرق ، متسببة في كارثة إيكولوجية وإنسانية لازالت تولد الأمراض والسرطانات إلى يومنا هذا.
التطورات الأخيرة الحادثة في ملف الذاكرة الفرنسية تشي بتعقد جديد يلوح في أفق العلاقات الجزائرية الفرنسية.
التومي عبد الرحمان رئيس جمعية الغيث القادم برقان، تحدث الى رصيف22 عن طبيعة الوضع في تلك المنطقة قائلاً: ينتشر في المنطقة التي تنام على أطنان من النفايات، أمراض مزمنة ناجمه عن امتداد الاشعاع، فلدينا أكثر من 30 حالة سرطان مختلفة بمنطقة رقان سنويا، إضافة إلى حالات تشوه خلقي بمصلحة الولادة، وارتفاع في نسبة الإعاقات الحركية والحسية لدى الأطفال ما دون العاشرة. فضلا عن حالات مرضية غريبة لعدد من كبار السن عجز الأطباء عن تشخيصها.
يختتم التومي حديثه قائلا: لست شامتا بالقطع في وصول الإشعاع الى فرنسا، فآخر ما أرغب في رؤيته هو المزيد من البشر يعانون جراء التلوث النووي، فقط اتمنى أن يدرك الآن المجتمع الفرنسي حجم الجرائم التي ارتكبتها آلة الاستعمار في حق الجزائريين، وأن تستجيب باريس للمطالب الجزائرية المتكررة بتنظيف هذه المواقع، مثلما فعلت روسيا في تشرنوبيل واليابان في فوكوشيما.
اعتراف بالقتل لـ "تهدئة الذاكرة"
وفي الوقت الذي جدد "البحث الفرنسي الأخير الخاص بوصول ذرات رمل مشعة إلى فرنسا، آمال الجزائريين في نجاح مساعيهم لاسترداد حقوقهم المعنوية والمادية من فرنسا، حدث ما يزيد تلك الآمال ويعزز عزيمتهم صوب المضي قدما في مطالبهم.
حيث اعترف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن المناضل الجزائري الشهير علي بومنجل، قد عُذب وقُتل على يد الجيش الفرنسي قبل أكثر من ستين عاماً. وذلك أثناء استضافته أحفاد بومنجل في قصر الإليزيه لتكريمهم كنوع من الاعتذار والإقرار بالجرم للأسرة التي رفضت تصديق الرواية الفرنسية انه "انتحر، وظلت مصره من عام 1957 حتى يومنا هذا على أنه أُلقي من الطابق السادس لإحدى البنايات، بعد تعرضه لتعذيب وحشي على يد فرقة الجنرال الفرنسي بول أوساريس، عقابا له على دوره المهم في التعريف بقضية بلاده في الداخل والخارج، أثناء عمله كمحام وصحفي في جريدة المساواة الناطقة بالفرنسية.
#الجزائر تسجل بارتياح إعلان الرئيس الفرنسي عن تكريم المجاهد الشهيد #علي_بومنجل@TebbouneAmadjid @AlgPresidency https://t.co/irZMfxMA1U pic.twitter.com/X1pAmWCYtn
— الإذاعة الجزائرية (@radioalgerie_ar) March 4, 2021
الإقرار الفرنسي بالجريمة القديمة قوبل بارتياح من قبل السلطات الجزائرية، وحسب بيان لرئاسة الجمهورية: فإنّ الرئيس عبد المجيد تبون، أكد في أكثر من مناسبة أن ملف الذاكرة ملف حساس يتطلب حواراً بدون خلفيات، ومن خلال مبادرة كهذه يمكن للجزائر وفرنسا أن تتقدما للأمام في كنف علاقات مستقرة وهادئة، لمصالحة حقيقية وتعاون متعدد الأشكال.
لكن رغم الخطوات الأخيرة التي قامت بها فرنسا، كالاعتراف بقتل الفرنسي الشيوعي داعم الثورة الجزائرية موريس أودان، وإرجاع بعض جماجم قادة المقاومة الشعبية في الجزائر كانت بمتحف الحياة بباريس، والاعتراف الأخير بتعذيب وقتل المناضل علي بومنجل. الا ان الغضب الشعبي مازال حاضرا والتشكيك في النوايا الفرنسية لم يتوقف يوما. خصوصا بعد رفض ماكرون تقديم اعتذار رسمي عن الجرائم التي ارتكبت في الجزائر، مفضلا تقديم أفعالا رمزية لـ "تهدئة الذاكرة" على حد تعبيره.
#ماكرون بدأ بالمتاجرة بملف الذاكرة بين #فرنسا و #الجزائر بما يساعده في الأيام القادمة ،
— ??صورية عواد (@soraya_aouad) March 3, 2021
لكننا نؤكد على وجوب إعتراف فرنسا بكل جرائم #الإستعمار كلها مرة واحدة وليس بالتقسيط ،
وكشف حقيقة قتل #علي_بومنجل ماهي إلا جزء بسيط من كشف تزوير فرنسا لتاريخها الإستعماري الغاشم للجزائر .
مطالبات لا تتوقف
يرفض الباحث محمد وعلالي مصطلح "التجارب النووية" ويقول في لقائه مع رصيف 22: ما قامت به فرنسا هي تفجيرات وليست تجارب، كان هدفها إجرامي لزرع سمومها في الصحراء، والجزائر عامة. فرنسا تلعب على وتر المصطلحات للهروب من الأمر الواقع وهذا نرفضه كباحثين، وما قامت به بصحراء رقان هي تفجيرات مكتملة الأركان. ونحن في انتظار ضغط جزائري رسمي على الحكومة الفرنسية للاعتراف بما اقترفته خلال فترة استعمارها للجزائر، ولتسمع المجتمع الدولي حجم الرعب الذي يعيشه الجزائريون منذ أكثر من ستين عاماً، ووصل صداه الضواحي الفرنسية اليوم.
لعقود طويلة أخفت فرنسا حقيقة موضع تجاربها النووية في الجزائر... تاركة مواطني الدولة التي احتلتها طويلاً فريسة للأمراض وبؤس العيش.
هذا وقد اتفقت الدولتان على تشكيل لجنة مشتركة للتفاوض على أربع ملفات تاريخية تتعلق بالأرشيف الجزائري -خلال مرحلة الاستعمار- المحتجز في فرنسا، وقضايا المفقودين، والتفجيرات النووية الفرنسية في الجنوب الجزائري والتعويض عنها، واستخدام الأسلحة المحرمة.
لكن الجزائريون لا يكتفون بتلك النقاط المطروحة أمام اللجنة، ويطالب الكثير منهم بإدراك نقاط أخرى، مثل بلال بارة أستاذ التاريخ الذي قال لرصيف22: "هناك ملفات أخرى لا تقل شناعة يجب أن ترد، مثل جماجم المقاومين الجزائريين التي مازال عدد كبير منها محتجز في باريس، وحادثة إلقاء متظاهرين جزائريين في نهر السين بالعاصمة الفرنسية، وأحكام إعدام نفذت بحق نشطاء جزائريين، وعمليات إبادة طالت قرى وقبائل..
المحامية الحقوقية فاطمة الزهراء بن براهم تتفق تماماً مع قاله بلال، مؤكدة على أن السلطات الجزائرية عليها ألا تقبل بالتنازل عن مطالب الجزائريين المشروعة، وعلى فرنسا أن تعترف بحربها وجرائمها كاملة والتعويض عن جل الخسائر والأرواح التي سقطت خلال فترة الاستعمار".
التطورات الأخيرة الحادثة في ملف الذاكرة الفرنسية تشي بتعقد جديد يلوح في أفق العلاقات الجزائرية الفرنسية.
فظهور ورقتي الرمال المشبعة بالإشعاعات النووية، والإقرار الأخير بقتل علي بومنجل، جعل الجزائر تزداد تمسكاً بمطالب الاعتراف الكامل بكل الجرائم الفرنسية في حقها وتعويضها عنها، في حين مازالت باريس متمسكة بسياسية الاعتراف بالتقطير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Nahidh Al-Rawi -
منذ 10 ساعاتتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
Tester WhiteBeard -
منذ 12 ساعةkxtyqh
بلال -
منذ 23 ساعةحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ 5 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.