بجسده الهزيل وعينيه الداميتين الممتلئتين بدموع غزيرة، ووجهه الذي يكسوه حزن أبدي، اشتُهر مازن الحمادة، أحد المعتقلين السابقين في مسالخ التعذيب البشرية لنظام الرئيس السوري بشار الأسد. وعدت منظمات حقوقية ودولية قصته المأسوية دليل إدانة إضافياً للنظام الوحشي.
الأكثر غرابة في قصة الحمادة (33 عاماً)، الذي تعرض للإذلال في سجون الأسد، أنه وقع ثانيةً في حضن جلاده، عقب نجاته في المرة الأولى، ولا يزال مختفياً قسرياً منذ نحو عام، وتحديداً منذ وصوله سوريا من هولندا التي كان يتمتع باللجوء فيها.
في حين أن ظروف عودة الحمادة تظل غامضة وغير مفهومة، ويمكن اعتبارها انتحارية، يتألم ذووه وأصدقاؤه وهم يعيشون رعب معاناته مرة أخرى من كابوس التعذيب في سجون نظام شجبه بشدة في المحافل الدولية.
في تقرير لها، عبر صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، في 4 آذار/ مارس، تساءلت الصحافية ليزا سلاي: هل كان سلوك الحمادة المريب علامة على أن الصدمة دفعته إلى اتخاذ قرارات غير عقلانية؟ هل يمكن أنه تم استدراجه للعودة إلى سوريا، كما يعتقد من عرفوه، من قبل سوريين موالين للحكومة حريصين على إسكات أي شاهد محتمل على جرائم الحرب؟ أم خاب أمله في الحياة في الغرب لدرجة أنه كان مستعداً للمخاطرة بالعودة إلى الوطن؟ هل شعر بالخيانة من لامبالاة العالم تجاه محنة بلاده وفشلها في وقف إراقة الدماء؟
وسعت الصحافية للحصول على أجوبة عن أسئلتها عبر المقابلات مع أشخاص مقربين من الحمادة والشهادات التي تركها وراءه.
ما قصته؟
عندما اندلعت الثورة السورية عام 2011، كان الحمادة يعمل تقنياً في شركة للنفط قرب منزله في محافظة دير الزور (شرق سوريا). انضم إلى السوريين الذين نزلوا إلى الشوارع في جميع أنحاء البلاد للمطالبة بالإطاحة بالأسد، الذي كانت عائلته قد توارثت حكم سوريا لأكثر من أربعة عقود آنذاك.
في مقابلة أجريت معه لاحقاً، قال بابتهاج عن الأيام الأولى من الاحتجاجات الشعبية السلمية، لسارة أفشار، مخرجة الفيلم الوثائقي: "السوريون المختفون" في عام 2016: "عندما ترى التظاهرات، كان قلبك يطير".
سرعان ما لفتت أنشطته، كمواطن صحافي تحدّث إلى وسائل إعلام أجنبية، وكمحتج، انتباه السلطات التي كانت لديها تعليمات باعتقال أي شخص يؤيد الانتفاضة.
كان الحمادة واحداً من عشرات الآلاف من السوريين الذين اعتقلهم النظام على خلفية المشاركة في التظاهرات السلمية. اعتقل الرجل ثلاث مرات بين عامي 2011 و2012. وكانت الأخيرة أطولها وأقساها.
خلال اعتقاله، تعرض الحمادة لأشكال التعذيب الجسدي والنفسي كافة، وفق ما روى لاحقاً. وصف كيف خُلع معصماه بفعل السلاسل المستخدمة في تعليقه بالسقف، وتكسير ضلوعه من قبل رجال الأمن الذين حرقوا جلده بالسجائر، وصدموه بالكهرباء أيضاً. وأكثر ما تعرض له فظاعة كان وضع كماشات على أعضائه التناسلية، وهو ما أدى إلى تمزّق قضيبه، كما تم اغتصابه بعصا معدنية.
عام 2017، قال لـ"واشنطن بوست": "حين بدأوا في إدخال العصا، اعترفت بكل شيء طلبوه".
"لا أريد الاندماج! أشرف لي أن أموت في بلدي"... كيف تحوّل المعتقل السابق في مسالخ الأسد البشرية، مازن الحمادة، من عازم على محاكمة النظام إلى "رسول سلام" قبل أن يفقد أثره في غياهب الاختفاء القسري بسوريا؟
عزم على المساءلة
رغم بشاعة ما تعرض له، كان الحمادة عازماً على محاسبة الحكومة السورية على جرائمها بحقه وبحق الذين كان شاهداً على تعذيبهم وموتهم في المعتقلات.
لذا، دأب منذ هروبه إلى هولندا عام 2014، على التنقل بين الدول حيث شارك الناس في جميع أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا قصصاً عن الفظائع التي تعرض لها في سجون الأسد. وارتبط منذ ذاك الحين بجماعات المجتمع المدني السورية.
تحدث الحمادة إلى مشترعين في واشنطن، وجنرالات في القيادة المركزية الأمريكية في فلوريدا، وطلاب في جامعة برينستون البحثية الأمريكية، ومحققين في مجال حقوق الإنسان وصحافيين وغيرهم.
في فيلم أفشار، قال: "لن أستريح حتى أحيلهم (أي مسؤولي النظام السوري) إلى المحكمة، حتى لو كلفني ذلك حياتي. سوف أُطاردهم وأجلبَهم إلى العدالة، بغض النظر عن أي شيء".
مصير مغاير لمصائر رفاق المحنة
لكن حال الحمادة تبدل كثيراً؛ لاحظ المقربون منه أنه كان يدخن الماريجوانا بكثرة وهو أمر مكلف رغم أنه مشروع في هولندا. قال عمر أبو ليلى، سوري من دير الزور يعيش في ألمانيا، وقد تواصل بشكل متكرر مع الحمادة عبر وسائل التواصل الاجتماعي وحضر مؤتمراً معه عام 2018، إن الحمادة حين كان يتحدث كانت دموعه تفيض مثل النهر.
كانت هذه الدموع إشارة إلى أنه لم يكن على ما يرام. في حين كان رفاقه - المعتقلون السابقون - الذين مروا بمسارات مماثلة إلى حد ما أفضل حالاً. كرم الحمد، لاجئ آخر من دير الزور، قضى أكثر من عام في أحد سجون دمشق. لكنه حين هاجر إلى ألمانيا، ازدهرت حياته وبدأ مشروعاً تجارياً وتزوج قبل أن يتلقى هذا الصيف منحة دراسية في جامعة ييل الأمريكية.
قال الحمد إنه تغلب على آثار الاعتقال عبر العلاج المكثف ومضادات الاكتئاب ودعم الأسرة والأصدقاء. في المقابل، تلقى الحمادة بعض العلاج في هولندا، لكنه اشتكى للحمد أن المعالجين الغربيين لم يفهموا ما مر به السوريون أمثاله.
أوضح الحمد أن الحمادة بدا غير قادر على التخلص من "ذنب الناجي" الذي يشعر به كثيرون ممن يعانون اضطراب ما بعد الصدمة رغم مرور ستة أعوام على هروبه من سوريا.
في لقائهما الأخير في برلين، قبل وقت قصير من عودته إلى سوريا، لاحظ الحمد أن الحمادة كان يتحدث كثيراً عن مصير السجناء الذين تركهم وراءه، وكيف شعر بأنه مضطر لفعل شيء لإنقاذهم.
عمر الشغري، الذي قضى ثلاث سنوات في أحد "المسالخ البشرية" - الاسم المتعارف عليه لمعتقلات تعذيب النظام السوري - قبل أن يفر إلى السويد، كان قد التقى الحمادة خلال زيارات إلى الولايات المتحدة. منذ وصوله إلى أوروبا عام 2015، في سن العشرين، تعلم الشغري ثلاث لغات وهو على وشك الحصول على درجة البكالوريوس في جامعة جورج تاون.
انبثق الإلهام الذي استغله الشغري لبدء حياة جديدة من معاناته. قال: "لقد استخدمت صدماتي كقوة دافعة. استخدم مازن صدماته ليصبح أكثر وأكثر اكتئاباً. بالنسبة لمازن، ساءت الأمور أكثر فأكثر. تم عزله وكان وحيداً. عزل نفسه لأنه شعر أن ‘لا أحد يهتم‘".
عدم القدرة على الإنجاب هو السبب؟
زادت محنة الحمادة النفسية جراء تدهور وضع الثورة في سوريا. خلال السنوات الأخيرة، تمكن النظام من استعادة مساحات واسعة كانت المعارضة قد سيطرت عليها.
اشتكى الحمادة بشكل متزايد لأصدقائه من أن سرد قصته بات "مضيعة للوقت"، وأن دموعه لم تترجم إلى جهود ملموسة لتحقيق العدالة للضحايا. بل شعر بضغط واستغلال حتى من قبل المنظمات التي دعته إلى مناسباتها لفضح جرائم النظام السوري.
"كان في حالة نفسية سيئة، أصبح الحمادة عنيفاً وصعب المراس، ويتشاجر مع كل شخص يلتقي به تقريباً. كان يقول ‘أرى النظام أفضل من أمثالك‘"، خلال حديثه إلى نشطاء المعارضة الذين كانوا أصدقاءه.
في الأشهر الأخيرة من عام 2019، وصلت مشاكل الحمادة المالية إلى الذروة، وأصبح غير قادر على دفع بدل الإيجار. أخيراً، طُرد من شقته وانتقل للإقامة مع أخته وزوجها، اللذين كانا يعيشان في أمستردام أيضاً.
قال صهره، عامر العبيد، إن التجربة المهينة لفقدان منزله زادت من مرارته وربما لعبت دوراً كبيراً في قراره المتصل بالعودة إلى سوريا. وأضاف: "كان في حالة نفسية سيئة، أصبح الحمادة عنيفاً وصعب المراس، ويتشاجر مع كل شخص يلتقي به تقريباً. كان يقول ‘أرى النظام أفضل من أمثالك‘"، خلال حديثه إلى نشطاء المعارضة الذين كانوا أصدقاءه.
مكث الحمادة أسابيع عديدة رفقة ابن أخيه زياد الحمادة، الذي يعيش في بلدة في غرب ألمانيا. قضى ساعات يحدثه عن التعذيب الذي تعرض له قبل ست سنوات. لأول مرة، علم زياد مدى خطورة إصابة الأعضاء التناسلية لحمادة.
قال الحمادة لابن أخيه إنه لا يستطيع أن يتزوج، مبرزاً توقه الشديد إلى إنجاب الأطفال، وعجزه عن ذلك. قال زياد: "كان يبكي طوال الليالي التي قضيناها معاً، كل ما كان يتحدث عنه هو تعذيبه".
قال الحمادة ذات مرة وهو غارق في الدموع: "أريد أن أعود إلى بلدي، كفى. حتى لو كان ذلك يعني العودة إلى مناطق النظام، فهو أفضل من هنا، لا أريد الاندماج! أشرف لي أن أموت في بلدي".
"ذهبنا إلى أمريكا وأخبرناهم القصة كاملة. ذهبنا إلى ألمانيا وأخبرناهم القصة كاملة. ذهبنا إلى هولندا وفرنسا وحتى إيطاليا. ولم يستمع الناس. العالم كله لم يستمع"... إلامَ قاد الإحباط مازن الحمادة؟ إلى جلّاده!
عودة إلى الجلاد
صباح 22 شباط/ فبراير عام 2020، شوهد الحمادة في مطار برلين شونفيلد قبل صعوده على متن طائرة متجهة إلى بيروت ومنها إلى دمشق. حين سأله لاجئ سوري أين كان ذاهباً، حاول إنكار سفره إلى سوريا.
قال اللاجئ الذي رفض كشف هويته إن الحمادة "بدا منهكاً. كان حزيناً ومريضاً. لم يكن يتحدث بشكل صحيح".
اتصل الرجل بصديقته ميسون بيرقدار، وهي ناشطة سورية مشهورة تعيش في ألمانيا منذ 27 عاماً وتتمتع بسمعة طيبة في حل المشاكل. تتبعت اتصالات الحمادة وتواصلت معه بعد أن وصل بيروت.
قال لها في تبادل للرسائل النصية: "ذهبنا إلى أمريكا وأخبرناهم القصة كاملة. ذهبنا إلى ألمانيا وأخبرناهم القصة كاملة. ذهبنا إلى هولندا وفرنسا وحتى إيطاليا. ولم يستمع الناس. العالم كله لم يستمع".
عقب إظهار الإحباط والغضب، أكد الحمادة لها أن دمشق هي وجهته، مؤكداً أنه سئم من محاولة إقناع العالم بالانقلاب على الأسد، ويريد إيجاد طرق للتوصل إلى حل سياسي للحرب.
لم يستمع الحمادة إلى مناشدات بيرقدار ألا يذهب لدمشق، وتحذيراتها من أنه كان أكثر عرضة للسجن والتعذيب هذه المرة، وإن كان ساعياً إلى إيجاد حل لا المعارضة.
اكتفى بالإجابة: "نحن نموت على أي حال".
تم استدراجه؟
حتى الآن، يبدو أن أقارب وأصدقاء الحمادة مقتنعون بأن الموالين للنظام أقنعوه بالعودة لإسكات صوته عن رواية الفظائع التي ارتكبها النظام السوري. وهم يقرون بعدم وجود دليل على ذلك، إلا ما أوضحه الحمادة في محادثاته الأخيرة، بأن لديه ضمانات بالأمان إذا عاد.
زار الحمادة السفارة السورية في برلين ثلاث مرات على الأقل قبل شهر من مغادرته، بحسب إبراهيم خلف الله، صديق للعائلة أقام معه فترة من الزمن إذ أخبره الحمادة أنه تأكد أنه ليس على قائمة المطلوبين في سوريا.
لكن محادثتين هاتفيتين مع الحمادة بعد هبوطه في مطار دمشق تؤكدان أنه ربما يكون قد أدرك، بعد فوات الأوان، أنه بات في خطر. الأولى كانت مع ابن أخيه، زياد، الذي قال إن صوت حمادة كان يرتجف و"أسنانه تصطك"، وكان يبدو أن "هناك رجلاً بجانبه يخبره بما يقول".
قال حمادة في المكالمة إن ضباط الهجرة بالمطار أخبروه أنه سيُحتجز للاستجواب إذا دخل البلاد، موضحاً لزياد أنه كان يحاول العثور على تذكرة للرحلة التالية التي كانت متجهة إلى السودان، طالباً من ابن أخيه "صل من أجلي، صل من أجلي…". ثم انقطع الخط.
بعد ذلك بلحظات، اتصل الحمادة بصديقة أمريكية داخل الولايات المتحدة، وهي ناتالي لاريسون، مديرة المساعدات الإنسانية لفريق الطوارئ السوري. برغم أنها لا تتحدث العربية، فهمت أن الحمادة كان يقول إنه في مطار دمشق. شعرت لاريسون أن شخصاً كان قربه ويخبره بما يقول.
بعدا أُغلق الخط، فشلت لاريسون في الوصول إلى الحمادة عبر واتساب كما اعتادا التواصل.
بعد أقل من ثلاث ساعات، لم يعد هاتفه متصلاً بالإنترنت، واختفت جميع حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي. ولم ينشط أي منها إلى الآن.
ويتزامن تسليط الضوء على قصة الحمادة مع نشر تقرير أممي، هذا الأسبوع، يؤكد أن عشرات الآلاف من الذين اعتقلهم النظام السوري على مدى عشر سنوات من الحرب الأهلية في عداد المفقودين، وأن بعضهم تعرضوا للتعذيب أو الاغتصاب أو القتل. وهذه الأمور كلها تُصنّف في خانة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...