شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"أنا الذئبة الأسطورية في حديقتي السرية"... سحر الأماكن وخيال المبدعات/ين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 2 مارس 202105:24 م

هناك صباحات تحفزنا على الذهاب بعيداً. وهناك أماكن تجتذبنا إليها بقوتها السحرية. ثمة حديقة أسرتني، بداخلها بيت بدائي صغير، أسميه بيت "لالوبا" وهي المرأة العجوز، المرأة الذئبة في كتاب "نساء يركضن مع الذئاب" للأديبة وعالمة النفس كلاريسا بنكولا.

في طريقي إلى العمل، أسير بجوار سور الحديقة، التي لن أخبركم باسمها، أتأمل البيت الصغير، فتراودني رغبة جامحة في الدخول إلى هذا العالم، والسفر مع "لالوبا" إلى عوالم أخرى، لو أنني وضعت قدمي في أرض الحديقة، لن أعود إلى هذا العالم مرة أخرى، عالم "المال والأعمال"، والأشياء الرتيبة المغبرة.

إنها حديقتي السرية، لن يراها أحد غيري، مكاني الحميم، وحُلمي، وحريتي.

وتقول الأسطورة إن "لالوبا" هي المرأة الأبدية الخالدة، تعيش على حافة العالم وفي أطراف الكون، كما تجدها في الحقول، والغابات، تقوم "لالوبا" بجمع عظام الموتى، والغناء فوقها، تظل تغني وتغني حتى يبح صوتها، لتندلع الحياة من جديد.

لو أنني وضعت قدمي في أرض الحديقة، لن أعود إلى هذا العالم مرة أخرى، عالم "المال والأعمال"، والأشياء الرتيبة المغبرَّة، إنها حديقتي السرية، لن يراها أحد غيري، مكاني الحميم، وحُلمي، وحريتي

كنت محظوظة، نشأتُ في قرية، تتجلى فيها الأماكن بأعلى تمثّلات للأسطورة، من حقول واسعة، وأراض زراعية، وترع صغيرة، وحكايات متوارثة عن الأجداد حول العجائز الذين يتحولون ليلاً إلى أسماك، والجنيات التي تتخفَّى في صورة أسماك صغيرة على سطح الترع، والأصوات الغريبة التي تنطلق في الليل، ثم تتجسد نهاراً في صورة حيوانات، وطيور، وحشرات، وحكايات لا تنتهي، ربما تمتد إلى بداية الحياة على الأرض، ترسخت في أعماقي بصورتها الفنية، ومنها أستلهم كتابتي الشعرية والقصصية.

لكل كاتب مبدع مكان أسطوري، يُفجّر فيه طاقاته الإبداعية، ويزخر التاريخ الأدبي بمئات الكتاب والروائيين الذين انبثقت أعمالهم الأدبية من هذه الأماكن، أذكر منهم الكاتب والقاص الراحل سعيد الكفراوي، فطوال رحلته الإبداعية التي استمرت 35 عاماً، كانت القرية بعالمها الأسطوري مصدر الإلهام الحقيقي لصاحب "مدينة الموت الجميل"، كما نجد الروائي الكبير محمد البساطي في روايته الفاتنة "صخب البحيرة".

صفر ممتليء ومتسامح

الشاعر والروائي المصري علاء خالد، صاحب تجربة رائدة في ثقافة المكان، فهو أحد مؤسسي المجلة الشهيرة "أمكنة"، يعرّف المكان الأسطوري، بأنه "المكان الذي يتضمن أكثر من زمن، وحياة، وهذه الحيوات والأزمنة تتناسخ وتتوالد داخله باستمرار، سواء عن طريق علامات دالة أو عن طريق مناخ حسي، كأنك في قاعة سينما تشاهد واقعاً غير ذاك الذي تعيشه خارجه".

ويرى صاحب رواية "بيت الحرير" أن أكثر الأماكن التي ينطبق عليها هذا الوصف: "البر الغربي في الأقصر"، ويحكي عن تجربته هناك، وتأثير هذا المكان على خياله الفني والإبداعي لرصيف22: "كل حركة هناك لها ملمسها الحسي، وتردادها عبر الأزمنة، بدايةً من العبّارة التي نركبها للانتقال من البر الشرقي إلى البر الغربي لنهر النيل".

ويستفيض أكثر في وصف العبّارة بشاعرية: "كأن العبّارة مدينة صغيرة، تنتقل عبر النيل، تقف داخل النيل، تتحول لنقطة منه، تدخل في زمنه اللانهائي، تصبح جزءاً من هذه البداية، من خلوده، كأنك صفر ممتلىء، تنظر لكل الأعداد بتسامح، تنفصل عن ذاتك التي تعرفها، ولاتستدعي ذاتاً قديمة، أو أي صور لها، تتعمق أكثر وسط هذا الزمن اللانهائي، الذي يجري أمامك، فتجري أنت أمامه، أو فوقه، تنتابك جرأة الخلق، والسير فوق المياه".

ويتابع: "مثل اليوغي المتواضع، ترتفع نصف قدم عن الأرض، أو المياه، مسافة الطيران الذاتي الحر، انزياح زمني، ونفسي، باتجاه مكان ونفس جديدين".

ويكمل: "داخل هذا الخلود وجد الشاعر خلوده أيضاً، واقتطعته من زمن الموت بداخله، وطفى فوق نفسه، وفوق موته، كان يتحرر من شروط الزمان والمكان، خلف هذه الستارة الكونية الكبيرة، والمكان أيضاً كان يفارق نفسه، ويتحرر".

فلاح في ترعة النيل

الكاتب والقاص شريف صالح يصف نفسه بأنه ابن الماء، حيث ولد بين تفريعتين صغيرتين للنيل، إحداهما تُسمَّى "البحر القديم"، والأخرى الأوسع، والأنقى يُطلق عليها "البحر الجديد".

أما فرع دمياط الرئيسي للنيل، الذاهب إلى المصب في رأس البر، فيبعد قليلاً عن قريته الكائنة بدلتا مصر.

"كأي طفل فلاح كنتُ محاطاً بالماء".

وعن علاقته بالماء يقول صاحب رواية "مثلث العشق" لرصيف22: "كأي طفل فلاح كنتُ محاطاً بالماء، ينساب رقراقاً مثل الفضة المذابة في الغيطان، في الليالي المقمرة، صوت الضفادع والطيور ليلاً، موسيقى الطبيعة التي ننام عليها".

حاول شريف تعلم السباحة، واختبر تجربة الغرق مرتين، ونجا في اللحظات الأخيرة، وتدرب على صيد السمك السواقي، وصعود النخيل على حافة النهر.

يعتبر صالح المياه والخضرة عالمه الطفولي، وقد أخذاه بعيداً عن الناس، والتفاعل معهم، يقول: "لا ينفصل الماء عن الخضرة، تلك كانت عصارة الحياة ونسيجها الزاهي، وهكذا تشكل بستان طفولتي، كأنه يكاد يخلو من البشر. ارتبطت طفولتي بالعصافير والدواب والسمك وأشجار الصفصاف والسرو، وتدفق النهر حاملاً معه أطنان المخلفات الطافية فوق سطحه".

"كان المنظر مهيباً، ومخيفاً، الحياة المندفعة الصاخبة تجرف معها تابوت الموت، بما في ذلك جثث الطيور والحيوانات النافقة. وخلف السدود الحديدية الصلبة تتجمع كل بقايا الحياة، فأتوقف متأملاً الأوراق والأحذية والزجاجات البلاستيكية والصحف. كل شيء انتهى هنا خلف السد، بعدما كان ذات يوم له قيمة، وحياة. كانت لعبة لطيفة أن أُلقي الأشياء في النهر وأرقبها وهي تغيب في الأفق".

ظل حلم صالح إلى اليوم أن يمتلك مكاناً يعيش ويكتب فيه، شريطة أن يطل على ماء، راوده الماء كثيراً في أحلامه، تسرب إلى نصوصه.

في كل نص، لا بد من نهر أو بحر. حوض سباحة أو بانيو، نبيذ أو بيرة. في إحدى القصص كان هو البطل الذي يردد إلى ما لا نهاية "عطشان".

متعة الضياع

على عكسي، أنا الرافضة بوح هوية المكان الذي يسحرني، تفصح الشاعرة المصرية ديمة محمود عن حبها الآسر لـ"وسط المدينة" و"القاهرة الفاطمية"، وتصف حالتها الشعورية تجاه هذين المكانين بـ "العشق الذي لا يرجى البرء منه". تقول لرصيف22: "أمشي بدون تخطيط وبعشوائية، أفصل وعيي وانتباهي وأمارس عمى ما أحبه، يمنحني متعة الضياع والبحث الذي قد يكون في حقيقته بحثاً عني واستعادة لديمة النيئة. عادة ما تأخذني قدماي دون اختيار ولا تفكير مني لأقضي يومي من أوله هناك، وصحيح أن للّيل أجواءه الكرنفالية البهيجة في الإضاءات والازدحام وتجمع الناس في المقاهي وغيرها، لكنني مغرمة بالهوية البصرية للمكان، والتي لا يكشفها إلا النهار، وضح النهار. الضوء".

في كل نص، لا بد من نهر أو بحر. حوض سباحة أو بانيو، نبيذ أو بيرة. في إحدى القصص كان هو البطل الذي يردد إلى ما لا نهاية "عطشان"

هناك اتصال روحي بين ديمة محمود وهذه الأماكن التي وقعت في حبها، فالضوء النافذ بين أعمدة الشبابيك ومن بين فتحات الأسقف والقباب في القاهرة الفاطمية، يشبه تلك الأسئلة التي تلازمها والتي تركض وراءها باستسلام وهيبة، والحوائط الضخمة تشبه ثوراتها الكثيرة والاستدارات في الأبنية تشبه تجاربها التي باءت بالفشل والنجاح أيضاً، والرقة الخفية في مباني القاهرة الخديوية ليست إلا هشاشتها، أما التجاويف العلوية فليست فهي أعشاشها التي تستكين فيها لآماد ليست قصيرة لتعيد النظر وتنتفض إلى طريق أخرى.

ثمة سطوة بصرية وروحية تمارسها القاهرة الفاطمية والخديوية على صاحبة "ضفائر الروح"، وهذه السطوة هي ما تُفجر الطاقة الشعرية فيها، وتجعلها حية، ومزهرة، تماماً مثل حديقتي السرية، والسحرية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image