تستمد كتابات الكاتب التونسي توفيق بن بريك، جماليتها من وحشيتها، تلك الوحشية التي يزداد منسوبها كلما عاد بن بريك إلى العامية، فبعد وحشية "كلب بن كلب"، روضت العربية نصه في "كوزكي" قليلاً، وفي "الإخوة هاملت" أكثر، فالفصحى مهما توحش عالمها تظل لغة محافظة نقية مقارنة بالعامية، تلك اللغة ما قبل التثقيف والتنجير والزبر، يعود صاحب "كلب بن كلب" إلى هذه اللغة النابية بنص ناب جديد بعنوان "وهران"، صادر عن دار الجنوب في نسخة من كتاب الجيب.
لا يمكن أن نفهم بن بريك ونحن لم نقرأ بوكوفسكي (أو بوكاوسكي كما يلفظ بلغته الأصلية)، وليام س. بوروز، جورج باتاي، ماركيز دي ساد، لوتريامون وأعمال البورنوغرافيين والمتوحشين، فبن بريك يكتب نصاً مختلفاً عنيفاً يجري بلا توقف، كما يجري الدم من سلاح أحد الشطار وهو يعلم غريمه في وجهه. وهو كاتب سليل الشعراء المتهتكين، من أبي نواس وابن الحجاج إلى نجيب سرور صاحب "كس أميات" وعبد الرحمان الكافي صاحب "الزبوبية".
نص بن بريك يعلن نفسه نصاً منشقاً مضاداً للكتابة المحافظة ونصف المحافظة، نص لا يكتفي بلقب الجريء، بل ينفرد بلقب الكتابة القبيحة والمنحطة والسوقية والفظيعة والداعرة، وكلها أوصاف في مديح الكتابة خلافاً لما يبدو، لأن اللغة تقول معنيين على الأقل في ألفاظها، كما سنرى.
يعود صاحب "كلب بن كلب" إلى هذه اللغة النابية بنص ناب جديد بعنوان "وهران"، صادر عن دار الجنوب في نسخة من كتاب الجيب وينفرد بلقب الكتابة القبيحة والمنحطة والسوقية والفظيعة والداعرة
وهران قصة حب
تروي وهران قصة إفريقيا، عبر الفتاة زعرة بنت الشيخ هراس، الأنثى المتمردة القوية الجميلة المتحررة، والتي تنتظر وأبيها عريساً خاصاً، فارساً قوياً وأسداً حقيقياً.
بين مغامرات زعرة وهي تنتظر ظهور فارسها، وظهور وهران أسد الجبال التونسية الذي كانت تحلم به زعرة، تروي الحكاية قصة إفريقيا بعاداتها وتقاليدها وعامتها ونخبتها وتضاريسها وبيوتها وقصورها وشعبها وحكامها وثوارها، يروي الكتاب قبح البلاد وجمالها وضعفها وقوتها. رواية أو خرافة أو حكاية أو أسطورة يكتبها بن بريك، في شكل قصة حب معارضة للأميرة النائمة التي يأتي الفارس ليقبلها ويعيدها إلى الحياة. زعرة تعشق جسدها وتطعمه بما تدركه ليل نهار، حتى يظهر "الصيد بو زبين" وهران.
حكاية إفريقيا الشبقة
الحكاية تبدو في ظاهرها حكاية شبقية، ففي "وهران" الكل يضاجع الكل بلا رحمة: القرد والذئب يضاجعان الأسد، الرجال يضاجعون البهائم، الذكور يضاجعون الذكور، النساء يضاجعن الكلاب والفيلة والأحمرة والبغال، والإبن المتبنى يضاجع الأب المتبني. إنها إفريقيا، بلاد النيك الشامل. لا شيء يقاس قيمته إلا بقدرته على المضاجعة، الرغبة المتجددة، طول القضيب، عمق الفرج ووحشيته.
لكن الحكاية في عمقها هي حكاية تونس، حتى لتبدو للمتأمل فيها جيداً رواية تاريخية، رواية عن تونس في فترة 1864 وثورة علي بن غذاهم (1814-1867) البطل التونسي الذي تمرد على الأتراك، وقاد ثورة شعبية ضد نظام الضرائب التي أثقل بها الباي التركي كاهل التونسيين.
كتب بن بريك ثورة التونسيين على المستعمر التركي عبر الجنس، فذلك الشعب الأعزل الفقير لم يكن في يديه أية أسلحة يرعب بها عدوه، إلا جسده وأعضاءه التناسلية. يسرب توفيق بن يريك إشارات للقارئ الفطن ليلتقطها، وإلا ضاع عمق الفكرة التي بنى عليها النص برمته: فكرة هشاشة السلطة، خاصة تلك السلطة المخيفة القامعة. يسرد الراوي حكاية العجوز التي مر بها حاكم وسألها إن كان هناك من هو أقوى وأغنى وأبهى منه، فأجابت: "شَيْ".
دور ملك الملوك حصانو ومشى. قبل ما يغيب على عينها، ندهتلو عزوز الشرْ:
أقوى منك هـ الشيء.
وعرتلوه لزرق، خرق مغوف، مقفل، قبر يرعب، مغارة ساكن فاها غول أعمى، فم عفريت يبلع الميت وهو حيْ".
لم يحسم توفيق بن بريك في ذكر هوية الملك فكتب: "مرة ملك الملوك، نجاشي الحبشة وإلا عظيم الفرس وإلا قيصر الروم، وقف على مرا، غزوزة قرنبو، مازاللها نهار وتكهب ع الموت، قال لاها:
ثماش واحد أقوى وأغنى وأبهى مني؟".
هذا ليس ضعف ذاكرة أو تردداً، إنما أراد بن بريك تعميم الحكاية على كل سلطة: لا سلطة بإمكانها هزيمة الجسد الخاص، وليؤكد ذلك يردف القصة الأولى بقصة النحات الذي ظل فوق الربوة، لا يعنيه الخلق الذي ركض من كل صوب يهلل لامبراطور الصين العظيم الذي انتبه له، وطلب أن يأتوا به ليقطع رأسه. وعندما وصل الرجل بين يدي السياف أمام الامبراطور، أخبره أنه منشغل بالتفكير في الشيء الذي خارج سيطرته لينحته هدية له، فطلب منه الامبراطور أن ينحت ذلك الشيء ويعرضه عليه أثناء رجوعه وإلا فإنه سيقطع رأسه، وفي رجوع الامبراطور بعد قضاء مصيفه، مر بكوخ النحات الذي وجده في انتظاره: "هبط لمبراطور وعرى الصمبة، خرجلو زبور منحوت في الحجر لسود، يلولش، قولش عليه زبور م اللحم، أحمر دم، سخون يتزلبط، يعيط:
زب زب، يا محسنين
وكتب بماء ذهب تحت الصنبة:
كل شيء عندك عليه سلطه، إلا الزبور مصلط عليك".
إن هذا الكم من القصص والحكايات التي يستحضرها بن بريك من الشرق والغرب، حول قوة الجسد الإيروسي وقدرته هو الذي يعطي للحكاية عمقها الملحمي، ملحمة الشعب يصنع مجده من عرائه، بل يصبح العراء السلاح الفتاك الذي يهزم كل سلطة، لذلك يرفض الأب الشيخ هراس تزويج ابنته، بطلة الحكاية كلها، زعرة، ربة الإيروس، للأعيان والأثرياء وأصحاب الجاه، رغم إلحاح زوجته شهلة خوفاً عليها من العنوسة. زعرة نفسها كانت تضاجع الجميع دون أن يفوز بها أحد، إنها كارمن ميريمي، حرة ذاتها، مالكة لجسدها مادام العرش لم يقل كلمته، فـ"زعرة بنت هراس تنيك في الوديان، تحت لقناطر، في لخرب، وراء سطر السدراية، في لحوض، في لكوري، تحت السدراية، في لحوض، في المطامير، آت توقفلاها في ظهرها، تستلبس كالزلعيطة وما تفك كان ما تبرد شهوتها.. زعرة بنت هراس، بنت عروش ما تحكمش في روحها، ما تحكم في شيء،...ايه تنيك على كيفها، الزبور زبورها، لا حد يسهل لا يدخل، والي عطى زكو الله لا يفكو.."
الحكاية كلها إسقاطات تاريخية وسياسية على واقع تونس الاجتماعي والسياسي، حيث الحريات الفردية مهددة بتنامي التيارات الدينية التي تستهدف الأجساد الفردية، والشعب الذي بدأ ينتكس ويعود إلى سباته، بعد يأسه من تحقيق أهداف ثورته التي سرقت كما سرقت منه منذ القرن التاسع عشر.
المعجم الداعر وايقاع الشر
يختار بن بريك أن ينسج نصه "وهران" عبر الحوشي والمهمل من المعجم، وأهمها المعجم الجنسي المستبعد من الخطاب المكتوب، وهو معجم الخطاب الشفاهي التونسي، وهو معجم ذكوري في ظاهره، لكن المتسلل لعالم النساء السري سيكتشف أنه هو نفسه المعجم النسوي، وهو معجم يجد أصوله عند الشيخ النفزاوي والشيخ التيفاشي.
يقول في وصف زعرة بنت الشيخ هراس: "زعرة بنت هراس تعشق الرجال، تموت ع العصبة، داها في النم، أعطيها الزب، زب طويل، قصير، عريض، جويد، زب زب، تتهد، تركح، تريض، تفشل، تسلم أمرها للرحمان، تشوف راجل من بعيد، شاقق الطبايب، لعبوزتها تسيل، زبورها يتحل ويتبل، صدرها يلاجي، زعكتها تفقص، جواجيها تشعل. من بعيد تسمع حرقتها وتشم صنان ضبابيطها، كالكلبة كتصرم ع البشولة، ما تفك علاها إلا ما إطلع من الكلب لقاز".
إن الإيقاعية التي يكتب بها بن بريك حكايته ليست مستلهمة من فن المقامة أو من الشعر الملحون أو من القرآن، بل هي ايقاعية منحدرة، على الأرجح، من دعاء الشر على ألسنة الأمهات في أرياف تونس، لذلك فالايقاع في جملة بن بريك جزء من الإرعاب: زراعة الرعب في الآخر عبر استحضار الفظيع، بالمبالغة في رسم الصورة وتلويثها أو الرجوع بها إلى بدائيتها.
يكتب بن بريك تاريخ تونس السياسي والاجتماعي عبر ما يسمى بالكلام النابي، ولكن متى كانت الكلمة غير نابية، وما قيمة الكلمة إذا لم تجرح ولم تخدش ولم تحرج؟ الأنياب في نص بن بريك لا تتعلق باللغة والمعجم فقط، إنما المخيال الذي يتحرك فيه الكتاب كله متوحش مستنفر، والكتاب من غلافه يحمل صورة وحش كاسر: الأسد الذي يتحدث عنه الراوي داخل الكتاب، أسد إفريقيا المتوحش، الذي يمثل الرجل كما يراه بن بريك، مستنداً إلى وقائع تاريخية بوجود الأسد التونسي الفريد صاحب الأنياب الخطيرة، وكأن في هذا الاستحضار تحريضاً على استعادة التونسي، ذلك الكائن الذي كان يروض الأسود المتوحشة؛ الثائر علي بن غذاهم.
الحكاية تبدو في ظاهرها حكاية شبقية، ففي "وهران" الكل يضاجع الكل بلا رحمة. لا شيء يقاس قيمته إلا بقدرته على المضاجعة، الرغبة المتجددة، طول القضيب، عمق الفرج ووحشيته، ولكنها أيضاً حكاية تونس...
تونس والتوانسه في نص بن بريك
يقدم بن بريك تونس والتونسيين كما تقدم الأم ابنها في الريف التونسي، هو من ناحية، أسد الأسود أمام الناس وتتباهى به فحلاً من صلبها، لكنها لا تتردد في مناداته بالمأبون و"الخنثاوي" إذا استلزم الأمر، وهي تنهره إذا ما عصى لها أمراً في البيت: مملكتها. هذا الحس الأمومي المركب بين الحب والسخط هو الذي يحرك بن بريك وهو يكتب تونس والتونسيين.
فبعد أن يتغنى بإفريقيا وبأهلها في الصفحة 11، عندما يقول: "مانعرفش وعلاش، كنبدى في فريقيا، نحس روحي حاجة كبيرة، محمي، راسي، مرفوع بأولاد بلادي، يتكلمو كيفي، يتعاركو كيفي، ما نحسش روحي غريب، خايف .." ثم ينقلب على إفريقيا/ تونس في الصفحة 64 ويكتب: "وين تحسب روحك عايش. راك في فريقيا، بر الغمة والغشة والغدرة والغورة والتغفليج والغُنج، شي ما سلم منهم، راهم وكالة الزقوقو والشمنكة والشخشوخة والكلاب في القلة ومرارة الذيب.."، لينفلب من جديد في الصفحة التالية ليهجو التوانسة في نبرة مديح: "يا ولدي راهي ملة كلبة، شيء ما يصعب علاهم، يقدو بالزبل، يمشو عالجمر...يحطو السكينة حمرا نار على لسانهم، عاشروا الجنون وطلعوا للنجوم، ولاد القحبة..."
والحق، إن عبارة "أولاد القحبة" تختصر كل سر اللهجة التونسية، فهي تمدح عندما تبدو لك تهجو، فأولاد القحبة هم الأذكياء القادرون والفاعلون دائماً.
رواية الأفكار عبر الإيروس
خلافاً لما تبدو عليه الحكاية في وهران، ليست هذه قصة حب من الخرافات أو تدفق لغوي جنسي، إنما هي رواية أفكار حول قضايا المجتماعات العربية وقضايا تونس المعاصرة، من فقر وكبت وتدهور أخلاقي وسياسي، خيانة وجهل بالمعارف وبالأجساد والذوات، وبالرجال والنساء، ونص يعيد مساءلة مفهوم الفروسية، حتى أن بن بريك لا يترك موضوعاً إلا ويطرقه بتكثيف كبير، لكنها كتابة لا تحقق طمأنينة بقدر ما تنتج تلك الحيرة، فهي تقول الفكرة ونقيضها. لكن المتابع لبن بريك سينتبه إلى أن كل تلك الفوضى المدبرة بعناية صارت أسلوباً، ذلك الأسلوب في معناه في قصيدة بوكوفسكي "الأسلوب"، التي يقول في مطلعها، بترجمة عبد الكريم بدرخان:
"الأسلوب...جواب لكل سؤال
طريقة بديعة لمقاربة شيء ممل أو خطير،
أن تصنع شيئا مملاً بأسلوبك
أفضل من أن تصنع شيئاً خطيراً دون أسلوب،
أن تصنع شيئاً خطيراً بأسلوبك
هذا ما أسميه: فن".
كتاب بن بريك وهران الذي تحفظ على تجنيسه أدبياً، يمكن أن تموقعه أينما تريد، في القصيدة، في الرواية، في الحكاية الشعبية، في الملحمة الشعبية، في الكتب المقدسة الجديدة للجماعات الخاصة، كتاب يشبه بن بريك ووطنيته ونضاله: معركة مع اللغة وبها.
وهي كما وصفها الراوي آخر الكتاب: "حكاية وهران مجنون زعرة ماهياش حقيقة/ مهياش كذبة، حكاية واكاهو، كالصدفة تعيشها إذا حبيت...لحكاية ما تحكمش فاها كلمات صالحة وإلا موش صالحة، فمة حكاية وحده، وحده ثنين، في كلمتين: دنيا وموت".
هامش: تعترض القاريء غير التونسي مصطلحات كثير إيروسية غير معروفة، هي في الغالب أسماء القضيب، المؤخرة أو الفرج، ومنها، القضيب: زب، عصبة، بشولة. الفرج: العص، الزك، الزبور. المؤخرة: الزعكة، الترمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع