شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"عيلة وخالها ميلاد"... محاولة لرسم "الرجل" كما تخيله الليبيون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 22 فبراير 202105:37 م

أمضيتُ وقتاً لا بأس به من حياتي لمحاولة رسم الصورة المثلى للرجل الليبي، أردتُ صورة غير كاريكاتيرية، واضحة، بعيداً عن الانحياز لأي شكل فكري، بحثتُ في الأدب والدراما والموسيقى والتاريخ الليبي عن ذلك الرجل.

قد يبدو الرجل في ليبيا مجرد نسخة أخرى من رجال الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهو أمر به من الصحة ما به من الخطأ. خصوصية الرجل الليبي (كخصوصية المرأة الليبية) تكمن في التجارب والتاريخ الذي لم يخضه غيره من الرجال حول العالم.

ليس لدى الليبيين صورة موحّدة للرجل، لكنهم وجدوا صورة الضد أو كما أحب تسميتها (Anti-Man)، تخرج هذه الشخصية من تعبيرات شعبية، اختلفت، وتناقلتها الأجيال من "زنّيلّو" و"طرطور" و"دلدول" و"مسكسك"، تعبيرات تصف الرجال الذين يشوهون صورة الرجل، بخضوعهم، وشخصياتهم المهزوزة في نظر المجتمع، رُبِط هؤلاء بالكلب "المسكسك"، وتعني الخائف من ظله والذي لا يملك أمره.

الرجال وحوش، وفي وحشيتهم يختلفون.

الرجال وحوش، وفي وحشيتهم يختلفون. تبددت بعض هذه التعبيرات واندثرت، إلا أنّ نشوء تعبير جديد نسبياً، جعل الليبيين يضربون به عصفوريْن بحجر واحد، الرجال والنساء اللواتي يخضعن لسيطرتهم، يُقال: عيلة وخالها ميلاد.

ولكن، قبل الخوض في رسم صورة لميلاد، هذا الرجل الضد. هذه محاولة تاريخية لرسم صورة الرجل المثالي.

البحار

في القرن التاسع عشر، خاضت الدولة القرمانلية بطرابلس حرباً لسنواتٍ أربع مع الولايات المتحدة الأمريكية، صعدت مجموعة من البحّارة الليبيين إلى ظهر الفرقاطة فيلادلفيا، وأغرقوها مشعلين فيها النار.

قبل ذلك، كانت القوة البحرية الطرابلسية تغير على السفن السويدية. كانت البلاد الواقعة تحت سيطرة يوسف باشا القرمانلي مصدر قلق في البحر الأبيض المتوسط.

مجّد أبناء مدينة طرابلس بالذات البحّارة، إذ وجدوا فيهم صفات رجولية ليست في غيرهم، الإقدام، الجرأة، محاربة البحر ومجابهة الأعداء داخله.

كان البحر دائماً هو العدو عند الليبيين، سمّوا بحرهم "الأزرق" تطيراً منه. وبهذا، كان من السهل أن يصيغوا أمثالاً تمجد من يركبونه ويتمكنون منه ويصنعون أمجادهم فيه. وُلِد إثر ذلك مثل يقول: ما رجال إلا رجال البحر.

"عيلة وخالها ميلاد"... محاولة لرسم "الرجل" كما تخيله الليبيون

الفارس والجندي

" فارس" كلمة واحدة تصف الرجل المثالي. بعيداً عن النظرة الغربية للفرسان، كان للفارس الليبي هيبته منذ القدم في الشعر والمخيال الليبييْن حتى قبل الحملة الإيطالية على طرابلس في القرن العشرين، إلا أنّ هذه الحملة جعلت الفارس المجاهد، المناضل هو الرجل المثالي الذي يجب أن يشب الجميع على احترامه والاقتداء به. لم يكن هناك رجال إلا الفرسان. لأنّه، كما يقول المثل "التريس ماتت في الهاني".

الترّاس، صورة أخرى للرجل الليبي، صورة أكثر خشونة، هناك رجال وهناك تريس. الهاني هو تعبير عن معركة الهاني (مكان في ضواحي طرابلس العاصمة) التي خاضها المجاهدون الليبيون ضد الاحتلال الإيطالي في طرابلس، خسرت القوات الليبية الكثير من الفرسان فيها، إلا أنّها سطرت ملحمة من ملاحم النضال. صار الليبيون الذين عاشوا تحت حكم الاحتلال يتحسرون على خسارة رجال الهاني.

في 2019، مات أحد قادة الجهات المسلحة في ليبيا، قال لي صديقي إنه سرق وقتل وعذّب وافتعل الفظائع، لكنّه أتمّ كلامه بعبارة: "مات راجل"، فماذا تعني الرجولة في خيال البعض؟

في الثمانينيات والتسعينيات انتشرت في البلاد موجة تقليد "القائد"، كان معمّر القذافي الصورة الكاملة للرجل، لهذا أصبح الموظفون الحكوميون ورجالات الدولة يقلدون طريقة لبسه، وتصفيفة شعره، وحديثه وأفكاره التي يؤمن بها، وهذا أسلوب متبع في الكثير من الدول الديكتاتورية. بات العمل في الجيش الليبي قمة الرجولة، وتحولت صورة الفارس لصورة الجندي.

مات الرجال في معارك أخرى غير الهاني، " التريس ماتوا يوم السبت"، "التريس ماتوا في تشاد"، "التريس ماتوا في الثورة"، "التريس ماتوا في التبّة". انتقل المثل لكل معركة تموت فيها مجموعة من الرجال، سواء كانت المعركة رابحة أم خاسرة، المهم أن الرجال الحقيقيين القادرين على افتعال التغيير هم من يموتون في النهاية، قتلاً وإن كانوا مجرد مراهقين، كأولئك الذين ماتوا في تشاد من أجل مجد العقيد الراحل معمّر القذافي.

الرجل المعصوم

في 2019، مات أحد قادة الجهات المسلحة، أخبرني صديقي بمثالب الرجل، قال لي إنه سرق وقتل وعذّب وافتعل الفظائع في حق الرجال والنساء، لكنّ صديقي على غير عادته أتمّ كلامه بعبارة بسيطة جعلتني أضحك، قال لي: "مات راجل".

الأمثال والتعابير الشعبية ليست مجرد دليل على كيف كان يعيش الأولون، كما أنّها ليست تاريخاً شفهياً محفوظاً يمكننا من رسم ملامحهم وآثارهم فقط. إنّ نجاتها واستمرارها على ألسن الناس في عصرنا، دليل على قوة تأثيرها، لكونها كتاباً مقدساً غير مكتوب، للعيش والعلاقات الاجتماعية بين أبناء المجتمع.

الرجل في الأمثال الشعبية هو الحامي، المربي، صاحب الرأي الأخير في كل أمور الحياة. صورة تشبه الصور الشعبية لدى شعوب المنطقة، ولكن الليبيين عرفوا بأنّه من الخطأ معايرة الرجل بما يملك من مال، لهذا فضلوا أن يعدلوا المثل "الراجل ما يعيبه شي إلا جيبه"، ليصبح " الراجل ما يعيبه شي"، وهو قادر على تربية زوجته، فالمرأة "تتربى مرتين، مرة في حوش بوها ومرة في حوش راجلها".

وهذا أمر ملامحه واضحة في الثقافة الليبية وكيف تتعامل مع الأوضاع المحرجة للعصاة في نظر المجتمع. "الراجل رحمة ولو كان فحمة".

"عيلة وخالها ميلاد"... محاولة لرسم "الرجل" كما تخيله الليبيون

أشكال حاضرة في الفنون الليبية، وفي المسلسلات الدرامية والكوميدية وفن الكاريكاتير. يحضر الرجل في رسومات فناني الكاريكاتير وعلاقته مع الأنثى ككائن متوجس من المجتمع المحيط، يعمل ككلب راعٍ على حماية القطيع.

الرجل وحش، ليس معصوماً من الخطأ فقط. تظهر هذه الصورة أيضاً في بعض الأمثال الشعبية، "الراجل ما يبكيش"، "راجلك على شن تعوديه"، "الراجل باب ع الكلاب". ويقابل "المسكسك" الرجل "الواعر"، كلمة أخرى تستخدم لوصف الكلاب. لا يوجد كائن آخر يشارك الرجل في هاتيْن الكلمتيْن في اللهجة الليبية سوى الكلاب. وإذا نُظِر للكلاب في المخيال الليبي، فسيعرف المرء أنّه ينظر لها كحيوانات متوحشة، لكن مدى توحشها في يد المرأة، لأنّها ليست قادرة على التحكم في غرائزها.

رجال مدينتي

في الحرب التي بدأت في نيسان/إبريل 2019 على مدينة طرابلس، انتشرت مقاطع فيديو تتوعد آكلي "البريوش" والزبادي بالتعرف على الرجال الحقيقيين في المعركة، فجّرت هذه المقاطع موجات من خطابات الكراهية بين الشرق والغرب، صار المتظاهرون ضد الحرب يحملون "البريوش" كرمز يفتخرون به لرجولتهم بينما يسخرون من رجولة الآخرين الرجعية التي لا تزال تفطر على سندويتشات الفاصولياء.


يبدو الأمر مجرد حرب كلامية بين المدنية والتخلف تارة، وخطاب كراهية لزيادة التحريض على الحرب تارة أخرى. إلا أنّ لهذا الأمر جذوره في الثقافة الشفهية، يسخر شعراء القرى من أبناء المدن وأسمائهم وطريقة كلامهم وملابسهم التي تتعارض مع مفهومهم للرجولة، ويفعل ذلك أبناء المدن أيضاً، الذين ينظرون لأبناء القرى كمجموعة من المتخلفين. هذا الأمر لا يتوقف على مدينة طرابلس فقط.

يحكي لي صديق نكتة سمعها في خدمته العسكرية بالشرق الليبي، عندما كانت مجموعة من أبناء مدينة درنة مجندين جدداً في المعسكر، أمر الآمر جميع الجنود بالبروك تحت الشمس لساعات، ولكن أحد أبناء المدينة سأله سؤالاً يوضح نظرة المجتمع في الشرق لأبناء درنة: حتى حني يا أفندي؟ (وتعني حتى نحن يا سيادة الضابط للأعلى رتبة).

تنتشر في مدن أخرى مقولات توضح مدى رجولة أبنائها. "نحنا تريس تاكل في الضب، مش عصير عنب"، جملة يستخدمها أبناء البادية الذين يأكلون حيوان الضب ولا يشربون عصير العنب كأبناء المدن.

"عيلة وخالها ميلاد"... محاولة لرسم "الرجل" كما تخيله الليبيون

"عيلة وخالها ميلاد"

في إحدى حلقات المسلسل الرمضاني " قالوها" في موسم 2003، يتعارض نموذجان لرجليْن في جلسة بمقهى يتحدثان فيها عن تعاملهما مع زوجتيهما، يظهر الأول كمتسلط على المرأة بينما يخبره الآخر أنّ عليه احترامها وأنّ الحياة الزوجية مشاركة، تظهر لقطات من حياة كل واحد منهما، فتصور الكاميرا "المتسلط" كزنيلّو، أمر مقصود ليأخذ شكلاً كوميدياً لرجل تتحكم فيه زوجته، ويظهر "المحترم" كرجل متسلط على زوجته. تسخر الحلقة من ازدواجية المعايير لدى الرجل الليبي.

الخال ميلاد خطر على هُوية الرجل في ليبيا وصورته، إنّه الرجل الآخر، الذي يطبخ للمرأة الحاضرة في حياته، ويرقص معها، ويغني لها، ويكوي ملابسها، ويغسل الأواني، وينصت لها، ويبكي لجرحها وآلامها

"عيلة وخالها ميلاد"، جملة ساخرة تضرب هدفيْن، المرأة وولي أمرها. تروج هذه العبارة في العادة عندما تُنشر صور أو مقاطع فيديو لفتيات "خارجات" عن سلطة المجتمع، أو عندما يتحدث رجل ما عن حقوق المرأة والحرية والمساواة بين الجنسيْن والشراكة الزوجية. تنتشر مجموعة من "الميمز" التي تحارب مثل هذه النماذج ووجودها في المجتمع، نماذج يراها من يستخدم العبارة تعبث بالمجتمع الليبي وثوابت الأسرة. استطاعت العبارة على عكس بقية التعبيرات الشعبية أن تنتشر لقدرتها على التكيف مع وسائل التعبير الجديدة كالميمز.

محاولة البحث عن أصل هذه العبارة هي محاولة فاشلة، لم تظهر العبارة على الإنترنت في ليبيا قبل العام 2011، هذا ما تشير إليه نتائج البحث على محرك البحث Google على أيةِ حال، يعود الأمر لأنّ الإنترنت لم يكن منتشراً بهذه الكثافة في البلاد. هذه العبارة ليست موجودة في أي من الكتب التي قرأتها عن الأمثال الشعبية، والتي تفصل العلاقة بين الرجل والمرأة.

ما يلفت النظر في هذه العبارة هو رغم محاربتها جميع أشكال تحرر المرأة، ترجع الأمر ليس فقط لغياب السلطة الذكورية، بل لتشجيع هذه السلطة لهذا "الانحلال".

الخال ميلاد خطر على هُوية الرجل وصورته، إنّه الرجل الآخر، الذي يطبخ للمرأة الحاضرة في حياته ويرقص معها ويغني لها ويكوي ملابسها ويغسل الأواني وينصت لها ويبكي لجرحها وآلامها، كما أنّ في طريقة حديثه بعض "الأنثوية"، كما يفهمها الليبيون، ويشجع "أنثاه" على التحرر من سلطة المجتمع لا لكونه مغلوباً على أمره، بل لأنه مقتنع بما يفعله.

قد يرتدي الخال ميلاد الوردي بفخر، وربما يشرب مع نسائه ويصورهن عاريات، هو الرجل "الديوث"، منزوع الغيرة والرجولة.

الخال ميلاد هو الرجل العار. الرجل الضد. صورة لما يخافه الجميع. وكأنها الصورة الوحيدة التي اتفق الليبيون على أنّها لا تمثل الرجل الليبي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image