منذ ظهور رغد صدام حسين على شاشة العربية، وأنا أفكر في مجموعة معارف وأصدقاء عرفتهم من أماكن مختلفة، وهم من أبناء قيادات البعث العراقي، أو عاملين فيه. كانوا دائمي الشكوى من عائلاتهم، وعلى خلاف سياسي عميق معهم. ليسوا جميعاً كذلك بالطبع.
بالطبع كانوا لا يعلنون ذلك خوفاً وخجلاً، بعد فترة قد يفصحون عن السر لأحد، كنوع من التعارف الأعمق، كأن يقولون لك: "انظر، هل يمكنك أن تفهم سبب عقدي الآن؟"، يقولها أحدهم وينتظر منك أن تتعاطف معه لأنه يعيش مع هذه الفكرة، لأنه يعيش مع أب "مجرم".
انخرط بعضهم بالثورات العربية في الدول التي أقاموا فيها، وآخرون حاولوا العمل مع المنظمات، أي شيء يسلخهم عن هذا الإرث الثقيل، فيما كان آخرون من أمثالهم يتفاخرون بهذا الإرث.
لكننا الآن يا رغد لسنا جيلاً محاصراً بأسوار قصور صدام حسين التي قبعت فوق صدور أهلنا.
عاماً بعد عام، كانت ترتبك العلاقة مع العائلة أكثر، الأب يتراجع أمام ابنه الشاب الذي لا يؤمن بالبعث ويخجل منه، حتى جاءت رغد لتحتل الشاشة في بيوت العراقيين.
ما يُعرض على التلفزيون يسيطر على العائلة، يدخل أجواء المنزل ويصبح جزءاً منه. عائلتي اليوم تتابع رغد، وبشكل مرتبك يعترفون بجهلهم السياسي السابق، يعترفون لأول مرة أمام أبنائهم، الذين صاروا كباراً، بخطأ أنهم كانوا مؤيدين لنظام صدام حسين. يراجع أبي أحداثاً لم ينتبه لها في ذلك الوقت، لم ينتبه إلى كونها خاطئة، لم يكن يمتلك الوعي السياسي على حد قوله. يضيف: "ما كان أكو مجال أصلاً يكون عندي وعي سياسي، طالما صحني مليان يعني كل شي صح". يقول إنه لم يكن يعرف أن باقي الصحون فارغة ومكسورة فوق رؤوس أصحابها، وإن عرف فإنهم يخبروه بأن هذا جزاء يستحقونه.
تعترض أمي، مذكرةً بأن الوضع في العراق كان أفضل وقتها، فيجيء الرد مني ومن إخوتي بأن أي يوم سلام قد حظيت به فهو ليس منيّة من أحد، ومن المعيب أن تنطق بشيء كهذا. تصمت أمي مقتنعة أو خائفة من هذا الهجوم. أضافت لاحقاً: "رغد غبية"، قالت أختي: "لا يحق لها أن تكون غبية لا يحق لها ألا تفكر وتخجل".
عائلتي اليوم تتابع رغد، وبشكل مرتبك يعترفون بجهلهم السياسي السابق، يعترفون لأول مرة أمام أبنائهم، الذين صاروا كباراً، بخطأ أنهم كانوا مؤيدين لنظام صدام حسين
أتخيل أولئك الشبان الآن، الذين فكروا وخجلوا، جالسين في غرفهم وصوت رغد يصدح من الشاشة، مجبرين على استقبالها في بيوتهم، مجبرين على الاستماع لتمجيدها من عائلاتهم، مجبرين على رؤيتها تدافع بوقاحة عن والدها وإخوتها، وأن تظهرهم بمظهر المظلومين والأبطال دون أن يقاطع ذلك نوبة ضحك، أو وابل شتائم. عاجزين عن النقاش دون أن يطردوا من البيت، دون أن يتلقوا وابلاً من الشتائم والبصاق. مأسورين بهذا الإرث، وبهويات مستعارة يستخدمونها مع الناس لتجنب الشعور بالعار.
ما يزيد الأمر سوءاً هو أن اللقاء معها يعرض على حلقات يومية، وكأنه مسلسل رمضاني تجتمع العائلة لمشاهدته، وبدلاً من أن يكون نشاطاً عائلياً تشاركياً – يتشاركون الغضب في هذه الحالة – يتحول إلى جحيم وصراع سياسي. أتخيلهم جالسين في غرفهم، يتجنبون سلطة التلفزيون التابعة للأب، ويضحكون سراً على النكات المتداولة عن رغد وتصريحاتها في مواقع التواصل الاجتماعي، مستفيدين من سلطة الضحك التفاعلي على الإنترنت، يدعونا نشاهد هذه الضحكات، هذه السخرية، نحن الذين نعرف هوياتهم الحقيقية. يضحكون من كلام "الست رغد" التي يتم تقديسها في بيوتهم، ويتخيلون بيوتهم في المستقبل بدون هذا الإرث، سيكون أبناؤهم أكثر حرية.
قال لي أحدهم إنه سعيد بنظام التسمية العراقي: الاسم ثم اسم الأب ثم اسم الجد. الكنية ليست أمراً مستخدماً كثيراً في العراق. بهذا النظام سيتمكن ابنه من التخلص من اسم جده، لن يبقى من اسم القائد البعثي سوى اسمه الأول، وبهذا لن يعرفه أحد، وبعد جيل آخر سيختفي: "رح يكون حر مو خايف من أبوه وعاجز أن يحط عينه بعين أحد".
الوعي السياسي – أو عدمه – ليس وراثياً، وإن كان هذا ما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا فنحن نثور ضده. نحن فكرنا وخجلنا، فلماذا تعجز رغد عن هذا الخجل؟ لماذا تتجرأ على أن تقتحم بيوتنا وتتحدث عن أبيها كما لو كان رجل سلام
قلت له بأني أتمنى أن ينسى جميع الناس علاقة الطائفة بالرأي السياسي، وأن نكون قادرين على رؤية بعضنا البعض كبشر، على أننا كائنات تملك رأيها الخاص بغض النظر عمّا نشأت عليه. ذكرته وقطعت عليه تفاؤله بأننا خارج العراق نُسأل عن صدام لغرض معرفة الطائفة! لا يمكنني أن أحصي المرات التي أراد بها أحد معرفة طائفتي، لكنه يخجل من صيغة السؤال، فيحوله لـ "ما رأيك بصدام حسين، هل تحبينه؟"، وبناءً على إجابتي يفترض ما هي طائفتي. لكن ربما لو ناقشتهم جميعاً ستمحى الفكرة من رؤوسهم يوماً ما، ربما سنتمكن من إزاحتها لو تكلمنا.
الوعي السياسي – أو عدمه – ليس وراثياً، وإن كان هذا ما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا فنحن نثور ضده. نحن فكرنا وخجلنا، فلماذا تعجز رغد عن هذا الخجل؟ لماذا تتجرأ على أن تقتحم بيوتنا وتتحدث عن أبيها كما لو كان رجل سلام. لكننا الآن يا رغد لسنا جيلاً محاصراً بأسوار قصور صدام حسين التي قبعت فوق صدور أهلنا، يمكن لأي مراهق أن يعرف كيف عاش العراقيون وإن كذب عليه أبوه، هل حقاً تصدقين أباكِ؟ نحن لا نفعل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...