شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
دردشة مع كيفورك كساريان... سيرة الفنان في اختفاءاته

دردشة مع كيفورك كساريان... سيرة الفنان في اختفاءاته

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 23 فبراير 202111:49 ص

تمكّن الكاتب اللبناني فادي توفيق من الوقوع على جزء من الأرشيف الخاص بـكيفورك كساريان، أحد المخرجين اللبنانيين الواعدين قبل الحرب الأهلية، والذي اختفى عدة مرات، مُحيّراً أصدقاءه والسلطات اللبنانية والفرنسية.

إذ أقام كساريان آخر حياته في باريس، وترك وراءه مراسلات ومخطوطات مشاريع متنوعة، تتجاوز السينما نحو التفكير بالسينما والفن نفسه، مُتحرّكاً بين الأشكال الفنية والمفاهيم النظرية، في محاولة لتحديد هويته الفنية التي تتصارع بين التعريف الرسمي والمعترف عليه "مخرج، كاتب، مصوّر..."، وبين الرغبة بالانعتاق من أي وسم، ما ترك كساريان، حسب تعبير بيير بورديو، في نصه "اختراع سيرة الفنان"، ضمن "اللا تعيين"، أي عجز عن تحديد الصفة الفنية التي يجب تبنيها، ما جعله يسعى دوماً لـ"نفي كل محدد اجتماعي وسياسي يمكن أن يهدد الشرط الفني"، بالتالي نحن أمام فنان لا تظهر سيرته إلا ضمن محاولاته الجمالية.

يبدو كيفورك كساريان واثقاً بـالفن كأداة تخاتل الواقع، مُتنقلاً بين الأنواع الفنية، فلا إطار قادر على تحديد رؤيته، هو ليس صاحب مشاريع غير منتهية، بل مشاريع تحاول أن تعيد النظر بمفهوم الإطار الذي يفصل "الفني" عن "اللافني"

نشر فادي توفيق ما يدّعي أنه "وجده" عن كساريان، في كتاب صادر عن دار نوفل، بعنوان "الأعمال غير المكتملة لكيفورك كساريان"، تحت علامة تجنيس "رواية"، ويظهر توفيق هنا أقرب لـ"جامع-collector"، بالمعني البينجاميني، منه لمؤلف، أو واحد من مؤلفي سيرة كساريان، إذ يلملم فادي توفيق آثار المخرج الإشكالي من بيروت وباريس ومخيلة أصدقائه، لنرى أنفسنا أمام اختفاءات لكساريان، الذي يتلاشى عدة مرّات أثناء حياته، ولا "يظهر" إلا كفنان يوشك دوماً على البدء بمشروع ما، إذ لا وجود له إلا في العمل الفني الذي يتحرك ضمنه، وهو الرهان الأشد على الاختفاء.

فلا اكتمال في العمل الفني، بالتالي، لا اكتمال لكساريان نفسه، وكلما أمعن في البحث عن موضوعة فنية كلما تلاشى كفرد وظهر كفنان، أو كما نتلمس في نهاية الكتاب، ربما هو نفسه موضوعة فنية تبحث عن بداية، السؤال الأشد صعوبة، كون النهايات، وإن كانت الاختفاء، تفترض بداية ما: بداية الحرب الأهلية؟ بداية بيروت ما بعد الحرب؟ بداية الفيلم؟ بداية الرواية؟ بداية حياة الفنان؟ كلها "بدايات" مفترضة لنهاية معروفة: اختفاء كساريان.

تواصلنا مع فادي أبو خليل، الاسم المستعار الجديد لكيفورك كساريان، الذي أُعلن اختفاؤه رسمياً بعد تحقيقات الشرطة الفرنسية واللبنانية، وحاولنا أن نستوضح منه بعض المفاهيم الروائية والفكرية التي وجدناها في مراسلاته ونصوصه، خصوصاً فيما يتعلق بالمؤلف، أو المؤلفين الذين يظهر اسمه بينهم، فأجاب أنه حاول، في كل ما تركه من آثار، ألا يفضح ما يشير إليه كشخص، يأكل ويشرب وينام ويحب ويكره، وهذا ما يتضح في ردوده على أصدقائه حين كان في باريس، فحياته الشخصية غير مهمة أمام صورته كـ"فنان"، وأمام المؤلفين الذين يزعم توفيق أنهم حاوروه أو عملوا معه، إذ ينعتهم كساريان بالمُقتبسين المحترفين، خصوصاً المدعو فادي توفيق، الذي مهر اسمه على غلاف الرواية.

أقام كساريان آخر حياته في باريس، وترك وراءه مراسلات ومخطوطات مشاريع متنوعة، تتجاوز السينما نحو التفكير بالسينما والفن نفسه، مُتحرّكاً بين الأشكال الفنية والمفاهيم النظرية، في محاولة لتحديد هويته الفنية التي تتصارع بين التعريف الرسمي والمعترف عليه "مخرج، كاتب، مصوّر..."

يضيف كساريان أن اختفاءاته و صورة الفنان المتلاشي مدروسة بدقة، كل رسالة يظن توفيق أن كساريان تركها، احتفظ بها أو أرسلها مُصممة، ليتورط فادي توفيق بدور "المحقق" الذي يبحث عن "آثار" يظن أنها جزء من كلّ مكتمل، لكنها حقيقة مدروسة بأسلوب يجعل حياة كساريان تتكشف وكأنها "تحت المجهر"، ويعقب أبو خليل: "تمكنت من جعل فادي توفيق ينفي صوته كمؤلف عدة مرات، حولته إلى مؤرشف لأعمالي، التي اختفى هو وراءها و ترك لي حرية التعبير عنها 'فيلم سينمائي، معرض تجهيز ... '، ما قام به فادي توفيق أنه خلق فهرساً لكل جهودي البصرية والمكتوبة، وأتاح لي إمكانية إنكارها أو تبنّيها متى أردت".

يبدو كساريان واثقاً بـالفن كأداة تخاتل الواقع، مُتنقلاً بين الأنواع الفنية، فلا إطار قادر على تحديد رؤيته، هو ليس صاحب مشاريع غير منتهية، بل مشاريع تحاول أن تعيد النظر بمفهوم الإطار الذي يفصل "الفني" عن "اللافني". يعقب كساريان على هذه المقاربة، ويؤكد أن "نهاية" العمل الفني مفهوم برجوازي، أو بصورة أدق، مرتبط بالسلطة أو المؤسسة التي تسعى لتملّك العمل الفني وتناقله و تحويله إلى رأس مال، و هذا ما حاول محاربته، ويضيف:

"لا نهاية لأعمالي، ولا يوجد لحظة انتهاء أو إعتام، لأن الجهد الجمالي والتلقي الفني عملية غير منتهية ولا يمكن لأحد تملكها، هي للـ'جميع'، ولكل متلق مهما كان متسرعاً أو خبيراً"، ويضيف: "فادي توفيق الذي لعب دور المؤلف في الرواية التي أنتجها، حَررني من جهد الشرح والترتيب ورسم العلاقة بين اللحظة التاريخية والعمل الفني المرتبط بها، بالرغم من أنه طرح تساؤلات عن الحرب والاختفاء، جاعلاً أفكاري وليدة لحظة ما، لكن بالإمكان، في حال تلاشى اسمي والسياق التاريخي، أن تبقى مقارباتي فعّالة. أظن أني طورت أدوات جمالية أكثر من أني صنعت أعمالاً فنية، وأدين لفادي توفيق فضوله وصبره على تتبع آثاري".

بداية الحرب الأهلية؟ بداية بيروت ما بعد الحرب؟ بداية الفيلم؟ بداية الرواية؟ بداية حياة الفنان؟ كلها "بدايات" مفترضة لنهاية معروفة: اختفاء كساريان

اختار فادي توفيق لتدوين سيرة كساريان لحظة بداية، وهي عام 1971، التاريخ الذي أنجز فيه كساريان مشروع تخرجه من المعهد العالي للسينما في باريس، وهي لحظة التأهيل المفترضة والمعترف بها مؤسساتياً لـ"دخول العالم الفني". أهمل الطفولة وما قبلها وكل ما يمت بصلة للـ"ما قبل"، تلك المرحلة المُهملة عادة في السير، كأن عمر الرعونة والصبا فاقد لجديّته أو لا يمثل حقيقة "الفنان".

الأمر مشابه لسيرة بيروت، المدينة التي اختفى فيها كساريان للمرة الأولى، ماضيها "سياحي" مختزل وحاضرها "صحفي" سياسي، وهنا تظهر سيرة كساريان مشابهة لسيرة بيروت: سعي للنفي يقوم به بضعة أفراد في سبيل استعادة حضور يتجاوز التصنيفات التقليدية المرتبطة بالحرب الأهلية، وكأن الحنين إلى الصبا عجز عن إدراك "الآن" واقعياً وفنياً.

رفض كساريان التعليق على سلسلة الأفكار السابقة الخاصة بطفولته ومقارنتها ببيروت، ونعتها برطانة القرّاء الكسولين، الذين يبحثون عن الأصل الخفي والموارب لإيجاد حقيقة ما، أو لحظة تجلٍّ تغير الماضي والحاضر، و أضاف بغموض:

"هذا الهوس بتدفق الزمن وظهور الفرد ضمنه لا ينطبق على العمل الفني، الذي لا يمكن تأريخه خطياً، إذ يختلف العمل الفني ومعناه وأصله في كل لحظة تلقٍ واكتشاف، ودور الفنان هو الوقوف بوجه من يحاول تأريخ العمل الفني وتقييده، بدليل أني رفضت نشر كتاب لي في فرنسا لهذا السبب، إذ يريدون جعل أعمالي معالم سياحية لطلاب الدراسات الشرقية، والأهم، أي تأريخ مغاير للسياحي لا ينال التمويل، لذا يتجنبه الكثيرون، وهذا ما رفضت ببساطة الانصياع له، إذ لا أريد لأعمالي أن تكون بطاقات بريدية".

ملاحظة: قام أحد التجمعات الفنية، مقرّه في الجميزة في مدينة بيروت، بتنفيذ عدد من اقتراحات كساريان الفنية، دون الإشارة إلى اسمه، ما يعني أننا أمام فرصة لرفع دعاوى ملكية فكرية انتصاراً لفنان مُتخيّل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image