مرّ أربع وخمسون عاماً على رحيل عبقري الموسيقى العربية الفنان الكبير محمد القصبجي، الذي غاب عن دنيانا في نهايات مارس 1966م. "قصب" كما كانت كوكب الشرق أم كلثوم تحب أن تناديه -المولود في 15 أبريل 1892- يكبر "درّة الفن" بـستّ سنوات، تخرج الموهوب الصغير من مدرسة المعلمين، ليبدأ رحلته مع الفن مبكراً.
كان القصبجي يهوى الغناء منذ نعومة أظافره، بدأ طريقه الفني بأداء الأدوار القديمة في الحفلات الساهرة، في تلك الفترة إلتقى بكل من زكي مراد وأحمد فريد وعبد اللطيف البنا وصالح عبد الحي، وساهمت صداقة تلك المجموعة في توهج تجربتهم، لينجحوا في صياغة أفكارهم وتقديم مشاريعهم الخاصة التي شكلت الحالة الفنية المصرية في مطلع القرن العشرين.
الوالد العواد أحمد القصبجي
كان الوالد، أحمد القصبجي، يمارس عمله مدرساً لآلة العود وملحناً لعدة فنانين. وفي وسط تلك الأجواء الفنية عاش "قصب" الصغير أيامه الأولى، لكن الفن لم يعطله عن التعليم، فالتحق بالكتاب وحفظ القرآن الكريم، وانتقل إلى الأزهر الشريف حيث درس اللغة العربية والمنطق والفقه، ثمّ التحق بعد ذلك بدار المعلمين التي تخرج منها معلماً.
أول أغنية مع والد ليلى مراد
أنهى القصبجي مهمته مع التعليم وعاد إلى الموسيقى، فحرص على أن يتعلم ويتقن أصول العزف والتلحين، وساعدته ثقافته العامة في خوض غمار هذا المجال باقتدار.
كانت أولى خطواته على طريق الفن، مع تلحين أغنية "ماليش مليك في القلب غيرك" وتم تسجيل هذه الأغنية بصوت المطرب زكي مراد، والد الفنانة ليلى مراد، لتبدأ مسيرته في الانطلاق.
جدد القصبجي منذ بداياته الفنية وصنع صبغة خاصة لتجربته الموسيقية، مشكلاً علامة فارقة بعد أن قدم أعمالاً سابقة لعصرها في الأسلوب والتقنية، وأضاف للموسيقى الشرقية ألواناً من الإيقاعات الجديدة والألحان سريعة الحركة، والجمل اللحنية المنضبطة البعيدة عن الارتجال، والتي تتطلب عازفين مهرة، على دراية بأسرار العلوم الموسيقية، كما أضاف بعض الآلات الغربية إلى التخت الشرقي.
ملحمة محمد القصبجي مع كوكب الشرق، تسجل نفسها كأحد أبرز المشاريع المركزية في تاريخ الغناء العربي. البداية عندما كانت أم كلثوم ما تزال فتاة ريفية تحاول اختراق الساحة الفنية في القاهرة
لعبة "الست"
ملحمة محمد القصبجي مع كوكب الشرق، تسجل نفسها كأحد أبرز المشاريع المركزية في تاريخ الغناء العربي. البداية عندما كانت أم كلثوم ما تزال فتاة ريفية تحاول اختراق الساحة الفنية في القاهرة؛ تلك الفتاة التي أدركت المخاطر والتحديات التي تواجهها في ظلّ جو الانحلال والهبوط والإسفاف المنتشر في المقاهي والمسارح ذلك الوقت، قررت "فاطمة البلتاجي" الشهيرة بـ"أم كلثوم" أن تواجه ذلك بكلماتها وألحانها وأدائها الراقي. كانت تغني في تلك المرحلة منذ بداية العشرينيات للقرن الماضي، ولمدة 3 سنوات كاملة دون فرقة موسيقية، تطلّ من على خشبة مسرح "كازينو البوسفور" بمنطقة رمسيس خلال فصل الشتاء، ثمّ تنتقل صيفاً إلى مسرح "صالة سانتي" بحديقة الأزبكية.
في عام 1924م تعرفت أم كلثوم على الشاعر أحمد رامي عن طريق الشيخ أبي العلا محمد، خلال إحدى الحفلات التي أدّت فيها أم كلثوم أغنية "الصب تفضحه عيونه"، وكان رامي حاضراً، بعد أن عاد من أوروبا، وأدرك أنه قد وجد هدفه، ليبلغَ محمدَ القصبجي، الملحن المجدد، أن يبدأ مشروعاً بين الثلاثي الذي ستتردد أصداؤه في أشهَر مسارح مصر وما بين المحيط والخليج وصولاً لأوروبا، كما أصبحت الأغاني التي أنتجها الثلاثي جزءاً أصيلاً في الذاكرة الجمعية العربية.
أول فرقة موسيقية مع القصبجي
يمثل لقاء ثومة بالقصبجي أحد أهم التحولات في تاريخها الفني على وجه الخصوص، وفي تاريخ الموسيقى العربية بوجه عام؛ فقد انطلق محمد القصبجي في إعداد أم كلثوم فنياً ومعنوياً مشكلاً لها فرقتها الخاصة، وقام بتأسيس أول تخت موسيقي، بديلاً لبطانة المعممين التي جاءت معها من قريتها طماي الزهايرة، وهو الأمر الذي تسبب في هجوم سيدة الصحافة الكبيرة "روز اليوسف" عليها وعلى بطانتها –طبقاً للعدد التذكاري من مجلة "فنون" تحت عنوان "أم كلثوم" الصادر عن هيئة الكتاب المصرية "ديسمبر 2019م"-، وكان من الممكن أن تتسبب حالة التنمر هذه في إجهاض مسيرة سيدة الغناء العربي وهي لا تزال في المهد، لولا تدخل القصبجي، الذي لعب دور رجل الإنقاذ.
في ذلك الوقت كان والد أم كلثوم، قد قرّر أن يتخلّى عن دوره كمنشد وينسحب هو والشيخ خالد من المشهد. وبعد ذلك بقليل جاء دور القصبجي، الذي أقنع ثومة بأن عليها مجاراة التطوّر والمجتمع القاهري الجديد الذي تعيش فيه والمختلف عن طماي الزهايرة، فخلعت أم كلثوم العقال والعباءة وظهرت في زي الآنسات المصريات، وتركت القصبجي يصنع ملحمته الموسيقية الخاصة خلفها، لتحلق معه درّةُ الفن إلى العرش.
إن كنت أسامح وأنسى الأسية
أعاد القصبجي إنتاج أم كلثوم في قالب جديد يليق بها، ليواجه حالة الهجوم التي قابلتها بسبب فرقة المعممين خلفها، وجاءت نقطة التوهج عام 1928م، عندما غنت "ثومة" مونولوج "إن كنت أسامح وأنسى الآسية" من ألحان القصبجي، حققت الأسطوانة أعلى مبيعات على الإطلاق في ذلك الزمان، ودوي اسم أم كلثوم بقوة في الساحة الغنائية، وصعدت إلى القمة للمرة الأولى.
أقنع القصبجي أم كلثوم بأن عليها مجاراة التطوّر والمجتمع القاهري الجديد الذي تعيش فيه، فخلعت أم كلثوم العقال والعباءة وظهرت في زي الآنسات المصريات، وتركت القصبجي يصنع ملحمته الموسيقية الخاصة خلفها
في نفس العام قدمت أم كلثوم أول ألحانها، عندما لحنت أغنية "على عيني الهجر" لنفسها. وعندما جاء يوم 31 مايو 1934م وافتتاح الإذاعة المصرية، كانت أم كلثوم وفرقتها أول من يتردد صدى موسيقاهم عبر الأثير. وأسرار تلك الخلطة الناجحة تحملها "ثومة" مع "قصب" والشاعر أحمد رامي، ومن قبلهم الشيخ أبو العلا محمد، الأب الروحي لكوكب الشرق.
تركيبة "قصب" المعقدة والتمثيل
رغم كلّ ما تردد عن خلافات أم كلثوم والقصبجي في السنوات التي تلت الانطلاقة الأولى، إلا أن القصبجي بقي ركناً أصيلاً في فرقة الستّ، وظلت الانطلاقة الأولى تشهد على مجدهما سوياً. حالة فرقة الست الفنية خطفت قلوب البعض في أوساط الدراما والفن التشكيلي، حيث قام الفنان التشكيلي د.إبراهيم الدسوقي، بتوثيقها في إحدى لوحاته.
الفنان المصري الراحل أحمد راتب تحدّث في أحد لقاءاته التلفزيونية عن المعاناة التي قابلها مع أداء دور القصبجي في المسلسل التلفزيوني "أم كلثوم"، وقال إنها شخصية صعبة على المستوى الدرامي، موضحاً أنه تقمص الشخصية ودخل في تفاصيلها. يقول راتب في أحد أحاديثه التلفزيونية: "كنت أشاهد صور القصبجي ومقاطع من حفلات الست أم كلثوم، ومن هنا كنت أذهب إلى البيت وأحاول تقليد شخصيته وطلته. فكنت أقوم بتجميع شعري إلى الخلف ولصقه بمادة تجعلني أبدو مثله تماماً، وبالتالي حاولت أن أغوص في أعماق الشخصية من نظرة وحركات القصبجي".
اكتفى القصبجي من الفن بدور الملحن، إلا أنه شارك ممثلاً سينمائياً لمرة وحيدة في عام 1944، في فيلم "ليلى في الظلام". لعب عبقري الموسيقى دور الرجل الكفيف في الفيلم الذي شارك في بطولته ليلى مراد وأنور وجدي وحسين صدقي وأمينة رزق. كما أثرى القصبجي الأفلام السينمائية بموسيقاه التصويرية، وشارك في أكثر من 30 عملاً سينمائياً، كان آخرها "حدث ذات ليلة" عام 1954.
الشخصية المعقدة التي تحدث عنها الفنان أحمد راتب، ضحت بكلّ غال ونفيس من أجل الفن. ورغم كل المجد الفني الذي حققه القصبجي منذ تأسيسه لفرقة أم كلثوم، وتقديمه ألحاناً شغلت الأفئدة العربية بمصاحبة صوت أم كلثوم، كتب القصبجي، صاحب "رقّ الحبيب"، في نهاية أيامه مقالاً بمجلة "الاثنين والدنيا" يرثي فيه نفسه، وسوء أحواله المادية، بعد أن أصبح لا يملك من المال إلا القليل، فلم يكن له مصدر دخل إلا من عمله عازفًا في فرقة الست، داعياً المسئولين في الدولة إلى النظر في حاله بعد أن أصبح يشعر بالندم على عمله في الفن.
تأثيرات "فرقة الست" التي وضع القصبجي حجر الأساس لها في عشرينيات القرن الماضي فاقت كلّ التوقعات، ونجحت الستّ وفرقتها في حجز مواقعهما (الستّ والفرقة) كأيقونة مقدسة في حياة المصريين. الناقد الفني الشهير، جودون جسكيل، وصف الحالة الكلثومية في مجلة "لايف" الأمريكية قائلاً: "إن تغييراً يشمل حياة الناس في الشرق الأوسط على اختلاف طبقاتهم وأعمارهم وعقائدهم مرّة في كلّ شهر، ودائماً في العاشرة مساءً، فالمرور يكاد يتوقف في القاهرة، وفي مقاهي الدار البيضاء تختفي الطاولة، وفي بغداد يترك الأغنياء تجارتهم والمثقفون كتبهم، وتفرغ الشوارع من المارة، وكلهم آذان تتركز على إذاعة القاهرة في انتظار أم كلثوم".
احتفظت فرقة أم كلثوم بتشكيلها الأساسي عبر عقود طويلة، منذ التأسيس على يد محمد القصبجي في العشرينيات، وحتى نهاية مشوار كوكب الشرق في السبعينيات، من أبرز أسماء الأعضاء التاريخيين في فرقة أم كلثوم -كما يوثقهم كتاب "معجزة الغناء العربي" للدكتورة رتيبة الحفني-، كلٌّ من محمد عبده صالح، عازف القانون ورئيس الفرقة، وأمامه القصبجي على العود، ويجاوره أحمد الحفناوي، عازف الكمان الأول، وسيد سالم على الناي، ومدحت طه عازف الأكورديون، وعباس فؤاد على آلة الكونترباص، ومجدي بولس عازف التشيللو.
كما شهدت الفرقة دخول العديد من الوجوه الجديدة خلال الخمسينيات والستينيات وحتى وفاة أم كلثوم منتصف السبعينيات، منهم عمر خورشيد وعبده داغر، ومجدي الحسيني عازف الأورغ، وكتكوت الأمير عازف الطبلة، و أحمد فؤاد حسن، خلفاً لعبده صالح، على ألة القانون.
وقف هذا الفريق خلف أم كلثوم لعقود، وأشعل المسارح العربية وصولاً لأوروبا، ولا تُنسى أبداً الليالي الكلثومية على مسرح الأوليمبيا في العاصمة الفرنسية باريس، ومعها سلسلة من ليالي الخميس الأول من كل شهر، ذلك الحدث الخالد في تاريخ الفن العربي، والشعب العربي ينتظر أم كلثوم والقصبجي ورامي ورفاقهم الذين حكموا المزاج العربي لعقود تحت راية "سلطنة فرقة الست".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون