شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"بتعرف ليش سوريا بيعتبروها من دول العالم الثالث؟"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 19 نوفمبر 202001:03 م

لم يتوقف المسؤولون في سوريا عن محاولاتهم في إضحاك الآخرين ضمن أفعال وقرارات تصدر عنهم بكل ثقة، لم يعد ينفع استمرار الاستخفاف الذي مارسته هذه المؤسسات تجاه شعبها.

"الحكومة السورية لم تكتف فقط بإعادة اللاجئين وإنما ستسعى جاهدة لتوفير حياة كريمة لهم"، هذه الجملة هي إحدى نقاط البيان الختامي للمؤتمر الدولي حول عودة اللاجئين السوريين.

ماذا تعني الحياة الكريمة؟ ما هي الأفكار التي كانت تدور في خواطر أعضاء المؤتمر عند حديثهم عن الحياة الكريمة؟ هل الاختلاف الواضح الذي وجدوه بين مكان إقامتهم وباقي أنحاء البلاد جعلهم في غفلة عن شكل "حياتنا الكريمة" التي نقضيها في كل يوم؟

على مدار حياتنا وضمن أي واقع سياسي مر في بلادنا لم نثق يوماً بأي من الأشخاص الذين تسلموا كرسياً في هذه البلاد، إن كانت في حالة السلم أو في حالة الحرب. لم تتحمل عقول المسؤولين السوريين فكرة الشهرة التي اكتسبتها بلادهم خلال السنين العشر الماضية وتصدرها جميع نشرات الأخبار في العالم، وأن نتيجة ما يحصل ببلادهم جعلت منهم محور الكون والقضية السورية هي قضية العالم أجمع، وبالتالي أصبح المسؤولون السوريون يختلقون الحكايا ويتكلمون عن أنفسهم وكأن دولتهم إحدى دول العالم الأول. 

ماذا تعني الحياة الكريمة؟ ما هي الأفكار التي كانت تدور في خواطر أعضاء المؤتمر عند حديثهم عنها؟ هل الاختلاف الواضح الذي وجدوه بين مكان إقامتهم وباقي أنحاء البلاد جعلهم في غفلة عن شكل "حياتنا الكريمة" التي نقضيها في كل يوم؟

في أحد الأيام كنت متجهاً إلى منزلي في دمشق مستقلاً سيارة أجرة، وبحكم العادة فإن قلّة قليلة من سائقي هذه البلاد يتمتعون بالصمت، طرح علي السائق سؤالاً وهو: "بتعرف ليش سوريا بيعتبروها من دول العالم الثالث؟".

بدأت الأجوبة المثقفة والمنطقية من قبلي على هذا السؤال المفاجئ: "لا نملك مقومات الدول الأخرى، لا يوجد مستوى ثابت من المعيشة ...”. وأجوبة أخرى عدّة ليقول لي:  "نحنا من دول العالم الثالث لأن ما في دول عالم رابع، لو في كنا رح نكون منن" ، هذا السائق لا يعلم ما هي دول العالم الثالث ولكنه على يقين بوضع هذه البلاد المأسوي لكي يتحدث عنها بهذه الطريقة.

 "بشتغل باليوم رحلتين روحة رجعة مشان إقدر خلي ولادي عايشين حياة كريمة"، هذه المرة الآخيرة التي سمعت فيها مصطلح "حياة كريمة" وكان يحوي معنى صادقاً لأن من نطق به رجل آخر حقيقي يقضي من وقته 18 ساعة وراء مقود سيارته منتقلاً بين العاصمة دمشق ومحافظته اللاذقية لكي يعيل أسرته.

وفي حكاية أخرى ضمن أحد طوابير الخبز في العاصمة دمشق، كان هنالك حديث بين شخصين عن المؤتمر المعني بإعادة اللاجئين. ما وصل إلى أذني من حديثهما أثناء وقوفي هو جملة واحدة: "أنا محلن كون بالزعتري عم موت من الجوع… وما ارجع لوقف هالوقت مشان ربطة خبز" .

حياة تعيسة هي كل ما نملكه لكم أيها الأصدقاء للعودة إلى بلدكم... كونوا واثقين أن الحياة الكريمة التي تحدث عنها المسؤولون في هذا المؤتمر ليست إلا حكاية أخرى من خيالهم الذي يعيشون به تجاه هذه البلد،  إن عدتم فسنقدم لكم أحاديث عن تاريخ هذه البلاد وعن المقدار الذي نحاول أن ننعم في الحياة به فيها. 

سنقدم لكم فقط حكماً وأمثالاً وحكايات عن الأطماع المستمرة في بلادنا، سنقدم لكم بلاداً قد فقدت مكنوناتها وأصبحت محط رجل الغريب قبل القريب. سنجعلكم محور الكون مرة أخرى ولكن من أسوأ الأحاديث، سنحاول جاهدين ألا نشعركم بالتناقضات التي حملتها البلاد. 

التزموا بيتوكم ودولكم التي أصبحتم جزءاً منها وسنقدم لكم وعوداً بأنكم ستبقون مكوّناً من بلادنا في أي وقت أردتم العودة لتجعلوها بلاداً كريمة معنا، ولكن الآن أرجوكم استمروا في أحلامكم الواسعة التي ضاقت بها هذه البلاد... تابعوا ما بدأتموه لأننا فخورون في كل حدث كنتم جزءاً من صناعته وأي إنجاز جعلنا ممتنين لكوننا نتشارك نفس جغرافيا الولادة. 

كونوا على ثقة في اللحظة التي يعود فيها سائقو التاكسي لتكون أحاديثهم عن سيران الربوة وسيران بلودان، عندها فقط تكون حياتنا كريمة.

اليوم الأخير لي في هذه البلاد!

في بلاد كل ما يقال عنها إنها الأسوأ معيشة، أمضي كل يوم فيها وكأن هذا اليوم هو آخر ما تبقى لي فيها. ازدحام هنا وأكوام بشرية هناك.  في هذه البلاد لا شيء يتكرر سوى قدرة سكانها على الولوج في روتينها القاتل

في بلاد كل ما يقال عنها إنها أسوأ بلاد العالم معيشة، أمضي كل يوم فيها وكأن هذا اليوم هو آخر ما تبقى لي فيها. ازدحام هنا وأكوام بشرية هناك. في هذه البلاد لا شيء يتكرر سوى قدرة سكانها على الولوج في روتينها القاتل.

"هي خمسين ليرة عطيتوا ياها هي آخر شي بجيبتي"، قال أحد الركاب.

 كنت أتجنّب ركوب الباصات رغبة مني في الحفاظ على مقدار ما أملك من حب لهذه البلاد، لكن تفاصيل بلادي متناقضة لدرجة تجعلك تشتاق ركوب وسائل النقل العامة. غريزة أنت بأمس الحاجة إلى إشباعها - يكرر الراكب سؤاله مرة أخرى "معك خمسين ليرة مشان بكرا أركب فيها؟!" - غريبة تلك البلاد تمدك بتفاصيل نكستها وكأنها الوظيفة الوحيدة التي تستطيع أداءها. أعود للمنزل وأنا مُثقل بتفاصيل تأخذ الحيّز الأكبر من تفكيري. 

أستيقظ صباحاً وأغادر المنزل ويمتلكني شعور بأنها الليلة الأخيرة في هذه البلاد.

نحن في انتظاركم في الوقت التي ستمنحنا الحياة القدرة على أن نحلم أحلاماً مهما بلغ حجمها تستطيع أن تتناسب مع هذه البلاد ولا تضيق داخلها أبداً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image