أتذكّر محاولاتي، التي هزمها الفشل، في تسلق شجرة التوت الضخمة في فناء بيتنا الذي بِعْناه. يمدّ أخي لسانه هازئاً وهو يلمس أعشاش العصافير؛ مُفتعلاً الطيران أعلى الشجرة.
أشعر بصيحة الذاكرة تناديني، أتبع خطاها كلما رأيت شجرة توت، فأقف عندها، أتنشّق الهواء وألهث باحثة عن اتجاه للتسلق. تتعالى الصيحة في داخلي، تنتشر أصداؤها، فيما أبحث، أنا العاجزة، عن وجه أخي بين الأوراق، وأحاول التعلق بأقرب غصن. هي يقظة الذاكرة ونحن نتأرجح بين كفي الحاضر المؤلم والماضي الهادئ.
أتذكر تهكّم أخي الذي يصغرني، حين كنت أدرّسه مادة اللغة الإنكليزية، يهمهم أغنية خلال كل جملة أبدأها، ويُكْملها صامتاً وهو يعدّل نظارته السميكة المثبتة بشرائط، فيثير غيظي. الآن، حين يسألني عن ترجمة عصي عليه فهمها، أشعر بوهج تلك اللحظات تلمع في عيونه كالبرق. أتوقف بضع ثوان، كمن يحاول أن يقبض على الذكريات بقوة، أو يطير بأجنحتها، وتستعصي عليّ الإجابة. هي لغة فيها طمأنينة ما مضى، لغة ساكنة يصعب تحويلها إلى كلام خلال لحظات.
الخوف كان يحملني إلى غابة ممتلئة بوجوه الوحش، وبأيد وأرجل ضخمة كأشكال للآلهة في الأساطير، ثم يتلاشى الرعب فور دخول أمي لترتب أغطيتنا، كتلاشي وحوش من خيال في بقعة ضوء
لم أنس هيئة الرجل المدمى، في القصص المخيفة لأخي الذي يكبرني، رجل يتسلق بالأيدي والأرجل. أحياناً كان يسردها مستمتعاً، وأنا أتخفى في فراشي خشية أن يظهر فجأة وهو ملتفّ بشرشف. الخوف كان يحملني إلى غابة ممتلئة بوجوه الوحش، وبأيد وأرجل ضخمة كأشكال للآلهة في الأساطير، ثم يتلاشى الرعب فور دخول أمي لترتب أغطيتنا، كتلاشي وحوش من خيال في بقعة ضوء.
أرى الوحش ينهض في هيئة غير مرئية، يلجُ شريط الأخبار العاجلة مرة، ومرة أخرى سطورَ العدالة المتوحشة التي لا تكترث لآلام أحد، ليلفَّ الفزعُ الكونَ كله. ويظهر الوحش الرهيب في خيالي، أحدق في وجه أمي الناعم علّه يختفي... لكن دون جدوى.
أتذكر الصمت الذي ساد صفّنا يوم الاختبار الشفوي، خلال دخول المعلّم. يحدق في وجوهنا مقلّباً في صفحات كتاب التربية الاجتماعية، تقع نظراته عليّ. شعرت بقشعريرة قطعت أنفاسي لحظات، تشتتت الإجابة في ذهني وأنا أحاول العثور على الكلمة التي تدلني إلى بداية الجملة، وتذكرت – استنجاداً – "أبا الحروف" في المسلسل الكرتوني - المناهل، لكن تهتُ في عالم حروفه من دون جدوى، والمعلم ينتظر الإجابة بغضب، وأنا ألحّ على ذاكرتي آملة أن تسعفني بفكرة شبيهة، لكن لا جدوى. وفجأة يُدق باب الصف. المدير يستدعي المعلم إلى اجتماع طارئ، فأتنفس الصعداء، أردد الإجابة مراراً وكأنها كانت عالقة في نظراته الحادّة.
عندما أصادف فكرة عالقة في ذهني، وتصعب كتابتها في قصصي وخواطري، فإنني أحدّث نفسي قائلة: "أليسَ من أحد يطرق باب دارنا".
في صغري، كنت أتوق إلى أن أحيا تفاصيل الشخصيات الكرتونية، كأن أشارك "السيد خفاش" مؤامراته ضد أهالي "قرية التوت"، فتنتهي بالفشل، أهرب ثم أسقط على رأسي مع العصابة من غير وجع، وتلفّ نجوم صغيرة فوق رأسي. تمنيت أن أنتعل حذاء "سندريلا" الزجاجي البراق، الذي لا يليق بمقاس قدم أحد في العالم، حتى أقدام صديقاتي في الحي، أو أن أحلّق "بالحذاء العجيب" عالياً، فأصنع من الغيوم وخيوط الشمس ما يحلو لي.
الطفولة هي الفسحة الزمنية التي يتلاشى فيها العدو والصديق، الطيب والخبيث، كلما حلقنا في لعبة "الغميضة" و"الخطة" و"الدحل" التي كانت تجمعنا. هي السعادة في لذة قضمة الشوكولاتة وسكاكر العيد
لم تتغير رغباتي المستحيلة تلك، ما زلت أحلم بها. هي مخبئي السري؛ حيث أرسم فيه سماء خالية من الطائرات الحربية، وأفصّل ذلك الحذاء الذي لا ينتمي إلى عالم الماركات المملة.
الطفولة هي الفسحة الزمنية التي يتلاشى فيها العدو والصديق، الطيب والخبيث، كلما حلقنا في لعبة "الغميضة" و"الخطة" و"الدحل" التي كانت تجمعنا. هي السعادة في لذة قضمة الشوكولاتة وسكاكر العيد. هي نزهة في الجنة، ورحلة تعثرنا فيها بالنجوم والقمر دون أن نعلم، نتذكرها كوميض زمني وسط عتمة الوجود.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 17 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين