حالة من الجدل في مصر، خلَّفها رحيل المفكر اللاهوتي القبطي الدكتور جورج بباوي (83 عاماً)، يوم الخميس 4 شباط/ فبراير، الذي ظل جثمانه ينتظر الصلاة عليه أربعة أيام، تبارز خلالها المؤيدون والمعارضون لأفكاره. طالب بعضهم بمنع الصلاة على الجثمان، وعدم الترحم عليه، بسبب "هرطقته"، حسب وصفهم، وخروجه عن الأفكار المسيحية الأرثوذكسية.
فيما يرى مؤيدو الراحل وأفكاره أنه قد عاش مظلوماً، مغضوباً عليه، ومات منفياً بإرادته، وأن أفكاره تقدمية، و"لا تهدم ثوابت الإيمان المسيحي" كما يروج المعارضون له.
وبين الاثنين وقف جيل جديد من الشباب المسيحي لا يعرف ما هي قصة جورج بباوي، ولم يسمع عنه إلا في أسبوع وفاته، فالرجل تم عزله، وحرمانه كنسياً في عام 2007، وهاجر إلى أمريكا، ولم يتطرق أحد إلى ذكر اسمه أو أفكاره إلا في المحافل العلمية، وحتى ستة أشهر مضت عندما تعرض لأزمته الصحية الأخيرة، وقتذاك ثار بعض المتعصبين على قرار البابا تواضروس الثاني بإلغاء قرار الحرمان القديم لسابقه البابا شنودة، لكي يتمكن بباوي من ممارسة الأسرار الكنسية المقدسة، مثل الاعتراف والتناول.
"مدسوس لتخريب العقيدة"
"دكتور بباوي لم يأت بجديد، وكل ما أثاره من أفكار هو في الأصل كتابات قديمة للآباء الأوائل يحاولون فيها الإجابة عن تجسد الإله وتأليه الإنسان، ومن يهاجمونه لا يقرأون سوى عناوين الكتب". هذا ما اكتشفه نادر أبادير (33 عاماً)، مدرّس من القاهرة، ويقول لرصيف22: "لم أتعرف على أفكار الرجل إلا قبل ستة أشهر فقط، عندما تم ذكر اسمه، وقرار البابا تواضروس بالعفو الكنسي عنه، ولا أعرف إصرار البعض على تكفيره حتى بعد رحيله".
ويضيف: "الأفضل هو الرد على فكره بالفكر والبحث، وليس بالتكفير والحرمان الكنسي، والادعاء أنه مدسوس لتخريب العقيدة الأرثوذكسية".
ويؤيد أبادير قرارات تواضروس الأخيرة بالعفو عن بباوي (وسواها من القرارات الإصلاحية في الكنيسة)، داعياً إلى احتضان المختلف، وعدم طرده من الكنيسة، التي لا تتفق مع ميول "حماة الإيمان" كما يطلقون على أنفسهم، والتي تحرض على كل من يقول برأي مخالف.
سبق أن تم التحريض ضد الراهب أبيفانيوس رئيس دير الأنبا مقار، وقُتل
وسبق أن تم التحريض ضد الراهب أبيفانيوس رئيس دير الأنبا مقار، وقُتل عام 2018 على يد أحد رهبان الدير، يقول أبادير.
وكانت جماعة تدعى "حماة الإيمان"، وبعض الصفحات المسيحية الشهيرة، على مواقع التواصل الاجتماعي، قد شنت حملة خلال الأيام الماضية، لإجبار القيادة الكنسية على عدم السماح بالصلاة على جثمان بباوي، باعتباره "مهرطقاً لا يجوز الصلاة المسيحية عليه"، مستشهدين برأي الأنبا رافائيل، الأسقف العام.
وهذا ما أعاد للأذهان أزمة رحيل القمص إبراهيم عبد السيد، ورفض البابا شنودة الصلاة على جثمانه بسبب خلافات معه على بعض التفسيرات اللاهوتية، وهو الموقف الذي لم ينسه تيار الكنيسة العلماني للبابا الراحل، واعتبروه نقطة سوداء في تاريخه.
"الصلاة أمر إنساني"
يرفض مينا ويليام، الباحث في الشأن القبطي، دعوات تيار "حماة الإيمان" ولا يتفق مع أفكارهم، ولا مع أطروحات بباوي اللاهوتية. يقول لرصيف22: "ليس من حق أحد منع الصلاة على جثمان شخص مسيحي أو حرمانه من الطقوس المسيحية، فالصلاة على الراحل أمر إنساني بحت، وتعزية لمحبيه ولأسرته".
ويضيف: "أما بخصوص أفكار الرجل حول مسألة تأليه الإنسان، فقد تأثر بأفكار الكنيسة البيزنطية، التي تؤمن بنظرية "التأثير الأخلاقي لغريغوريوس بالاماس"، التي تنفي الخطيئة الأصلية عن الإنسان، وهو ما يتنافى مع كتابات "أثناسيوس الرسول" في كتابه "تجسد الكلمة" وكذلك تعاليم البابا كيرلس الرابع حامي الإيمان، وهذا ما يجب أن نبني دفاعنا عليه في الحديث عن الرجل، وليس تحريم كتبه وحرمانه كنسياً، فالزمن لن يعود إلى الوراء، ومسألة التحريم والإقصاء لم تعد مقبولة".
تنويه:
للأسف أصبح هناك توجه عند بعض الساعيين الي الشهرة أو من يريدون المجاملة على حساب عقيدة وإيمان الكنيسة مهاجمة...
Posted by رابطة حماة الايمان on Tuesday, 22 September 2020
"حماة الإيمان كفّروا البابا تواضروس شخصياً"، هكذا يبدأ أبانوب عادل (27 عاماً)، محامي من المنيا، حديثه لرصيف22، ويتابع: "لست من المؤمنين بأفكار الدكتور بباوي، لكني مؤمن أن العقيدة المسيحية لا يمكنها أن تهدم بسبب فكر رجل واحد مغاير، أو حتى جماعة، فالعقيدة راسخة منذ مئات السنين ولا خوف عليها، سوى من عبدة الطقوس والمجمع المقدس، الذين قد يخطئون في قراراتهم، فهم بشر أيضاً".
"الزمن لن يعود إلى الوراء، ومسألة التحريم والإقصاء لم تعد مقبولة"، يعلق شباب قبطي على أفكار بباوي، بينما يقول آخرون أنه "مدسوس لتخريب عقيدتنا"
وكان أعضاء المجمع المقدس بإجماع 60 أسقفاً قد صوّتوا لقرار حرمان الدكتور جورج حبيب بباوي عام 2007 برئاسة البابا شنودة الراحل، ودون محاكمة، ليتم سلب حقه في تناول الأسرار المقدسة أو ممارسة الشعائر المسيحية في الكنيسة.
وسافر بباوي إلى أمريكا، وبدأ تدريس مادة اللاهوت في جامعاتها، بعدما كان تلميذاً للبابا شنودة في ستينيات القرن الماضي، بل إن البابا الراحل هو من رسم بباوي شماساً في زيارته التاريخية لروما، لكن دب الخلاف بينهما، مع قرار الرئيس الراحل أنور السادات بعزل البابا شنودة من منصبه وعودته للدير، وقتذاك كتب بباوي مقالاً هاجم فيه الكهنوت وأفكار الكنيسة.
حُرم بباوي من التدريس بالكلية الإكليريكية في القاهرة منذ عام 1983 بسبب مؤلفاته عن "تأليه الإنسان"، و"سر الإفخارستيا"، و"الكهنوت الكنسي".
وظل بباوي محروماً من كنيسته الأم، فيما احتضنته كنائس أخرى، كالروم الأرثوذكس، والكنيسة الأنجليكانية في إنجلترا.
وتحول الثنائي متى المسكين وجورج بباوي إلى مصدر إزعاج كبير للبابا شنودة طوال سنوات كرازته، وهذا ما استدعى رد الأنبا بيشوي، سكرتير المجمع المقدس السابق، على كتابات بباوي والمسكين في سجال استمر حتى رحيل الجميع، وآخرهم بباوي.
"خطاب الكراهية يزعجني"
أكثر ما يزعج نادر سدراك، مسيحي مصري يقيم في بلجيكا، هو خطاب الكراهية الذي تتبناه بعض الجماعات المسيحية، يقول لرصيف22: "خطابهم لا يختلف عن خطاب التكفيريين في ديانات أخرى، غافلين رسالة المسيح الأساسية وهي المحبة والسلام، فلم يقصِ المسيح أعداءه، ومخالفيه في الرأي، بل كان يجادلهم بالكلمة".
ويلفت نادر إلى تأثير هذه "الأفكار المتجمدة" في ابتعاد الشباب عن الكنيسة وتعاليمها، وتحولهم لـ "عثرة في إيمان هؤلاء، وليسوا حماة للإيمان كما يدعون".
ويشفق نادر على البابا تواضروس، الذي يحارب ما يعتبره "التيار الرجعي في الكنيسة المصرية"، مشدداً على ضرورة "الانفتاح على الأفكار المستنيرة، ونبذ الخلافات بين الكنائس المختلفة".
وكان البابا تواضروس أحد الأساقفة الموقعين على قرار عزل بباوي، وحرمانه الكنسي عام 2007، لكنه عندما كان صاحب القرار، رفع الحرمان عن الراحل، بعد تعرضه لأزمة صحية منتصف عام 2020، وطلب الحصول على الأسرار الكنسية، ولا سيما الاعتراف والتناول.
وافق تواضروس على طلبه، وتم مناولته على يد كاهن أرثوذكسي، بمنزله في ولاية "إنديانا" الأمريكية.
وواجه البابا غضب نفس الأصوات التي طالبت الأسبوع الماضي بحرمان جورج بباوي من الصلاة على جثمانه بعد رحيله، في جدل استمر أربعة أيام قبل وصول نجله من ألمانيا لحضور الجنازة، وحسمت الكنيسة قرارها بصلاة الأنبا ساروفيم، أسقف الكنيسة الأرثوذكسية بإنديانا، على جثمان الراحل في كنيسة العذراء مريم، والقديس مار مرقس في الولاية الأمريكية. ولا يزال الجدل حول أفكاره اللاهوتية ومكانته مستمراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...