شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"فلسطين الوردية"… قصة زيارتي التي زادت من إيماني بحق العودة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 10 فبراير 202112:32 م
Read in English:

"A Rosy Palestine"... I Hold On to My Right of Return

"اطلعي هناك… شفتي قبة الصخرة… ركزي بين الشجر"

التفت إلى حيث أشارت صديقتي، وكان هناك، بقبته الذهبية اللامعة الشامخة، واقفاً هناك. لوهلة، وفي مثل هذه اللحظة، تشعر وكأن الحلم تداخل في الحقيقة، فلم تعد تدرك ما هو الواقع وما هو الخيال.

في القدس هناك الكثير من الرموز والزوايا البعيدة عن الاستهلاك، ولكن تبقى قبة الصخرة الرمز الذي نرى هذه المدينة من خلاله، تماماً كما كان بالنسبة للفنان الفلسطيني كمال بُلّاطة، الذي غادر عالمنا بعد أن عاش بعيداً عن وطنه فلسطين، في السادس من آب/ أغسطس 2019.

هل يرى الفلسطيني البعيد عن وطنه، كل ما في وطنه، وردي لهذه الدرجة؟

شاهدت مؤخراً فيلم "غريب في وطنه"، للمخرج الدنماركي رودولف فان دن بيرغ، الذي عرض خلال أسبوع الفيلم الفلسطيني في دبي "Reel Palestine"، وهو الفيلم الذي يتحدث عن رحلة عودة الفنان التشكيلي الفلسطيني إلى وطنه بعد 17 عاماً من الغياب. مشهد واحد في هذا الفيلم ذكرني بتلك الرحلة التي حملتني للمرة الأولى إلى فلسطين، وأنا الفلسطينية التي ولدت وكبرت وعاشت بعيداً عن هذه الأرض.

لنعد إلى الفيلم، وبالتحديد إلى مشهد العودة: يتمكن كمال بلاطة أخيراً من الدخول إلى فلسطين عام 1984 بجواز سفره الأجنبي، ويركب في السيارة التي تقله إلى القدس. خلال الرحلة، تقع عيناه على قبة الصخرة. من دون أي كلمة أو حوار، تختزل عينا كمال بلاطة مشاعر أي فلسطيني يعود بعد غياب. ربما كانت دموع فرح بالعودة أخيراً، وربما كانت دموع حزن على سنوات ضياع في الغربة، ولم يطالب خلالها بالعودة إلى وطنه. ربما كانت دموع قهر من أن هذه الأرض المحتلة لم تعد لنا… ربما أشياء أخرى.

حلم العودة الذي لن يتبخر

لحظتان لن أنساهما عندما زرت فلسطين للمرة الأولى في حياتي عام 2012. الأولى كانت بعد تخطي الجسر، جسر الملك حسين، وهو الجسر الذي يربط الضفة الغربية بالأردن، وهو نقطة العبور الوحيدة للفلسطينيين من سكان مناطق الضفة الغربية إلى الأردن، ومن هناك إلى العالم.

يمكن أيضاً لحملة تأشيرات الزيارة والجوازات الأجنبية الدخول إلى الضفة الغربية من خلال هذا الجسر.

هناك، بقيت سبع ساعات، وبين كل لحظة وأخرى، أجلس في مقابلة مع عدة مجندين إسرائيليين، لتبدأ رحلة طرح الأسئلة التي لا تنتهي: ما هو سبب الزيارة؟ أين ولدت؟ أين يعيش والداك؟ أين ولد جدك؟ هل تعرفين أحداً في رام الله؟ ما هو رقم هاتفهم؟ كم يوم ستبقين؟

هناك، بقيت سبع ساعات، وبين كل لحظة وأخرى، أجلس في مقابلة مع عدة مجندين إسرائيليين، لتبدأ رحلة طرح الأسئلة التي لا تنتهي: ما هو سبب الزيارة؟ أين ولدت؟ أين يعيش والداك؟ أين ولد جدك؟ هل تعرفين أحداً في رام الله؟ ما هو رقم هاتفهم؟ كم يوم ستبقين؟ أسئلة بلا نهاية/ ولكن في آخر اليوم خرجت من مبنى الجسر مع غروب الشمس، نظرت إلى الأفق، واستنشقت نفساً عميقاً. قلت في نفسي: "ريحة الهوا هون غير… والله غير." 

هل يرى الفلسطيني البعيد عن وطنه، كل ما في وطنه، وردي لهذه الدرجة؟  هل هي فعلاً مختلفة أم أنه يهيأ له ذلك؟ لا أدري، ولا أعتقد أن الإجابة على هذه الأسئلة مهمة على أية حال، لأن فلسطين كانت بالنسبة لنا هي الحلم الجميل، فكأننا جئنا بأحلامنا وتفاصيلها إلى الواقع، وعلى هذه الأرض تزين الواقع القاسي بتفاصيل أحلامنا.

اللحظة الثانية كانت في يافا، حيث تناولنا طعام العشاء في مطعم "العجوز والبحر". استأذنت لبضع دقائق حتى أرى البحر، بحر يافا الذي سمعنا عنه كثيراً. وقفت على تلة صغيرة قبالة البحر، وأغمضت عيني، لأركز على صوت الموج وهديره. فتحت عيني على بضعة أشخاص هنا وهناك، يسبحون ويستمتعون بمياه بحر يافا. خطرت ببالي أغنية "أذكر يوماً كنت بيافا" لنصري شمس الدين، وحملتني ذكرياتي إلى مقطعها الأخير: "وسنرجع نرجع يا يافا… وسنرجع نرجع يا يافا"... وبكيت.

عودة إلى الفيلم 

هذه الذكريات كلها مرت في مخيلتي وأنا أشاهد الفيلم. في بدايته، كان كمال بلاطة متردداً في الذهاب إلى فلسطين، ربما خوفاً من أن تلك الصورة عن الوطن قد تتغير أو تُسحق. طوال السنوات الماضية كان لدي نفس التردد، خوفاً من أن فلسطين التي في المخيلة ستحل مكانها فلسطين الواقع، لأنني في دواخل نفسي كنت أعلم أن معاناة الاحتلال، الوضع الاقتصادي المتردي والنزاعات السياسية الداخلية، لم تترك لفلسطين الوردية أي مكان.

أذكر أنني، وخلال الساعات السبعة التي انتظرتها قبل عبور الجسر، قابلت رجلاً فلسطينياً في الخمسينيات من عمره، سألني: "لماذا تأتين إلى فلسطين؟ شو فيها فلسطين؟"، قلت باقتضاب: "جاية أشوف بلدي". رد علي وقال: "البلد اللي راح تشوفيها ما بتشبه البلد اللي في راسك. الناس عايفة حالها وبدها أي فرصة تطلع، وأنتي جاية تشوفي بلدك؟".

نظرت إليه وقلت: "خليني أشوفها متل ما هي، أحسن ما أتحسر طول عمري، إنه أجتني الفرصة وما رحت".

انتصر كمال على هذا التردد، وانتصرت أنا من بعده بسنوات. وتحول ذلك التردد عنده، خلال مراحل الفيلم المختلفة، إلى إصرار وإرادة على العودة. كان خوف كمال بلاطة من أن تتحول قصة عودته إلى فلسطين لـ "بروباغاندا وطنية"، لكن من يأبه؟ هذه هي النتيجة التي توصل لها الفنان الفلسطيني في نهاية الفيلم… إن تحولت قصة عودة أي منا إلى وطنه إلى دعاية أو بروباغاندا أم لم تتحول، ماذا يغير ذلك من أي شيء؟ فلنمض نحو أحلامنا بالعودة رغماً عن أنف الجميع.

بعد تلك الرحلة لم أزر فلسطين مرة، بل مرتين، وفي كل مرة أجدها وردية أكثر من ذي قبل. قد تقولون: "رحلة قصيرة لا تعكس صعوبات الحياة". نعم، ولكن هذه هي فلسطين، نحبها ونحب الوردي والرمادي فيها، ونشعر أن لهوائها طعماً مختلفاً

في الفيلم، ظهر كمال بلاطة في المخيم، قرب برج المراقبة الإسرائيلي وعند حواجز التفتيش، وتحدث عن الحصار والتضييق واقتلاع الشعوب من أرضها… هذا الفيلم، الذي أنتج عام 1985، شاهدته اليوم والظروف لم تتغير، فالحواجز والمخيمات وأبراج المراقبة لا زالت في مكانها، هذا إن اعتبرنا أنها لم تصبح أكثر وأسوأ.

قبل نهاية الفيلم، تظهر مجموعة من المتدينين اليهود وهم يدفنون أحد الموتى قرب جدار القدس، ويظهر المسجد الأقصى في الخلفية. في المشهد التالي ننتقل مباشرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث يعيش كمال بلاطة، ونجد أنفسنا في مشهد دفن والدته… بعيداً عن وطنها، وهي التي حلمت أن تدفن في فلسطين.

في آب 2019، غادر كمال بلاطة عالمنا هذا، وبقي الأمل بدفنه في القدس، إلى أن تحقق ذلك في النهاية وانتصرت روحه، ليكون بالقرب من زوايا القدس وشوارعها، مؤكداً أن هذا الحلم لن يبقى حلماً، وإنما سيتحقق يوماً ما، ولو بعد حين.

أعود إلى قصة الرجل الفلسطيني الذي قابلته على الجسر. بعد تلك الرحلة لم أزر فلسطين مرة، بل مرتين، وفي كل مرة أجدها وردية أكثر من ذي قبل. قد تقولون: "رحلة قصيرة لا تعكس صعوبات الحياة". نعم، ولكن هذه هي فلسطين، نحبها ونحب الوردي والرمادي فيها، ونشعر أن لهوائها طعماً مختلفاً، وأن بحرها، بحر يافا بالتحديد، هو بحر تتساقط الدموع لأجله، وأننا يوماً "سنرجع يا يافا".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard