شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"ادفنوني بالشام، لا تدفنوني هون... هون أبرُد"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 10 فبراير 202110:33 ص

"كنت سأدفع كل ما أملك مقابل متر واحد من هذه الأرض لأدفن فيه طفلتي"، بهذه العبارة ختم سامر حديثه معي. سامر شاب في الثانية والعشرين من عمره، فقد طفلته الأولى قبل ولادتها بأيام. يقول لي: "أعتقد أنها هي من خنقت نفسها، لعبت في بطن أمها، لفت الحبل السريّ حول عنقها، ساعات وتوقفت عن الحركة، شعرنا أنا وزوجتي أنها ساكنة. لقد ماتت.

"هذا جزاء حماقتي وأنانيتي حين قررت الإنجاب في بلاد ميتة، كنت أعرف أننا هنا نُخلّف جثثاً لا أطفالاً. ومع ذلك كنت أريد أن أصبح أباً صغيراً لأكون قريباً من ابنتي. لأحبها، أرعاها وأمشط شعرها، لم أتوقع للحظة أن أهيم على وجهي في دمشق لأبحث لها عن قبر، ولا أجد".

"في دمشق، ومنذ سنوات، أصبح القبر يكلّف ملايين الليرات السورية، يصل إلى سبعة مليون وأكثر، أو ستضطر للجوء لمقابر خارج دمشق، وتخسر فرصة زيارة يومية لمن تشتاق. لقد سمحوا لنا بدفن البنت بقبر دُفن فيه رضيع لأحد أقاربي منذ سنين، فأحد الحلول السحرية لمشكلة أزمة القبور في البلد، هي السماح لنا بمشاركة القبر بين أكثر من شخص من أفراد العائلة، مع التقادم الزمني، أو حتى لعائلات مختلفة، مقابل شراء القبر بالطبع. ستدفع حتى لو كان مستعملاً".

ويُكمل: "يعني راحت بنتي لا حول ولا قوة إلا بالله، بس لو ما شفت القبر كنت رح أنجبر بيع كل شي، لك ببيع حالي وين بدي أتركها هيك!".

 لم أبقَ في دمشق من أجل رائحة الياسمين، فأنا أكره الورد. ولم أبقَ من أجل صوت آذان واحد يُرفع في مئذنة العروس، فينشرح صدري. فمنذ أن جلست البلاد كلها على صدري، لا شيء يسمح للنَفَس بالدخول وحده بدون مهدئات

الموت هو الحقيقة الوحيدة

كان من المفترض أن أكتب حديثي مع سامر كجزء من تقرير صحفي أعدّه عن الأزمات في دمشق، لتكون أزمة المقابر مجرد غيض من فيض، حتى وصلني خبر موت ابن عمتي في مدينة باردة، فيها من المدافن الكثير، لكنه أراد ألّا يُدفن فيها، ففي حديث سابق عابر مع أمه قال: "ادفنوني بالشام، لا تدفنوني هون... هون أبرُد".

أنسى الأزمات في الشام وتبقى فكرة واحدة أمام عيني: الموت في الشام. تقول أمي محاولة تهدئتي: إن الموت، وعلى الرغم من تكراره وتوقع حدوثه كل يوم في المشافي، في الطرق السريعة، السيارات والبحار، إلّا أننا ننكره، نظن أننا خالدون، لا نتقبل فكرة فقدان من نحب، ولا نتقبل فكرة تجريب الموت. لا تُدهشنا عملية الخلق، نمو جسد من نطفة وبويضة، تشكل رئتين داخل رحم، ولادة طفل جديد من جسد امرأة، لكن الموت يصدمنا، لا نتوقع حدوثه، لا نصدقه، ونكذبه بقدر ما نستطيع، لكنه الحقيقة الوحيدة.

كثير من البارات... قليل من المدافن

يكفي أن تكتب اليوم "دمشق" في محرك بحث أي موقع من المواقع الإلكترونية، لتنهال عليك المقالات الشاعرية عن ياسمينها، شوارعها العتيقة، خمّارة أبو جورج، ماريونيت بار، وبارات بارات، الكثير من البارات في باب شرقي والشام القديمة، وصورة للوح خشبي في أحد المقاهي كُتب عليه: "في الشام حتى المرحبا أحلى".

قلة قليلة تكتب عن شبّان يقصدون البارات هاربين من الخدمة الإلزامية، عن شابات يهربن من حياتهن للتخفي في شوارع البلاد العتيقة. قلائل من يعترفون بخدر أهل البلاد كسبب رئيسي لبقائهم أحياء، إذ ما اعتبرناها تجاوزاً حياة، وعن "المرحبا" التي تكون جميلة في بلاد لا تسلبنا طاقتنا، فنصبح عاجزين عن السلام أصلاً.

اكتب "دمشق" لتقرأ عن بلاد تنكر موتها، تلغي المقابر وتفتتح البارات.

وهنا تسأل لماذا بقيتُ في دمشق؟ 

بالطبع لم أبقَ لأن لي في البلاد شيئاً لا أعرفه، لكن الأمل يقول ذلك. لم أبقَ من أجل رائحة الياسمين، فأنا أكره الورد. ولم أبقَ من أجل صوت آذان واحد يُرفع في مئذنة العروس، فينشرح صدري. فمنذ أن جلست البلاد كلها على صدري، لا شيء يسمح للنَفَس بالدخول وحده بدون مهدئات.

بقيت لأُدفن هنا، لئلا يموت أهلي في حسرة وداعي، لأملك مع عائلتي رفاهية الحزن على موتانا، لأن الباسبور السوري لا يسمح لنا بالعودة حتى جثثاً، ولأن هناك بارد... بارد جداً.

يوماً ما في مدينتنا التي تطل على نهر الفرات، كانت تُنصب خيم العزاء لتغلق شارعاً، اثنين أو أكثر. كان المعزّون يبكون الفقيد وكأنه ابنهم، ولطالما كانت الفقيدة أماً للجميع. اليوم، أبناء الفرات هم أبناء الشتات، لا خيمة تغرق بدموعنا، نجتمع بعد مصابنا لنبكي خلف شاشات لعينة

في الوداع الافتراضي البعيد

في الشام لا نعرف الموت الطبيعي كنهاية حياة، بل نعرفه كفعل متعمد لإنهاء حياة ما. اعتدنا أن نسأل كيف قُتل، لا نعرف جملاً مثل: كيف مات، هل كان مريضاً، صدمته سيارة؟ بل نسأل من قتله، كيف، أين ومتى؟ كم عمره، لنكملها بـ "ضيعان شبابه...".

هنا اعتدنا موت الصغار. الموت مثل الحب عندنا: لا يعرف عمراً، يحصد الجميع بشتى الطرق، ونحن نبكي على شبابنا.

بعد الشتات السوري، أصبحنا كلنا مجرّد أخبار تنتقل على رسائل الواتساب في المجموعات العائلية، وأكثر العائلات اتصالاً وارتباطاً تلك التي تنقل أخبارها بمكالمات هاتفية.

منذ أسبوع تقريباً، وبثلاثين ثانية فقط، قال لي عمي مازن بصوت حزين، أسمعه متقطعاً عبر اتصال على الواتساب: "حزينة مها". عمتي خسرت ابنها الشاب، خسرنا واحداً منا بلحظة خاطفة، ولثلاثين يوماً سنبكي لأنه لن يدفن في البلاد، ولعمر سنحزن لأننا لن نحظى بفرصة توديع صديقنا بعناق، بل كل ما نملكه نشر نعوة على فيسبوك، فكل ما بقي لنا منه، صور ننشرها على مواقع التواصل الاجتماعي ليتذكر العالم وجهه.

يوماً ما في مدينتنا التي تطل على نهر الفرات، كانت تُنصب خيم العزاء لتغلق شارعاً، اثنين أو أكثر. كان المعزّون يبكون الفقيد وكأنه ابنهم، ولطالما كانت الفقيدة أماً للجميع. اليوم، أبناء الفرات هم أبناء الشتات، لا خيمة تغرق بدموعنا، نجتمع بعد مصابنا لنبكي خلف شاشات لعينة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard