انتشر القانون الروماني في منطقة البحر الأبيض المتوسّط مع السلام الروماني pax roman ، ولا شكّ أنّ فقهاء بلادنا لعبوا دوراً محوريّاً وبارزاً في تلك الفترة، فاثنان من أصل خمسة فقهاء رومان، كانا من المنطقة وهما papinien وهو من مدينة حمص السورية (142-212) والذي لقّب بأمير الفقهاء الرومان، وUlpian وهو من مدينة صور اللبنانية (170-228)، والذي شكّلت مؤلّفاته لاحقاً أحد أبرز المصادر الرئيسية لمجاميع الإمبراطور جوستنيانوس الذي حكم بين العامين (527-565).
وكانت بيروت في ذلك الوقت من أكثر مراكز تعليم الحقوق ازدهاراً وشهرة. خصوصاً بعد أن أمر جوستنيانوس بجمع قواعد القانون الرومانيّ سنة 533 والذي يعود الفضل في جمعه لأربعة من أساطين الفقه الروماني، بينهم اثنان من مدرسة بيروت، وهما Dorothe و Anatole ، كما أشار إلى ذلك الدكتور أنطوان عيد أستاذ القانون في جامعة القدّيس يوسف في بيروت، في كتابه "قانون الموجبات والعقود".
شحيحة تلك المصادر التي تتناول مدرسة الحقوق في بيروت بشيء من التفصيل والدقّة، لكنّنا عثرنا في مكتبة الدكتورة يارا الخوري، أستاذة التاريخ والحضارة في الجامعة اليسوعيّة وفي المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في بيروت، وساعدتنا في تدقيق المعلومات ومقارنتها بحسب ما جاء في كتاب HISTORE DE L’ÉCOLE DE DROIT DE BEYROUTH لمؤلّفه Paul COLLINET.
نشأت مدرسة بيروت في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الميلاديّين، ومن أسباب نشأتها كان اختيار بيروت لحفظ الدساتير الإمبراطورية، والنظم الإدارية، التي هي مجموعة من القوانين التنظيمية للشقّ الشرقي من الإمبراطورية الرومانية.
وتكمن أهميّة بيروت آنذاك في كونها نقطة عسكرية مهمّة للجيش الروماني. وبحسب الوثائق التاريخية التي يعرضها الكاتب، كانت في بيروت محكمة خاصّة أنشئت في القرن الأوّل في عهد الملك أغسطس (وُلد قبل المسيح ومات بعده) للنظر في دعوى هيرودوس ملك فلسطين، ضدّ أولاده الذين اتهمهم بالتآمر عليه. ومن المعروف أنّ هيرودوس عندما سمع بولادة المسيح قام بمحاولة قتل الصبيان حديثي الولادة للتخلّص من الملك الجديد.
ويذكر الكاتب أنّ بيروت دُمّرت إثر زلزال عنيف يوم 16 تمّوز 515 ميلادي، وغمرت مياه البحر المدن الساحلية في بلاد الشام لا سيّما بيروت، وراح ضحيته أكثر من ثلاثين ألفاً، ثمّ نُقلت مدرسة بيروت إلى صيدا، ريثما يتمّ بناء بيروت، لكنّها لم تعد. وعندما وصل الفتح الإسلامي إلى بيروت كانت المدرسة مدمّرة.
موقع المدرسة
لا توجد مصادر تؤكّد مكان المدرسة الحقيقي، وكان مكانها مجهولًا إلى فترة تسعينيات القرن الماضي، بعد إعادة إعمار وسط بيروت، بعد الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، فقامت حملات التنقيب الأثرية بالبحث عن مكان المدرسة، وعثروا على آثار رومانية يرجّح أنّها بقايا بناء مدرسة بيروت للحقوق، وهي حالياً بالقرب من الكاتدرائية المارونية وكاتدرائية الروم الأرثوذكس في وسط البلد.
لا توجد مصادر تؤكّد مكان المدرسة الحقيقي، وكان مكانها مجهولًا إلى فترة تسعينيات القرن الماضي، بعد إعادة إعمار وسط بيروت، بعد الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)
يذكر الكاتب بول كولينه في كتابه المذكور أعلاه، أنّ المدارس كانت ملحقة بدور العبادة، فكانت مدرسة الحقوق مرتبطة بكاتدرائية القيامة، على الرغم من أنّ الكاتدرائية قد تكون على أطراف المدينة، وليس بالضرورة أن تكون في وسطها، لذلك يمكن أن تكون مدرسة بيروت على الطرف البرّي من المدينة.
الطلّاب
كان الطلاب يتوافدون من خارج سوريا، من ولايات كثيرة، كالإسكندرية، وفلسطين، وغزّة، وأنطاكيا، وبيروت، وأورفا وغيرها. يتلقّون تعليمهم الثانوي في بلدانهم الأصلية، ثمّ يتوجّهون إلى بيروت لدراسة الحقوق في مدرستها. بعض المصادر تشير إلى أنّ عدداً من الطلّاب تركوا دراساتهم العليا في بلدانهم والتحقوا بمدرسة بيروت.
وكان لا بدّ للطلّاب من دراسات تمهيدية كعلم القواعد، وعلم الكلام، والعلوم المعجمية، والعلوم الموسوعيّة باللغتين اللاتينية واليونانية. وكان الطلّاب ينتسبون إلى جمعيّات، فكان لهم نشاطات كثيرة، تعنى بشؤون الطلاب ومصالحهم. ويجب على الطالب أن يدفع رسم انتساب إلى الجمعية، وكان يطلق على رئيس جمعية الطلاب لقب "الماجستير".
كان هناك طلّاب وثنيّون، وطلّاب مسيحيّون، وكان بينهم نوع من الصراع والمنافسة، لأنّ الطلاب الوثنيين لديهم نوع من الأعمال السحرية والطقوس الغريبة، تتّسم بالغموض، مثل السّحر والشعوذة، وهذا ما كان مرفوضاً من جانب الطلّاب المسيحيّين أو الطلّاب المتديّنين.
لم ينفصل الطلّاب عن المجتمع البيروتي آنذاك، خصوصاً أن بيوت الدعارة كانت منتشرة بكثرة، وكذلك ألعاب الميسر، والخمّارات، وغيرها من أماكن اللهو والمجون. وهذا ما جعل بعض الطلّاب ينقادون إلى تلك المغريات، لذلك كانت تتمّ الإشادة بطلبة المدرسة الذين يتمتّعون بسلوك حسن، تشجيعاً للطلّاب الآخرين على عدم ارتياد تلك الأماكن. وفي عهد جوستنيانوس مُنعت هذه الأمور، وأُسندت مهمّة منعها إلى أسقف بيروت، ووالي صور (العاصمة)، وأساتذة المدرسة لأنهّا تتنافى مع الأخلاق العامّة.
كان الطلّاب يدخلون المدرسة في سنّ السادسة عشرة، ومدّة الدراسة فيها كانت أربع سنوات، لينتقل بعدها الطلّاب إلى مهن العدلية والمحاكم، وإلى الوظائف الإدارية في الدولة الرومانية، ويمكن أن يصبحوا أساتذة للقانون أو كهنة.
الأساتذة
لا يوجد معطيات دقيقة قبل القرن الخامس الميلادي حول أسماء الأساتذة، لكنّ الوضع تغيّر في القرن الخامس، وهم صنعوا مجد مدرسة الحقوق، وكانوا يلقّبون بأستاذ مسكوني،، والمسكون هو لقب للبطاركة، وكلّ بطرك على كنيسته مسكوني، فبطرك كنيسة روما هو مسكوني على كنيسته، فالمسكونية جزء من الإمبراطورية، فهم - أي الأساتذة – أساتذة على المشرق، ويلقّبون أيضا بدكتور المشرق، أو دكتور إمبراطوري، أو دكتور دولة.
وفي القرن السادس قام جوستنيانوس بإعادة صياغة القوانين صياغة شاملة، وقرّر أن تعطى مراجع القوانين لتلامذة روما، ومدرسة بيروت، ومدرسة القسطنطينية. وكان الأساتذة يتمتّعون بامتيازات ودرجة رفيعة نظرًا إلى صيتهم الذائع الذي جعل من مدرسة بيروت أعلى شانًا من مدرسة روما، وهذا ما جعل بيروت "أمّ الشرائع" في ذلك القرن.
ولم يكن عدد الأساتذة ثابتًا، يمكن لأستاذَين اثنين أن يعيطا الدروس كاملة، ويمكن الاستعانة بأستاذ ثالث وقت الحاجة، ويمكن أن يصل العدد إلى أربعة أيضا. وقد ترتبط مجموعة من الطلّاب بأستاذ واحد يدرّسهم طيلة مدّة دراستهم. يتمّ تعيينهم بقرار من مجلس الشيوخ، حيث يقدّم للإمبراطور لإبداء موافقته على القرار، وفقاً لشروط تأخذ بعين الاعتبار بعض المعايير التي لا محيد عنها، منها: حسن السلوك، والكفاءة، والبلاغة، والدقّة في تفسير النصوص، والقدرة على الكتابة الموسّعة عن المواضيع المطروحة.
على أبواب القرن الخامس استبدلت مدرسةُ بيروت اللغةَ اللاتينية باللغة اليونانية، حيث جرى تقسيم الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين منفصلين؛ قسم غربي عاصمته (روما)، وقسم شرقي يمتدّ من اليونان حتّى بلاد مصر
وكان بإمكان الطالب العملُ أستاذاً في المدرسة بعد تخرّجه مباشرة، فيكون عمره قد تجاوز العشرين عاماً. أمّا بالنسبة إلى مستحقّاتهم المالية، فقد مرّت بمرحلتين، في البداية كانت المستحقّات تُدفع مباشرة من قبل الطلّاب، خصوصاً أنّ معظم الطلّاب ينحدرون من عائلات ثريّة، لكن – في بعض الأحيان – يتمّ اللجوء إلى كتابة رسالة توصية من قبل أحد الطلّاب إلى أستاذه، يوصيه بمراعاة أحد الطلبة في حال كان لديه ضائقة مالية، وكان بعض الطلّاب يكتب إلى زملائه من الطلّاب بضرورة إكرام الأستاذ ودفع المزيد من المال له، وكانت المبالغ المدفوعة للأساتذة تتضمّن كلّ ما يؤمّنه الأستاذ لطلّابه، من كتب وغيرها.
ابتداء من القرن الخامس ترقّى الأساتذة إلى مرتبة وظيفية متقدّمة، وصارت مستحقّاتهم تُدفع من الدولة الرومانية مباشرة، وكان الأساتذة مكرّمين جدّاً، خصوصاً في عهد جوستنيانوس الذي اهتمّ بدراسة الحقوق كثيراً.
لغة التعليم
القانون الذي كان يُدرّس في بيروت هو القانون الرومانيّ الرسمي التابع لمدينة روما وليس لبيروت فقط، لذلك كانت بيروت مدرسة رسميّة، وتلك القوانين كانت تُدرّس باللغة اللاتينية. ولكن بيروت كانت تشكّل حالة استثنائية، فهي جزيرة لاتينية في بحر يوناني، والمشرق كان مشرقاً يونانيّاً، يتكلّم سكّانه اللغة اليونانية؛ فالطلّاب كانوا يدرسون باللغة اليونانية في بلدانهم فكانوا بحاجة إلى دراسة اللغة اللاتينية في مدرسة الحقوق في بيروت.
وعلى أبواب القرن الخامس استبدلت مدرسةُ بيروت اللغةَ اللاتينية باللغة اليونانية، ومردّ هذا إلى حدث تاريخي سنة (395)، حيث جرى تقسيم الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين منفصلين؛ قسم غربي عاصمته (روما)، وقسم شرقي يمتدّ من اليونان حتّى بلاد مصر(الامبراطورية الرومانية المشرقية) التي تحوّلت إلى البيزنطية، وعاصمتها القسطنطينية التي كانت مستعمرة يونانية واسمها بيزنطية، فتمّ العودة إلى اسمها القديم. والإمبراطورية الغربية صارت إمبراطورية لاتينية، والإمبراطورية المشرقية ترسّخت بالثقافة اليونانية.
بذلك أصبحت مدرسة بيروت ملزمة باللغة اليونانية لأنّها اللغة الرسميّة، والطلّاب الذين سوف يتخرّجون لن يذهبوا إلى الغرب، لذا كانوا يرغبون في العمل في بلاد المشرق، لكن بقيت اللغة اللاتينية ضرورية في مدرسة بيروت لأنّ أصول القانون مدوّنة باللغة اللاتينية.
والجدير ذكره أنّ مدرسة القسطنطينية تحوّلت إلى مدرسة رسميّة لتعليم الحقوق في عام 425 ميلادي، ومن هنا نشأت المنافسة بينها وبين مدرسة بيروت، وهذا ما شجّع على استعمال اللغة اليونانية في بيروت لمنافسة مدرسة القسطنطينية. وبفضل اللغة اليونانية انفتحت بيروت على الأفكار الفلسفية التي كانت سائدة في مدرسة الإسكندرية، وفي القرن السادس تمّ العودة إلى اللغة اللاتينية في عهد جوستنيانوس كما أشرنا إلى ذلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون