شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
مصادرة المصارف لحياة اللبنانيين وأحلامهم

مصادرة المصارف لحياة اللبنانيين وأحلامهم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الجمعة 5 فبراير 202112:54 م

ركعت المرأة في الشارع أمام المصرف وبدأت بالبكاء، لم أسمع مما قالته سوى عبارة واحدة بقيت تردّدها بصرخات مختلفة: "ولادي بلا أكل"، بينما حاول الجموع مساعدتها. هذه المرأة المجهولة التي انتشر لها مقطع فيديو قبل أكثر من عام ، شهدنا انكسارها العلني، بعد رفض أحد المصارف السماح لها بسحب مبلغ صغير من حسابها بحجّة أنها تخطت الحد الأسبوعي المسموح به.

هناك إجماع علني ومبطّن بين الشعب اللبناني بمختلف طبقاته على أن المصارف هي العدو الأوّل، وذلك لأنها تمثّل السرقة المباشرة، طبعًا السرقة موجودة في كلّ مكان، في البلديات، والوزارات، والجامعات وصولًا إلى الأحزاب، لكن للمصارف وضعها الخاص فهي في الواجهة، لأنها تحتوي على الجهود الفردية لكل شخص، ولهذه الجهود خاصيتها المتمثّلة بساعات عمل طويلة، بغربة سنوات، بأهل يحاولون تأمين مستقبل أطفالهم، بطلّاب يريدون إكمال تعليمهم في الخارج، بعجَزة يحتفظون بأموالهم القليلة لآخرتهم، وحتى بأغنياء يريدون أن يضمنوا أسلوب حياتهم. وبالتالي منذ بداية ثورة 17 تشرين (2019) حتّى اليوم، يوجّه الناس غضبهم بطريقة واضحة ومركّزة على الموظّفين، والواجهات، والمالكين والمستثمرين في المصارف، وذلك لأن المعركة مع المصارف شخصيّة. ولهذا السبب حين عجز العسكري عن سحب معاشه في أول الشهر الحالي من ماكينة الـATM بسبب عدم وجود المال بداخلها، أطلق النار عليها.

في الحقيقة حين قرأت الخبر، لم أقدر أن أحدّد مشاعري، لكنّي ضحكت، وفكّرت لو أن هذه الماكينة هي عبارة عن إنسان رفض أن يسلّم هذا العسكري حقوقه المادية، هل كان سيطلق النار عليه؟ لا نعلم، فكثيرون دخلوا إلى البنوك حاملين أسلحة ثقيلة، وتمّ تداول قصص من الجنوب، وصولاً إلى الشمال عن أشخاص حصّلوا أموالهم بعدما هدّدوا الموظّفين بالسلاح، وحين خرجوا احتفلوا برفعهم لدولاراتهم أمام الكاميرا، وفرحنا لهم. وهناك من اتّبعوا أساليب سلمية عبر الاعتصام لساعات داخل المصارف، وترديد الشعارات، وهناك أيضًا من بكوا لشعورهم بالعجز، وذلك لأن القطاع المصرفي صار يتّخذ كل القرارات المرتبطة بتفاصيل يوميات الشعب اللبناني، والأخير حتّى اللحظة، ورغم كل القهر والحصار المفروض عليه، لا يزال يلتزم الشروط المفروضة عليه.

كثيرون دخلوا إلى البنوك حاملين معهم أسلحة ثقيلة، وتمّ تداول قصص، من الجنوب وصولاً إلى الشمال، عن أشخاص حصّلوا أموالهم بعد أن هدّدوا الموظّفين بالسلاح، وحين خرجوا احتفلوا برفع دولاراتهم أمام الكاميرا، وفرحنا لهم

المصارف تحتل يومياتنا

بعد ستة أشهر على الانفجار، عودة الاغتيالات السياسية من خلال عملية قتل المفكر اللبناني لقمان سليم بأربع رصاصات في رأسه، استمرار الانهيار الاقتصادي الحاد، وانهيار القطاع الصحّي بسبب تفشي وباء كورونا، بامكاننا القول إن الناس في لبنان يعيشون من قلّة الموت، في إحدى المقابلات التي تمّ تداولها، يظهر الشاب في إحدى التظاهرات وهو يقول لقوى مكافحة الشغب والجيش: "مصرياتي حطّيتن على شغلي، راح شغلي. مصرياتي بالبنك، راحوا، ما فيّي سافر. أملي الوحيد هو إنتو، لا القوات، ولا برّي، ولا بني آدم في ليكن، إنتو خيفانين من حزب الله كرمال هيك ما كبّيتوا البدلة".

هذه التصريحات التي وصلتنا لم تكن محضّرة، أي أن الشاب لم يكن يسعى للإدلاء بمقابلة، فهو تقدّم فجأة من بين المتظاهرين وبدأ بالحديث عن وضعه بأسلوب مليء بالقهر والغضب، دون أن ينظر إلى الكاميرا للحظة واحدة، وقبل أن يكمل كلامه قاطعه أحد الحاضرين وطلب من الجميع ان يصفّقوا له، وذلك لأنه بتحدّثه عن نفسه، تحدّث عن وضع الجميع.

يكمل الشاب رسالته، ويضيف: "كل واحد فيكن عنده إبن عم أو أخت أو قريب، يا مات يا انأذى يا ماتت نفسيته. شو بعدكن عم تعملوا. والله لو معي كلاشن كنت قوّصتكن كلكن وقوّصت حالي".

كوسيلته الأخيرة للدفاع عن نفسه، طلب الشاب من العسكر أن ينضمّوا له، لأن لا خيارات أخرى أمامه وأمام أغلب الشعب اللبناني "يا بدنا دولة. يا إنتو تصفّوا معنا". ربما لو لم يخسر الشاب عمله، لو لم يحجز البنك على أمواله، لكان اليوم قادرًا على العيش بالحد الأدنى أو السفر من البلاد، لكنه خسر كل شي، وعن هذه الفكرة، يشرح مواطن (26 عامًا): "أنا اليوم مكبّل من كل النواحي، قبل ثلاث سنوات تركت بيروت وقصدت قريتي حيت أسّست مهنتي الخاصة، وبدأت بادّخار المال بهدف السفر وإكمال تعليمي في الخارج وتأسيس عملي في إفريقيا مع أقاربي. كنت أملك خطّة واضحة لمستقبلي، لكن مع حلول الانهيار الاقتصادي وتفشي وباء كورونا، لم أعد أحقق أرباحاً، ولم تعد لدي القدرة على سحب أموالي، المرّة الوحيدة التي تمكّنت فيها بالحصول على مبلغ $5,000 كان في بداية العام السابق حين دخلت إلى فرع البنك مع مجموعة من الشباب وقمنا بتهديد الموظّفين، ومن بعدها بدأت المصارف باتبّاع خطّط أمنية صارمة، وصار يتم القبض على كل مَن يحاول أن يأخذ أمواله بطرق عدائية، فخضعنا في الوقت الحالي".

ويضيف: "لكنّي لا أزال أسعى إلى إخراج أموالي من لبنان، وفي الحقيقة لا أمانع في اتّباع طرق غير شرعية، ففي النهاية المصارف سرقت أموالي وأنا لا أحاول سوى استرجاعها، ولذلك وكّلت شخصاً كان يعمل في تصريف الشيكات لتولي هذه المهمّة، لا أعرف ماذا سيفعل، ولا أريد أن أعرف، أريد فقط استرداد مستقبلي وحقي بالعيش".

"أسعى إلى إخراج أموالي من لبنان، وفي الحقيقة لا أمانع في اتّباع طرق غير شرعية، ففي النهاية المصارف سرقت أموالي وأنا لا أحاول سوى استرجاعها... أريد فقط استرداد مستقبلي وحقي بالعيش"

المصارف من الدّاخل

بعد ليلة المصارف التي وقعت أحداثها في 14 كانون الثاني/ يناير 2020 في شارع الحمراء، والتي أسفرت عن معركة بين الأمن والمتظاهرين، قام فيها الأخيرون بتدمير وإحراق كل واجهات المصارف، وماكينات الـ ATM وكل ما له علاقة بالمؤسسات المصرفية، استيقظنا في اليوم التالي على أصوات تشييد المصارف واجهات حديديّة، ولاحقاً عندما عادت وفتحت أبوابها أمام الناس، وُضع عناصر أمنيون مسلّحون أمام كل فرع، وبدأ التهديد باعتقال كل مَن يعتدي على العمال داخل المصرف.

تشرح لنا مواطنة ( 32 عاماً) وهي موظّفة في أحد المصارف كيفية سير الأمور من الداخل، تقول: "وضعتنا الإدارة في الواجهة، في حين نحن لا نملك قرار الاعتراض، أو التغيير أو حتّى التواصل معها ومع الناس. لم تكن هناك شفافية في العمل، إذ كنّا نكتشف القرارات التي يتم اتخاذها مثلنا مثل الجميع، وكان علينا وحدنا تلقي ردود فعل الناس حين يدركون أنهم غير قادرين على سحب أموالهم. تعرضنا لاعتداءات جسدية، ونُشرت مقاطع فيديو تظهر وجوهنا، لكن ما لا يعرفه الناس هو أننا لا نملك حق الرد، وأن الإدارة لا تكترث. فنحن الذين نعمل اليوم في القطاع المصرفي خسرنا جهود سنوات وضعناها لبناء حياة مهنية لم تعد موجودة وخسرنا مستقبلنا أيضاً، إذ إن مسيرتنا المصرفية انتهت، ولا ننتظر سوى طردنا أو عملية نقلنا إلى فروع اخرى".

وتضيف: "في فترة معيّنة، حين بدأت الهجمات اليومية على الفرع، صار زملائي يصفون أدوية أعصاب بعضهم لبعض، وفُرض علينا العمل طوال أيام الأسبوع، ولم يكن يُسمح لنا بالذهاب إلا حين ننهار. لكننا حتى اليوم نعلم أن الناس على حق وأننا مثلهم، فنحن أيضاً حُجز على أموالنا، لكننا غير قادرين على تقديم استقالتنا والتخلي عن معاشاتنا الشهرية، ولذلك ننتظر طردنا كي نحصل على تعويضنا".

وتختم: "يجب التمييز بين موظّف البنك وإدارة البنك. فنحن مع تكسير المصارف، ومع محاسبتهم، لكننا لسنا مع الاعتداء علينا جسدياً او لفظياً، أو تحطيم كل الوسائل المتوفرة أمام الناس لسحب أموالهم. لا أعلم ما الوسائل التي يجب اتباعها، لأن الإدارة العليا لا يعنيها حين يتم تكسير المصرف، أو الاعتداء حتى على المديرين. فحين تحصل هذه الحوادث، يتم إقفال الأبواب وتُفرض علينا متابعة عملنا، دون قدرتنا على الاعتراض، ما يهم هؤلاء الذين يحتلون المراكز العليا في القطاع المصرفي هو العمليات والصفقات التي ينفّذونها وسير عملهم فقط".

"يجب التمييز بين موظّف البنك وإدارة البنك. فنحن مع تكسير المصارف، ومع محاسبتهم، لكننا لسنا مع الاعتداء علينا جسدياً أو لفظياً... في الواقع الإدارة العليا لا يعنيها تكسير المصرف، ما يهمهم هو الصفقات التي ينفّذونها وسير عملهم فقط"

قبل سبع سنوات، وفي منطقة مار الياس كانت هناك امرأة تسعينية، تجلس في دكانها الصغير وتردّد لكل مَن يقصدها قصّتها، فهي رفضت إقفال دكانها غير المنتج خوفاً من أن يأتي أولاد زوجها ويأخذوه منها. وسحبت كل الأموال التي بقيت في حسابهما بعد وفاته، لأنها خافت من أن يسرقها المصرف. خوفها على المال كان أقوى من خوفها على دكانها وصحّتها. ولذلك كانت الحاجّة جميلة، الأميّة، لا تثق سوى بجارتها لتحصي لها ما تبقى من "ثروتها"، وحين تعبت الأخيرة منها ومن أسئلتها الكثيرة حول كل عملة، حاولت أن تقنعها بانشاء حساب في البنك، فما كان منها سوى أن طردتها من الدكّان.

كنّا نضحك حين نسمعها تشتم المصارف وأصحابها و"المكنات" التي لا تفهم طريقة عملها، أو حين تصّر على تخبئة أرباحها الضئيلة داخل ملابسها في النهار وتحت فراشها وقت النوم. لكن اليوم، صارت المخاوف التي كانت تحتل رأس الحاجّة جميلة واقعنا، فهناك مَن يخبّئون أموالهم في المنزل ويخافون السرقة أو اندلاع حريق مفاجئ، ومَن يحاربون لاسترداد كل سنوات شقائهم، ومَن يريدون نيل حريّتهم المادية المحجوز عليها كي يهربوا إلى بلاد بعيدة، أو حتى أقل من كل هذا، هناك مَن يحاولون سحب مبالغ تتخطّى الحد الأسبوعي الذي تفرضه المصارف، لإطعام أطفالهم فقط.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard