شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
المدرسة بالأصل فكرة فاشلة، فكم بالحري إذا كانت على هيئة إسطبلات؟

المدرسة بالأصل فكرة فاشلة، فكم بالحري إذا كانت على هيئة إسطبلات؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 4 فبراير 202103:45 م

في غرفة الصف الأول الابتدائي، كان التلاميذ بأحجامهم الضئيلة محشورين في مقاعد مكسّرة، وبأعداد تفوق الأماكن المخصصة للجلوس. كنت أقف قرب المعلمة الناعمة التي لا تنفكّ تردد عبارة " تكتف ورجاع لورا" ثم تردف بـ " ما بدي نفس" مع التشديد على الدال.

 كنت أراقب المشهد وأقول في سري: لا شك أن هناك أحداً من الأطفال الآن يستغرب كيف له أن ينفذ كلام المعلمة، كيف له ألا يتنفس "هذا مستحيل سنموت إن لم نتنفس"، هكذا قرأ في درس العلوم، حاولت أن أتجاهل صراخها، وأشرت إلى عامل الصيانة الذي كان برفقتي أن يتحرى وضع المقاعد ويجرد عددها لصيانتها لاحقاً، وبينما هو منهمك بمهمته، سألتهم بلطف وابتسامة محبة: "هل هناك أي مشكلة أخرى غير المقاعد يا حلوين؟".

 رفعت يدها تلميذة أنيقة ثم نهضت وقالت بكل جرأة وطبيعية: "يا ريت لو بتلاقولنا حل لمشكلة العناكب". وأشارت بيدها إلى سقف وزوايا غرفة الصف. لم تكد الصغيرة تكمل طلبها، حتى سمعتُ ضحكة المعلمة تخلخل هواء الصف، وبسخرية مرّة أشارت لها أن تجلس فوراً ساخرة من طلبها الغريب! ثم التفتت إليّ وقالت مع ابتسامة غبية معتقدة أنني حكماً في حلفها ضد التلميذة: "شوف ما أميعها، قال عناكب…. شو رأيك نفرشلك موكيت ونجبلك حدا يعملك مساج؟".

لم تكد الصغيرة تكمل طلبها، حتى سمعتُ ضحكة المعلمة تخلخل هواء الصف، ثم التفتت إليّ وقالت مع ابتسامة غبية معتقدة أنني حكماً في حلفها ضد التلميذة: "شوف ما أميعها، قال عناكب…. شو رأيك نفرشلك موكيت ونجبلك حدا يعملك مساج؟"

 لم أجاملها بابتسامة كما توقعت مني، بل صمتُّ وتذكرت معلم الوطنية الذي قال لي في الصف السادس: "تكتف ورجاع لورا"، ولأنني خُدعت بكلامه حول الحقوق والواجبات في أحد الدروس، تجرأت وقلت له إن المقعد غير مريح، وأشرت بيدي إلى المسند الخشبي المكسور، ابتسم بسخرية وقال: "خلص وعد بكرا رح جبلك كنباية من غرفة الإدارة ولا قلك الكرسي الدوار يلي بيقعد عليه سيادة المدير"... ثم صرخ بقسوة وقحة: "شو إنت هون جاي تقرا وتتعلم ولا جاي تسترخي كأنك ع الشط؟".

هو ذاته المعلم الذي قضى حصة كاملة يشرح لنا أن المدرسة هي بيتنا الثاني. كنت افتقر لجرأة تذكيره بكلامه ذاك، بل كنت أخاف صفعته، التي سينشغل حصة درسية كاملة بإقناعنا بأبوية الصفعات وأهميتها التربوية ودورها في تقويم إعوجاج الأجيال الصاعدة إلى المجد والسؤدد.

نعم المعلمة الناعمة محقة تماماً، ليس من السهل عليها أن تكون غير ذلك، هكذا تربّت وهكذا عوملت، فمن الطبيعي أن تعيد إنتاج نفس القمع ونفس الغباء ونفس الإذلال، يشرح عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو هذه الفكرة  من خلال ما أورده من أبحاث وكتب، بأن الأمر ليس متعلقاً بثنائية "مخير أم مسير"، فالمعلمة هنا ليست مخيرة أو مسيرة تماماً، بل الأمر أشبه بالسلوك التلقائي والطبيعي، وقد نحت بورديو مفهوماً يخص هذه الحالة ويكثفها متعالياً على الثنائية الكلاسيكية تلك في فهم الظواهر الاجتماعية، وهو الهابيتوس (L’HABITUS).

 يُعرّف الهابيتوس بأنه "نسق من الاستعدادات المكتسبة التي تحدد سلوك الفرد ونظرته إلى نفسه وإلى العالم الذي يكتنفه، وهو أشبه ما يكون بطبع الفرد أو بالعقلية التي تسود في الجماعة لتشكل منطق رؤيتها للكون والعالم، ووفقاً لهذا التصور يعتبر الهابيتوس  جوهر الشخصية والبنية الذهنية المولدة للسلوك والنظر والعمل، وهو بوضعيته هذه يضفي المشروعية على وضعيات اجتماعية مهمة مثل التحيزات الطبقية والعنف الرمزي والشعور بالهوية الفردية والجمعية".

 يرى بورديو أن الإنسان الاجتماعي يسلك ويتصرف وفق حتميات لاشعورية أي دون أن يعرف لماذا يسلك على هذا النحو ويتصرف على تلك الطريقة.

 لذلك لا لوم مباشراً على المعلمة، فهي من جهة ما مجرد ضحية أخرى، ومن الطبيعي أن تسخر من حقوقها الطبيعية، وتُدهش من المطالبة بها، ومن الطبيعي أن تألف كل ذلك الخراب الذي عاشت فيه، وتكدس من حولها مذ كانت تلميذة مجتهدة في مدرسة ما، إلى أن غدت معلمة في مدرسة ما، مقاعدها مكسرة، وغير مريحة، وجدران متسخة، وغرف معتمة، أو بإضاءة شحيحة بأحسن الأحوال، وعناكب في كل مكان، ومسامير ناتئة تشقّ الأكمام وأطراف السترات، وأبواب تحتاج إلى إضافات ورقية كي تغلق، وساحات غير مخصصة للعب آمن، ونادراً ما تلمح أشجاراً ووروداً، وأسوار عالية، وأبواب حديدية جلفة وقاسية، وتمديدات كهربائية مرعبة، وشبابيك بزجاج آيل للسقوط في كل لحظة، وشبك حديدي بفتحات صغيرة جداً من النوع المخصص للسجون والمعتقلات، حتى لون البناء قاتم ومقيت، ولا يبعث على الفرح.

في كل الكون ترتبط الألوان الزاهية والصريحة والفرحة بالطفولة إلا في بلداننا، لا شيء مذهّباً هنا إلا تماثيل القيادات وشعارات المنظمات التابعة للحزب الحاكم، ولا شيء ملوناً إلا صورهم، حتى علم البلاد مهترىء كأنما جرذان طائرة تقضمه منذ سنين. كنت دائماً ألمح عيون الصغار الحلوة وهم ينظرون إليه بينما الريح الوقحة  تلفح قماشه وتلفح كفوفهم الباردة، تلك المرفوعة بالقرب من جباههم في تحية العلم، في الوقت الذي ينتصب قريباً منهم وفي مواجهتهم تماماً نائب المدير القارس.

المدرسة بأحسن أحوالها، المدرسة كفكرة، أوجدتها البشرية عبر تطورات طويلة وتحولات عدة، على اعتبار أنها الحل الأمثل لتنظيم العملية التعليمية ومخرجاتها، إلا أنها ليست كذلك أبداً، بل هي طريقة غبية وقامعة بالأصل، ورغم ذلك تبقى الطّامة الكبرى أنها حتى الآن هي الحل الوحيد الذي لا بديل عنه، إذ ثمة محاولات هنا وهناك لأنواع تعليمية وتجارب تخص هذه المهمة لكنها لم تفلح.

 من المؤكد أن البشرية يوماً ما وربما في المستقبل القريب، ستلتفت إلى الخلف وتتأمل فكرة المدرسة لتتأسف وتضحك من حلولنا نحن البشر أسلافهم البسطاء،  المدرسة كفكرة هي بأحسن أحوالها مركز لإنتاج وممارسة العنف بكل أشكاله، وإعادة إنتاج البنى التي يفترض أن يتم تجاوزها، فما بالك إن كانت هذه المدرسة أشبه بمعتقل أو إسطبل، حتى الإسطبل يتم إنشاؤه  بطريقة تتوخى عوامل الراحة والأمان، فثمة ثروة في الداخل لا بد من الحفاظ عليها.

على الرغم من كل هذا، لا تزال تسمع الكثيرين ممن ينطوون تحت صفة متعلم أو مثقف يقولون بلهجة شاكرة وممتنة "احمد ربك واشكره أن لدينا مدارس ومجانية تعليم!".

المدرسة كفكرة هي بأحسن أحوالها مركز لإنتاج وممارسة العنف بكل أشكاله، وإعادة إنتاج البنى التي يفترض أن يتم تجاوزها، فما بالك إن كانت هذه المدرسة أشبه بمعتقل أو إسطبل، حتى الإسطبل يتم إنشاؤه  بطريقة تتوخى عوامل الراحة والأمان، فثمة ثروة في الداخل لا بد من الحفاظ عليها

المسألة لا تتوقف على تكديس الخراب وتكريس البشاعة بشكل ممنهج ومدروس، بل هناك ميل واضح لدى الكثير من المشتغلين بالحقل التعليمي لمحاربة تفاصيل جمالية بسيطة يمارسها التلاميذ على مستوى لباسهم أو تصفيفة شعرهم، عادة ما يروي لي طلابي بعض القصص عن مواقف القمع التي تعرضوا  لها من قبل بعض المعلمين والمعلمات، مواقف من مثل أن هناك موجهة يكاد يغمى عليها من الغضب لمجرد أن تلمح إحدى الفتيات تلبس حذاء ملوناً، أو حتى جوارب ليست قاتمة، فما بالك إن كانت تلبس بكلة شعر ملونة أو لم تعقص شعرها على شكل ذيل فرس،  ودائماً تردد للمخالِفات عبارة "أنتي شكلك جايي بالغلط ع المدرسة اليوم... أنتي كان لازم تروحي ع محل تاني" (ملمّحة إلى بيت الدعارة). أو أن مدير مدرسة يسكب سائل الجلي على رؤوس الطلاب الذين ضبطهم متلبسين بـwax يلمع على شعرهم. الكثير من القصص تحصل في صباح كل يوم جديد في مدارسنا، بدعوى الحفاظ على القيم الأخلاقية والتعليمية العريقة.

لكن مهلاً، يبدو أنني متحامل جداً ومبالغ في وصف وإحصاء السلبيات أعلاه، بقليل من التأمل يتضح لك أنها حقاً مدارس عبقرية، كأنما تقول: "أيها التلميذ الجميل والحزين، أنت بالنهاية ذاهب إلى وطن يشبه هذه المدرسة، نحن هنا نعدّك لمهمتك الأصعب في هذا المعترك الذي ينتظرك، نحن حقاً لا نخدعك".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image