شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
بانوراما أمومة

بانوراما أمومة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 8 فبراير 202103:50 م

علاقتي مع الأطفال وتربيتهم قديمة. كنت أصغر الأحفاد حتى عام 1995، حين ولدت خالتي بنتاً وأنا في الحادية عشرة من عمري. ظللت طوال أشهر حملها التسعة، أعد الأيام حتى أرى المولود أو المولودة، وذلك لأنني أحب الأطفال كثيراً وليس في عائلتنا أي طفل.

منذ الأشهر الأولى بدأت أحسّ بالمسؤولية تجاه هذه الطفلة، وبعد أن تجاوزت سنتها الأولى، كانوا يتركونها عندي ويذهبون لأتولّى رعايتها. كانت طفلة بالغة الذكاء وشقية جداً، مازلت أذكر جيداً كيف نجحت في تعليمها الألوان وهي لا تزال ابنة ثمانية أشهر. وضعت أمامها أقلام تلوين وقلت لها لون كل واحد، وبعد ذلك بدأت أطلب إليها أن تعطيني الأحمر مثلاً، فما كان منها إلا أن التقطت القلم الأحمر وأعطتني إياه، دهشت من ذلك ولم أصدق وظننتها مصادفة، طلبتُ لوناً آخر فناولتني القلم الصحيح وهكذا...
حين بدأتْ تكبر، كنتُ تلك الفتاة الحكيمة التي يطلبونها في الأوقات العصيبة، أي حين تتعقد المشكلة وتزداد ابنة خالتي شقاوة، كان لي نوع من قوة التحكم بها والسيطرة على شقاوتها بأساليب بسيطة بعيدة عن الغضب والعنف، وكثيراً ما نجحت في تهدئتها وكثيراً ما فشلت، فقد أتقنت توظيف ذكائها الشديد في استفزاز والديها وإثارة جنونهما.

الأمومة هي سرّ الخليقة وطعم الحياة ولا حصر للأطفال الذين بإمكانها احتضانهم، حتى لو لم يكونوا من رحمها

خلال تلك الأعوام، كنت أذهب إلى أحد مسابح حمص، وكنت أرى الكثير من الأطفال الذين نسجت عيونهم حلمي في أن يكون لدي روضة أطفال في المستقبل، ولطالما تمنيت أن أجمع الكثير منهم، وأقضي حياتي مع براءتهم وجمالهم.
كبرت ابنة خالتي، وتزوجت أختي عام 2006 وأنجبت بنتاً، هذه البنت تحديداً كانت بمثابة ابنتي الأولى، عرفت معها معنى أن نربي الطفل بدموع العينين. كانت طفلة غير عادية بالذكاء والإحساس، لكنها أيضاً صعبة للغاية ومزاجية. واجهت معها أصعب المواقف، وزادت خبرتي في فهم نفسية الطفل وأسرار عوالمه ومدى حساسيته، والأهم من ذلك كلّه، أنني اقتنعت باستنفادي هرمونات الأمومة ومشاعرها كلها معها.
وحين ولدت أختي ولدها الثاني لم أكن مهيئة إطلاقاً، لا لاستقبال طفل ولا لتقبل تربية صبي، كوني لم أتعامل من قبل إلا مع بنات، وهيمنت عليّ فكرة أنني لن أكون أماً إلا لبنت أو لبنات، واقتنعت كلياً أنه من المستحيل أن أكون أماً لصبي.
كنت حينها في صدد إنجاز أطروحة الماجستير والتحضير لزواجي، وذلك كلّه تزامن مع بداية الألم السوري في مطلع عام 2011.
تزوجت بعدها وتركت سورية، وتركت ابنة أختي (قطعة من قلبي)... خنتها وخنت كل ذكرى وكل ألم عاشه إنسان ما في بلدي وأنا بعيدة. لم ينجح شيء حينها في إقناعي بأنها لم تكن خيانة تحت مسمّى (طبيعة الحياة).
لا شعورياً كنت رافضة لفكرة الإنجاب، إذ لم أشأ أن أشعل قلب ابنة أختي بنار الغيرة. لم أكن أتصور أن أنجب لها ضرّة، خصوصاً وأنها عانت غيرة مريرة من أخيها، وفوق ذلك كلّه، لم أشأ أن أكون سبباً في إنجاب إنسان آخر ليتعذب في هذه الحياة، وأنا أرى ما يحصل في بلادي.
مرت سنة على زواجي تقريباً ولم يكن قراري قد تغير بعد، لكن حدث أننا تعرضنا زوجي وأنا لحادث مروري ضخم في أبوظبي، يوم عيد ميلادي، في الثامن من آذار عام 2012، حيث اصطدمت خلاله ثلاث عشرة سيارة، وكانت سيارتنا رقم ثلاثة من الخلف.

كان الازدحام المروري في أوجه، وجميع السيارات متوقفة وإذا بأعمى قلب يقود سيارته الفورويل بسرعة، دون أن يكترث بتوقف الطريق بالكامل بسبب الازدحام، وإذا بسيارته تنطح السيارة المقابلة لها بعنف شديد، ومن عزم الضربة بدأت مقدمة كل سيارة تدخل في مؤخّرة السيارة التي تتقدمها. وهكذا كان مصير ركاب السيارتين المتوقفتين خلفنا عسيراً لأنهما تلقوا الصدمة الأكبر.

سأنجبُ وردةً
وأسمّيها جنى الحقل
وسيكون المخاضُ في لحظةٍ شتاصيفية
فإلهٌ على الأرض
لابدّ سيصنع العجائب
لأنّه كما في السماء كذلك على الأرض

شعرت بأحشائي تتمزق فيما أروح وأجيء بعنف إلى الأمام والخلف، وللأسف لم تنفتح أكياس الهواء حينها كي تقيني هذه الخضّة الرهيبة، أما زوجي فقد كانت صدمته أقل عنفاً لأنه كان خلف المقود وبالتالي وقاه من تلك الخضّة.

شعرت عقبها بالعجز عن الحراك، وكان المشهد من حولي ضبابياً بالكامل، باستثناء الكثير من أضواء السيارات وبعض الدماء التي نزفها سائق السيارة التي دخلت مرغمة في سيارتنا. ومن حسن حظنا أن خسائرنا اقتصرت على سيارتنا الجديدة التي علمنا أنها غير قابلة للإصلاح، وبضعة أيام قضيناها في تحمّل آلام الرضوض.

عشت بعدها بضعة أشهر في حالة نفسية ليست لطيفة، حفزت الكثير من الآلام الجسدية مجهولة الأسباب، وبدأت علاقتي مع زوجي تتأزّم، لكننا وجدنا أن قرار إنجاب طفل ربما يخفّف بعض الأعباء التي لم نتوقف عن تحميلها لأنفسنا مذ تركنا سورية تنزف.
وهذا ما كان، وتحققت نبوءتي بإنجاب بنت أسميها جنى، حيث كتبت عام 2010 في إحدى قصائدي:

سأنجبُ وردةً
وأسمّيها جنى الحقل
وسيكون المخاضُ في لحظةٍ شتاصيفية
فإلهٌ على الأرض
لابدّ سيصنع العجائب
لأنّه كما في السماء كذلك على الأرض.
حيث ولدت جنى في لحظة (شتا صيفية) في إمارة أبوظبي الحارّة، لكنّ المطر كان غزيراً في ذلك اليوم، على ندرة المطر في تلك الأرض.

 ومنذ تلك اللحظة بدأت قصة القصص، وفاضت بداخلي أنهار أمومة لا تنضب، وعلمتُ معها أنّ هرمونات الأمومة ومشاعرها لا حدود لها.
لن أتكلم عن جنى لأنها لا تُختزل في سطور، ولأني منذ سنوات ثمان لا أفعل شيئاً إلا من خلالها، ولها وعنها وفيها ولأجلها.
جنى أناي، وسأقضي حياتي فقط أحكي عنها.

مرت سنوات وأنا مكتفية بها، ومقتنعة أنها ستكون وحيدتنا، لكن الله شاء أن أعرف كذلك معنى أن يرسل ما لا ننتظره وما لم نخطط له، فأهدانا جول، الصبي الذي لم أكن لأتخيل يوماً أنني سأكون أمّه.

اليوم، وبعد سنوات قضيتها بين ضحكات ودموع الأطفال الذين مروا في حياتي، أجد نفسي أتحول تدريجياً إلى شخص ينتمي إلى عالمهم الساحر والرّحب يوماً فيوم. ومؤخراً لم أعد أهرب من عمل يتعلق بالمدارس وإن بلغة لا أتقنها. اليوم بتّ معلمة في صف تعليم للغة العربية أون لاين، وبات بيني وبين تلاميذي علاقة لطيفة، أنا التي هرعت هاربة غير مرة من مدارس أجبرت نفسي على محاولة التعليم فيها.
اليوم أكتب قصصاً للأطفال، أستوحيها من جنى وجول، ومنّي، أنا الطفلة التي ربت كلّ هؤلاء.
اليوم، وأنا أمّهم جميعاً، أسأل نفسي: هل يا ترى لا تزال الأيام تخبئ لي مزيداً من الأطفال؟ من هم؟ أمزيد من الأطفال الذين سينجبهم رحمي؟ أحفاد؟ هل سأستفيد من فرصة إقامتي في بلد يتيح التبنّي؟ أم هل سأعود لأحلم حلمي القديم المتعلق بأن يكون لدي روضة أطفال، وهو مشروع مربح وتحقيقه متاح هنا؟ وهل يمكن لجسدي المنهك وظهري المتكلس وكل آلامي المزمنة أن تقوى على تحقيق شيء من هذه الاحتمالات؟

يقاطع أفكاري صوت ابني جول: ماما بحبّك.
- ليش بتحبّني؟
- لأنك ماما

أعتقد أنني مازلت قادرة على تحقيقها جميعاً، رغم استحالة ذلك بعيون واقعية، لا من باب المغالاة أو الأمل، بل لأن الأمومة هي سرّ الخليقة وطعم الحياة ولا حصر للأطفال الذين بإمكانها احتضانهم، حتى لو لم يكونوا من رحمها. أفكّر بهذا دائماً ويحزنني حين ألمح الحسرة في عين أمّ لم تستطع الإنجاب. نعم كلّ أنثى هي أمّ وإن لم تسمح لها الحياة أن تحمل وتنجب.

يقاطع أفكاري صوت جول: ماما بحبّك.
- ليش بتحبّني؟
- لأنك ماما.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image