تندرج المقالة ضمن مشروع "بيروت بلا نوافذ" وهي مساحة مخصصة لشابات صحافيات يتحدثن عن بيروت بعد الانفجار. يقدم رصيف22 السلسلة ضمن منحة "قريب" من CFI، الممولة من قبل AFD.
جنون بيروت لا يستطيع ترويضه إلا كتّابها. يعترف جبران خليل جبران في كتابه الأول باللغة الإنجليزية "المجنون"، الذي نُشر عام 1918 في نيويورك: "لقد وجدتُ الحرية والأمان في جنوني؛ الحرية من الوحدة، والأمان من فهم الآخرين لي، لأن أولئك الذين يفهموننا يستعبدون شيئاً فينا".
مدينة من غير قرّاء
بالفعل، فإن جوهر سردياتنا الذي يظهر يومياً في الصحف والروايات، يكشف عن تجربة الجنون في مدينة من غير قرّاء. فكر في جميع المؤلفين اللبنانيين المغتربين، الذين يعيشون في البرازيل، نيويورك، باريس أو أي مكان آخر، عندما كتبوا عن الحرب الأهلية عام 1975، هل كانوا مهتمين بأن بيروت لن تقرأهم أبداً؟
بيروت لا تاريخ لها من دون كُتابّها، فإنهم عندما يكتبون عن الحرب، وعن الاقتصاد، وعن الثورة، وينشرون كتاباتهم في مدن أجنبية، فإنهم بذلك يشاركون في إحياء ذكرى كل تلك التجارب التي عشناها. لكن ألا يجب على المرء أن يسأل: لمن يكتب هؤلاء؟
لكن الأهم من ذلك، لماذا يهتم المتسول الجائع في الشارع بأن يلاحظ شخص ما بؤسه ويحوله إلى بطل في كتابه؟ ماذا عن البائعة المشتتة ذات الأرفف الفارغة التي لا تبيع شيئاً سوى الفول السوداني منتهي الصلاحية؟ ما بين الأفكار الانتحارية التي تراودها والإلهامات الإلهية التي تشعر بها، هل تخصص وقتاً لقراءة مقال عن كيفية الحفاظ على الاستقرار العقلي في مدينة غير مستقرة؟
"لكن دعني لا أكون فخوراً بسلامتي"، يكمل جبران قائلاً: "حتى السارق الموجود داخل زنزانته يكون بمأمنٍ من سارق آخر." هل نحن، كتّاب بيروت، مسجونون بأفكارنا عن الأمان، أو الأسوء، هل أصبحنا آمنين مثل اللصوص؟ الكاتب يحنط التاريخ، وفي بيروت -المدينة الخالية من القرّاء- ليس هنالك عواقب وتبعات تلحق بالذين يفبركون الحقائق.
التاريخ العام الذي لا يملكه أحد، كما يؤكد محمود درويش، يصبح متاحاً لأي كان أن يرثه. بيروت لا تاريخ لها من دون كُتابها؛ لذا، فإنهم عندما يكتبون عن الحرب، وعن الاقتصاد، وعن الثورة، وينشرون كتاباتهم في مدن أجنبية، فإنهم بذلك يشاركون في إحياء ذكرى كل تلك التجارب التي عشناها. لكن يمكن للمرء أن يسأل: لمن يكتب هؤلاء؟ ومن هم قرائهم؟
يكتبون عن بيروت مرة تلو الأخرى، لكننا لا نقرأهم، أليس كذلك؟ نحن لسنا مجتمع قرّاء. نحن مجتمع يعتمد على المشتتات من أجل البقاء، والكتب هي أسوء إلهاء. الكلمات تظهر أمامنا تجاربًا نريد أن ننساها. مع ظهور الثقافة المرئية والمنصات الاجتماعية، أصبنا بخيبة أمل من الكلمة المكتوبة. نحن لا نقرأ، وإن حصل وأردنا القراءة، فإننا نهتم فقط بقراءة النكات والكلمات المتقاطعة.
قال كمال صليبي يومًا : لبنان اليوم ليس دولة، هو "بيت بمنازل كثيرة"
وأنا أكتب اليوم لغير القراء. أتذكر كلمات كمال صليبي: لبنان اليوم ليس دولة، "بيت بمنازل كثيرة، 1988". ليست تهمة أن نعلن أن لبنان فشل كدولة، لكن دعونا لا ننسى أنني أستطيع أن أكتب كما يحلو لي. من سيقرأ أصلاً؟
أصبح لدينا وقتًا كافيًا للحزن
يُنظر إلى الأدب في العالم العربي على أنه وسيلة مميزة للتعبير، فهو للأشخاص الذين يستطيعون أن يمنحونه ما يتطلبه من وقت ومن تأمل. أنا، ومنذ سنوات، أتلو على مسامع أشخاص غرباء، كلمات الروائية البرازيلية كلاريس ليسبكتور، عندما كتبت: "حتى الحزن كان أيضاً شيئاً للأثرياء، للأشخاص الذين يمكنهم تحمله، للأشخاص الذين ليس لديهم أي شيء أفضل لفعله. كان الحزن رفاهية".
لكن اليوم، وأخيراً، أصبح لدينا وقتاً كافياً لنحزن، فالجائحة التي أجبرتنا على البقاء في المنازل، دفعتنا أخيراً أن نفتح ذكرياتنا الموجعة التي كنا قد أغلقنا عليها في الأدراج مع صورنا ورسائلنا وبعض الطلقات. من نحن؟ وماذا أصبحنا؟ نحن 69 سجيناً فروا، سرقوا سيارة أجرة، اصطدموا بشجرة وماتوا.
هذا يذكرني بالمشهد الأخير في رواية ليسبكتور، "ساعة النجم، 1977"، عندما زارت ماكابيا عرافاً تنبأ لها أنها ستصبح ثرية وسعيدة، وعندما غادرت، دهستها سيارة مرسيدس صفراء. نحن سجناء فروا من السجن، فأمسكت أمهاتنا بأيدينا وسلمتنا بنفسها إلى الشرطة مرةً أخرى. هناك حرية في السجن يا بني.
سنظل جاهلين إلى الأبد
قبل الإقفال العام بسبب كورونا، كنت أبحث عن خزانة للكتب لأشتريها. ذهبت من متجرٍ لأخر، وكما كنتُ أتوقع، لم يكن أياً منهم يبيع منها. رغم أن أحد تلك المتاجر كان يعرض ثلاثة منها، إلا أنه لم يكن يعلم لماذا تُستخدم. قررتُ أن أطلب من نجار أن يصمم لي واحدة، وخلال حديثي معه عبر الهاتف، وأنا أصف نوع الخشب الذي أريده، اعترف لي أنه كان قارئاً نهماً عندماً كان يعيش في أستراليا.
اليوم، أخيراً، أصبح لدينا وقتاً كافياً لنحزن، فالجائحة التي أجبرتنا على البقاء في المنازل، دفعتنا أخيراً إلى أن نفتح ذكرياتنا الموجعة التي كنا قد أغلقنا عليها كلّ الأدراج . من نحن؟ وماذا أصبحنا؟
علمت إلى أين سيقودنا هذا الحديث. قال إنه لم يعد يمتلك وقتاً للقراءة، فلا أحد يبالي بالكتب عندما يشاهد أن العالم الذي حوله ينهار. حتى القارئ لم يعد يقرأ في هذه المدينة التي أصبح شراء الليمون فيها يُعد ترفاً. إذا كان الليمون قد تضاعفت أسعاره ثلاث مرات عما كانت عليه من قبل، فإن أسعار الكتب تضاعفت أربع مرات عن أسعارها القديمة.
كنا غير متعلمين مرة، والآن سنظل جاهلين إلى الأبد، وإلا كيف تستمر الحكومات الفاسدة في السيطرة على الناس؟ لم أفكر أبداً في الكتب على أنها رفاهية، لكن لدى بيروت طريقة تجعلك تغير أفكارك. إنه تحدٍ أن تكتب من دون وجود قارئ. هل أصبحنا مجانين؟
أنا أشرب الشاي في كوب مكتوب عليه "توكلوا على الله -هي ستوفر". أين جان بول سارتر عندما نحتاجه؟ في محاضرة ألقيت في عام 1946، ناقش سارتر أن أولئك الذين ولدوا جبناء لا يمكنهم فعل أي شيء حيال ذلك، والأمر نفسه ينطبق على أولئك الذين ولدوا كأبطال، لكن الوجودي يعتقد أن الناس يصنعون أنفسهم كما يحلو لهم. هناك دائماً احتمال لجبان أن يجعل نفسه جباناً وأن يتوقف البطل عن كونه بطلاً. إلى الذي لا يقرأ، أسأله، من تريد أن تكون؟
يعتقد سارتر أن أولئك الذين ولدوا جبناء لا يمكنهم فعل أي شيء حيال ذلك، والأمر نفسه ينطبق على أولئك الذين ولدوا أبطالًا
سأختتم هذا المقال باقتباس من كاتب برازيلي آخر هو ماشادو دي آسيس: "العمل بحد ذاته هو الأهم: إن أعجبك عزيزي القارئ، يجب أن تدفع بدلاً لائقاً لي مقابله، وإن لم يعجبك، فاغرب عن وجهي ولا تقرأ".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...