أثبتت بعض المهن في تونس ديمومتها رغم رياح التغيير التي هبت على كل القطاعات، وساهمت إما في تطويرها أو اندثارها، ولعل مهنة "القرباجي" أو "الطراق" من المهن التي ظلت صامدة رغم العوامل التي هددت بقاءها، كظهور مؤسسات مختصة في بيع المياه المعدنية، وتطوير البنية التحتية، وإمداد معظم المدن والقرى بمياه الشرب.
"القرباجي" هو ذلك الرجل الذي يجوب الأحياء والمدن والأرياف من أجل بيع كميات من المياه بمقابل مادي، وسُمّي بـ"القرباجي" لأنه كان يبيع الماء قديماً في "قربة"، وهي عبارة عن كيس من جلد الماعز أو البقر، تستخدم عادة في حفظ الماء وتبريده، وسمّي أيضاً بـ "الطراق" لأنه كان يطرق الأبواب.
هذه المهنة عادت من جديد أو بالأحرى فرضها الواقع الذي يعيشه المواطن التونسي نتيجة رداءة مياه الصنابير.
ويروج "القرباجية" المياه في معظم المحافظات التونسية، خاصة في تونس العاصمة، وسوسة، ومدن الجنوب.
موروث شعبي
تعد مهنة "القرباجي" من الموروث الشعبي التونسي، ابتكرتها المجتمعات لتوفير مياه الشرب في المناطق التي لا تتوفر فيها صنابير المياه، وتبعد عن المنابع الطبيعية، كما تعدّ مصدراً للرزق.
"الطراق" في قديم الزمان كان يستعين بـ"كريطة" أي حمار يجرّ عربة على متنها "قِرب" من الماء، يوزعها على الأهالي، مقابل مبلغ مالي زهيد.
وكان أجدادنا قديماً يستعينون عند الجفاف بالجمّالة، والحمّارة (سائقي الجمال والحمير) لنقل الماء إلى المساجد والمنازل، كما كان رجال كبار وأطفال يتجوّلون في محطات القطارات، والحافلات، وسيارات الأجرة لبيع الماء، قائلين: "الماء يا عطشان، امية ماجل يا عطشان، اروِ عطشك يا عطشان".
تغيرت صورة ذلك "القرباجي"، الذي يجوب الأحياء في حر الصيف، وبرد الشتاء بحثاً عمن يشتري القليل من الماء، ليصبح "ملكاً في بلاطه"
ولم يثبت تاريخياً متى انطلقت هذه المهنة بالتحديد، لكنها موغلة في القدم، حسب ما تذكره محبوبة الكافي (77 عاماً) لرصيف22، إذ تقول إن هذه المهنة موجودة منذ ولادتها، حتى قبلها بسنوات، ولا تزال مستمرة، لكن بوتيرة أقل.
"القرباجي" عاد إليكم من جديد هذه المرة، ولكن بأسلوب جديد إذ تخلَّى عن القربة والحمار والعربة، عاد بسيارات رباعية الدفع، وبراميل، وخزانات بلاستيكية.
بداية الطريق
يقول منير (31 عاماً)، يعمل "قرباجي"، لرصيف22: "تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي دفع بي إلى التفكير في عمل دون اتباع سياسة المسمار في حيط (أي التعويل على الوظيفة العمومية) التي توفرها الدولة، والتي باتت بدورها مفقودة بعدما قرر رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد تجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية للتقليص من نسبة عجز ميزانية الدولة، ومزيد التحكم في مستوى التداين العمومي وذلك بترشيد النفقات وإحكام التصرف في ميزانية الدولة".
ويقول منير (وهو يسكن في أحد الأحياء الشعبية بالعاصمة): "هناك بعض المنازل لم يتم تزويدها بعد بالماء الصالح للشرب، نتيجة للبناء الفوضوي الذي صعّب مهمة الدولة في حفر قنوات لتزويدهم بالماء، وهو ما أعتبره سبباً كافياً، وفرصة لبيع المياه لهؤلاء السكان، وغيرهم من المواطنين".
وتقول بسمة المومني (36 عاماً)، عاملة بمؤسسة خاصة، إنها تلجأ إلى شراء الماء من "القرباجي" لرداءة مياه الحنفية وغلاء أسعار المياه المعدنية، إذ لا يمكنها هي وعائلتها (المكونة من ستة أفراد) أن تشتري يومياً بما يقارب الدولارين لشرب مياه، صحية وغير ملوثة.
ويتنقل منير يومياً عشرات الكيلومترات من وسط العاصمة إلى منطقة المرناقية (تبعد 19 كلم عن وسط البلاد) ليعبئ المياه في براميل بلاستيكية، ثم يعود بها إلى الأحياء الشعبية، ويصل حتى إلى وسط العاصمة لبيعها لـ"مستحقيها".
مدخول الصيف والشتاء
واكتسب منير عبر هذا العمل زبائن كثراً، يقوم بتزويدهم بالماء الصالح للشرب، كما يكسب يومياً عشرات الدولارات، إذ يختلف المدخول من يوم إلى آخر ومن فصل إلى فصل، إذ لا يمكن مقارنة المدخول المادي الذي يحققه في الصيف بمدخول أيام الشتاء.
نسبة الإقبال في فصل الصيف وشهر رمضان كثيفة جداً، بحسب منير، إذ يضطر أحياناً إلى العمل حتى الليل من أجل إرضاء جميع الزبائن، وكسب المزيد من المال، ويصل مدخوله أحياناً نحو 300 دولار يومياً.
ويؤكد منير أن مشروعه قد يكبر بمرور الأيام، وأرباحه تتضاعف، نظراً لإقبال المواطنين على شراء مياهه، التي يجلبها من منطقة المرناقية حيث سد بني مطير الذي يتميز بمائه العذب.
تلجأ إلى شراء الماء من "القرباجي" لرداءة مياه الحنفية وغلاء أسعار المياه المعدنية، إذ لا يمكنها هي وعائلتها (المكونة من ستة أفراد) أن تشتري يومياً بما يقارب الدولارين لشرب مياه، صحية وغير ملوثة
ويفكر منير بالتوسع أكثر في مشروعه، وشراء سيارة أخرى رباعية الدفع، وانتداب أحد العمال لمساعدته على ترويج الماء في عدد أكثر من الأحياء، كما يفكر جدياً في استرجاع العادات والتقاليد السابقة من خلال بيع الماء في جرار من الفخار، وهو ما من شأنه أن يجلب له ربحاً أكبر.
ماء الذهب
في محافظة جندوبة شمال غربي تونس، يخرج محمد الونيسي (42 عاماً) هذه الأيام إلى العيون الجبلية، التي تنبع من عمق جبال عين دراهم، يصل إلى "عين الجمال"، التي تلفها غابات ولوحات طبيعية رائعة، يضع براميله أرضاً، ويصففها بانتظام، وينطلق في ملئها عبر خرطوم، ولا تتجاوز تلك العملية النصف ساعة تقريباً، نظراً لقوة تدفق المياه من الجبال.
يقبل عليها الأهالي، لأنهم يعرفون مصدرها، ويثقون في الونيسي كل الثقة.
يغادر الونيسي بسيارته، التي أرهقتها الطرق الوعرة نحو محافظة جندوبة، حيث يبيع تلك المياه التي يقبل عليها الأهالي، لأنهم يعرفون مصدرها، ويثقون في الونيسي كل الثقة.
يبيع الونيسي البرميل الذي يحمل 20 لتراً من المياه بنصف دولار، وهو مبلغ مقبول بالنسبة للأهالي، حسب ما تأكده الخالة شريفة (53 عاماً)، ربة منزل، إذ ترى أن بعض سكان المحافظة وصولاً إلى منطقة غار الدماء مضطرون لشراء الماء من "القرباجي"، ويعود ذلك لملوحة مياه الصنابير، وتلوثها لأن القنوات الناقلة للمياه قديمة جداً، ولم يتم تغييرها منذ عقود.
ويؤكد محمد (34 عاماً)، موظف حكومي، أن طعم الماء الذي يجلبه "القرباجي" لذيذ، وخفيف، ولا يسبب مشكلات صحية، حسب تجربته الخاصة، مضيفاً أن منابع المياه الجبلية التي تجري تحت التراب تكون عذبة وصافية.
وتكثر الطلبات على تلك المياه في الصيف، خاصة في شهر رمضان، إذ يتوجه بعض "القرباجية" إلى عين بمنطقة العثامنية، التابعة لمعتمدية فرنانة بمحافظة جندوبة، وتسمى "العين القارصة"، وقد سميت كذلك لطعمها الذي يتميز بالحموضة.
يقول عبد الرحمن (45 عاماً)، سائق سيارة أجرة، إن ماء تلك العين يساعد على الهضم، ويقلل من انتفاخ البطن، وذلك عن تجربة خاصة به، وبالعائلات التي تشرب من تلك العين.
ويحصل "القرباجي" على المياه التي يبيعها من دون مقابل مادي، أي أنه يذهب إلى العيون الجبلية، يملأ خزاناته البلاستيكية، ثم ينطلق في بيعها للمواطنين بأسعار متفاوتة حسب الطلب، لذلك يحقق أرباحاً كبيرة.
"صحة المواطن مهددة"
تغيرت صورة ذلك "القرباجي"، الذي يجوب الأحياء في حر الصيف، وبرد الشتاء بحثاً عمن يشتري القليل من الماء، ليصبح "ملكاً في بلاطه"، ويستقبل طلبات، ومكالمات المواطنين ليوصل لهم كل ما يحتاجونه من الماء.
يقول الونيسي إن "القرباجي" عادةً كان يُطرد في بعض الأحياء، وينزعج الناس من الأصوات التي يصدرها لبيع مائه، كما كان يرفض بعض الرجال أن يطرق بابه غريب لأن في ذلك اعتداء على حرمته.
يقدم الماء مجاناً للمنازل التي تشهد وفاة أحد أفرادها.
ويقدم "القرباجي" حوافز جعلته يدخل قلوب المواطنين في بعض المحافظات، إذ يقدم الماء مجاناً للمنازل التي تشهد وفاة أحد أفرادها، وهي مساعدة معنوية تزيد من رصيده.
من جهة أخرى، شددت وزارة الصحة على ضرورة الامتناع عن التزود من مصادر مياه غير مأمونة بما في ذلك وحدات معالجة، وبيع المياه للعموم، وباعة المياه الجوالون، وضرورة استعمال أوعية صحية، ونظيفة لحفظ المياه، وتطهيرها بماء "الجافال" في صورة التزود من نقاط مياه خاصة، واعتماد السلوكيات السليمة، خاصة فيما يتعلّق بتداول المياه والأغذية بالمنزل، وغسل الأيدي بالماء والصابون، وتصريف الفضلات والمياه المستعملة المنزلية بطريقة صحية.
ونبه رئيس المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك، لطفي الرياحي، العائلات من استهلاك ماء "مصدره غير معروف"، ولم يخضع للمراقبة والتحاليل اللازمة من قبل الفنيين المختصين. يقول لرصيف22: "صحة المواطن مهددة، وأطالب سلطة الإشراف بالتدخل لوضع حد للتسيب، هذا الماء يُنقل في أوانٍ غير صحية، وقد يتسبب في أمراض للبعض".
ويختم الرياحي: "المياه المعلبة التي تخضع لتحاليل، ورقابة معمقة، يكون مصدرها معروفاً، ونسب الأملاح التي تحويها مدروسة، في حال تعرض أي شخص للإصابة بجرثومة أو شيء من هذا القبيل، حينها يكون المصدر معروفاً، ويمكن تحميل المسؤولية للمؤسسة المنتجة، والحصول على كامل حقوقه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...