وبالنظر إلى التاريخ يبرز تساؤل: كيف كان سكان القاهرة يحصلون على المياه في القرون الوسطى، في زمن لم تكن به ماكينات رفع كهربائية، ولا شبكات أنابيب تمشي تحت شوارعها، خاصة أوقات جفاف فيضان النيل في عصور ما قبل القناطر والسد العالي؟ كم كان السكان يدفعون للحصول على المياه؟ وهل حدثت أزمات في أسعار المياه؟ ما الفروق في التعامل مع المياه داخل بيوت الفقراء والأغنياء؟ هل كانت المياه نقية، وكيف كانوا يشربونها؟
اجتهدنا في الإجابة عن هذه الأسئلة، من خلال مصادر تاريخية أهمها خطط المقريزي، وبدائع الزهور لابن إياس، ومن خلال دراسة بعنوانWater Supply in Medieval Middle Eastern Cities: The Case of Cairo للباحثة في تاريخ الشرق الأوسط Amalia Levanoni.
في البداية كانت "البِرَك"
شقّ حكام مصر قنوات فرعية للنيل، تنقل مياهه إلى عمق القاهرة لتغذي بحيرات تسمى "بِرَك- جمعة بِرْكَة"، كانت بمثابة خزانات للمياه، ومنها تتغذى آبار تخزين عمومية بالأحياء السكنية، وأخرى ملحقة بالمساجد والأسبلة وبيوت وقصور علية القوم.
وتتفق المصادر على أن القاهرة بدأت من الفسطاط، الذي بناه أول وال عربي على مصر، عمرو بن العاص في 22هـ/ 643م، حيث المنطقة التي يقع بها جامع عمرو والكنيسة المعلقة والمعبد اليهودي، وظلت هكذا في العهد الأموي (661 حتى 750 م)، وفي العصر العباسي الذي أعقب الأموي، والدويلات التي نشأت في مصر خلاله (الطولونية والإخشيدية)، بدأت المدينة تتمدد باتجاه الشمال فنشأت مدينتي العسكر والقطائع.
يروي ابن إياس أنه عندما انحسر النيل عام 1476م تغير لون وطعم المياه لدرجة أن الناس كرهوه وفضلوا، على عكس العادة، الماء غير النقي المخزن في الآبار، والذي كثيراً ما اختلط بفضلات الصرف الصحي
وفي العصر الفاطمي بدأ بناء عاصمة جديدة هي قاهرة المعز عام 969م، في المنطقة التي تعرف اليوم بالقاهرة الفاطمية، والتي امتدت من جبل المقطم شرقاً حتى منطقة العتبة وما يوازيها غرباً، ومما يعرف اليوم بالدرب الأحمر جنوباً حتى مقابر الحسينية شمالاً.
ثم اندمج الفسطاط بالقطائع والعسكر والقاهرة في العصر الأيوبي (1174م حتى 1250)، وأخذت المدينة تتمدد شمالاً باتجاه ما يعرف الآن بالعباسية، وغرباً باتجاه النيل الذي لم تلتصق به القاهرة بشكل كامل إلا في عهد أسرة محمد علي.
أهم قناتين مائيتين كانتا تغذيان هذا التجمع السكاني، بجانب أخرى أقل أهمية، هما: الخليج المصري والخليج الناصري، الأول حفره عمرو بن العاص، وكان يعرف بخليج أمير المؤمنين، وهو قناة مائية تصل النيل بخليج السويس، والثاني شق في العهد المملوكي (1250 حتى 1517م). ومع تمدد القاهرة، غرباً وشمالاً، أمر السلطان الناصر محمد بن قلاوون، بشق شريان مائي جديد يمر بمناطق جديدة داخل المدينة الآخذة بالاتساع.
كان لكل من الخليجين المذكورين سد على النيل، يفتح ويغلق حسب ظروف الفيضان، وفي وقت فيضان النيل في أغسطس وسبتمبر، كانت المياه تنتقل عبر الخليجين وقنوات فرعية أخرى إلى البِرَك، التي كانت بمثابة خزانات مياه داخل المدينة، وأشهرها، بحسب خطط المقريزي وشرح الششتاوي، بركة الجيش، بركة الشعيبية، بركة الفيل وبركة قرموط.
لم تكن تلك البرك دائمة المياه، بل كانت تمتلئ في موسم الفيضان، وتتغذى من مياهها الآبار الموجودة وسط التجمعات السكنية، وبعد أن تجف، كان ينبت بها العشب وبعضها كانت تزرع بالمحاصيل.
مهنة "السقا" ومياه الشرب
المياه الآتية من البرك والمخزنة في الآبار كانت عكرة مليئة بالطمي ولا تصلح للشرب إلا بعد معالجتها، لذلك ظهرت مهنة "السقا" الذي يجلب المياه النقية من النيل إلى قلب القاهرة، ويبيعها في قِرَب من الجلد.
ويذكر الرحالة ابن بطوطة بكتابه "تحفة النظار في غرائب الأمصار"، أنه حين زار القاهرة في عهد الناصر محمد الثالث (حكم بين عامي 1310م حتى 1341) عرف أن بها 12 ألف "سقا" يركبون الجمال، بالإضافة إلى 30 ألفاً يمشون على أقدامهم.
كذلك يؤكد ليوناردو فريسكوبالدي وسيمون سيغولي، الرحالتان الإيطاليان اللذان زارا سوريا ومصر عام 1384م، أن القاهرة كان بها أكثر من 11 ألف جمل يحمل المياه من النيل إلى التجمعات السكنية، وكل جمّال مسجل لدى ديوان السلطان ويؤدي إتاوة أو ضريبة نظير السماح له بالعمل، حسبما تنقل عنهماAmalia Levanoni.
شح المياه وارتفاع ثمنها
ويروي المقريزي في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك"، أن عام 1399م شهد ارتفاع سعر قربة المياه من ربع درهم إلى 4 دراهم، أي تضاعف 16 ضعفاً، فاضطر بعض الناس للذهاب إلى النيل للبحث عن مياه نقية. وكان البعض يعبر الضفة الأخرى للنيل بمحافظة الجيزة الآن، ويذهب لمنطقة "منبابة"، حسبما ذكرها المقريزي، حيث كان النيل هناك تدفقه أكبر، ربما بفعل ضيق المجرى وعمقه، وبالتالي كان يمكن الحصول على مياه أنظف.
ويروي ابن إياس أنه عندما انحسر النيل عام 1476م تغير لون وطعم المياه لدرجة أن الناس كرهوه وفضلوا، على عكس العادة، الماء غير النقي المخزن في الآبار، والذي كثيراً ما اختلط بفضلات الصرف الصحي، بسبب مجاورة آبار المياه، بل التصاقها، بآبار الصرف الصحي التي لم تكن تحفر بأعماق مناسبة.
في مثل هذه الظروف، كانت إدارة الحسبة (الشرطة الدينية) تصدر تعليمات صارمة ببعض المحاذير والنصائح لتنقية المياه، حسبما نقلها القاضي أبو الحسن الماوردي، في كتابه "الرتبة في طلب الحسبة"، وهي:
غَلْي المياه على النار وتصفيتها، ثم وضع بذور الكتان في أواني المياه في فصل الصيف، وفي فصل الشتاء كانت توضع بذور المشمش المجففة، الزعتر البري، الشبة، وترك المياه تبرد لمدة ليلة قبل استخدامها في اليوم التالي.
أما المياه التي تباع في الأكواب للمارة في الشوارع، فخضعت لرقابة الشرطة (الحسبة) لمنع بيع المياه المخزنة في الآبار، والسقا الذي تثبت عليه تهمة بيعها كان يعاقب.
المياه في القصور
كان هناك بذخ في استخدام الأغنياء ورجال السلطة للمياه، والعكس لدى الفقراء، وبينهما درجات تقترب من هذا أو ذاك.
كان بالقصور عادة ساقية خشبية معلقة فوق البئر، لترفع منها المياه إلى قنوات تنقلها إلى حمّامات القصر، وبعض القصور كانت مكونة من مجموعة طوابق، تجاوز ارتفاع بعضها 40 ذراعاً، ومع ذلك كانت تصل المياه إلى سطحها، كقصر الأمير المملوكي سيف الدين بشتاك، وبعضها احتوى على شلالات مائية تطلبت تصميم نظم هندسية لجعلها تعمل طوال العام، كقصر خمارويه بن أحمد بن طولون، وأغلبها كانت تتوسطها نوافير مياه وأحواض تشبه أحواض السباحة في عصرنا.
بعض التفاصيل الخاصة بآلية تدفق المياه لم توضحها المصادر، كما ترصد Amalia Levanoni، ولكن هناك 3 وثائق وقفية تناولت قصر الأمير المملوكي قرقماس الجلاب، أوضحت أن القصر الواحد كان يزود بعدد من آبار المياه التي تغذي عدداً من الحمامات بداخله، وكل حمام – ما عدا حمامات الخدم- ملحق به فرن في غرفة مجاورة لتدفئة وتسخين المياه في آنية معدنية ضخمة، ومنها يتدفق الماء عبر أنابيب نحاسية وقنوات رخامية إلى الحمام الذي كان به مغطس للاستحمام.
أهالي "الربع" في القاهرة كانوا يزورون الحمامات العامة من حين لآخر للاستحمام، لأن مراحيض البيوت لم تكن تصلح لذلك
كذلك كان بالحمام غرفة بخار، تسمى "غرفة الحرارة"، وكل ذلك بمعزل عن غرفة مستقلة للمرحاض. ولن نخوض في البذخ المعماري للحمام، فهدفنا هنا هو المياه فقط.
أما الطبقة "الدنيا" مادياً من الناس فأغلبهم كان يسكن فيما عرف بـ"الرَّبْع" كـ"الربع الكبير" الذي بنته خوند بركة، والدة السلطان الأشرف شعبان.
"كان الفقراء يسكنون الربع، ويحوي بئر ماء في فنائه".
والربع مبنى كبير من مجموعة طوابق، الطابق السفلي منه عبارة عن محال تجارية أو ورش حرفية، والطوابق العلوية كانت لسكن العمال وعائلاتهم، ويلحق بكل ربع بئر ماء في فنائه.
وانقسمت البيوت في الربع إلى "القاعة، الرواق، الطِباق". كانت القاعة تقع في الطابق الأرضي وهي أكثر أناقة ويسكنها ميسورو الحال نسبياً، أما الطباق والرواق فكانا في الطوابق العليا، ويسكنهما الأقل قدرة مادية.
وكان هناك مرحاض ملحق بكل وحدة سكنية، ويحصل الساكن على مياهه من البئر الموجودة في فناء الربع، عن طريق ملء الأواني والصعود بها إلى مرحاضه، وعادة كانت هناك آنية كبيرة لتخزين المياه داخل كل وحدة سكنية، وأخرى أصغر كالإبريق تملأ من الآنية الكبيرة.
وعادة ما كان أبناء هذه الطبقات الاجتماعية يزورون الحمامات العامة من حين لآخر للاستحمام، لأن مراحيض البيوت لم تكن تصلح لذلك.
كذلك ساهمت الأسبلة التي كانت تقام لأهداف خيرية في حصولهم على مياه الشرب مجاناً.
كما لم تكن هناك مطابخ داخل هذه المنازل، وكان السكان يحصلون على أكلهم من المطاعم التي كانت منتشرة، وبالتالي لم يحتاجوا إلى مياه للطبخ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع