شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
هل ستُكتب لنا ذاكرة جماعية قادمة في بيروت؟

هل ستكون لنا ذاكرة جماعية جديدة في بيروت؟

هل ستُكتب لنا ذاكرة جماعية قادمة في بيروت؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 5 يناير 202110:56 ص

تندرج المقالة ضمن مشروع "بيروت بلا نوافذ" وهي مساحة مخصصة لشابات صحافيات يتحدثن عن بيروت بعد الانفجار. يقدم رصيف22 السلسلة ضمن منحة "قريب" من CFI، الممولة من قبل AFD.

كنت أقصد الجميزة – مار مخايل كلّما شعرت أنني أريد أن أرى وجوه الناس، وأن أُشاهد في الوقت عينه كل هؤلاء الغرباء، كان لهذا الشارع طبيعته الخاصة، من حيث الأزياء، الطاولات الممتدة على طول الأرصفة والأدراج التي لا تنتهي. حين لم نكن نريد أن نقصد مطعماً أو إحدى الحانات، كنا نقصد درج مار نقولا، ونجلس حاملين قنينة ألمازا وكيس مكسّرات، وهنا يكمن سحر هذه المنطقة، إذ إنها قدّمت لنا خيارات لا تنتهي من حيث الأشخاص والأمكنة.

قبل الانفجار كانت الأمور واضحة، وكان لكل منطقة طابعها الخاص الذي يفرض نفسه على الناس، والناس بدورهم يفرضون أنفسهم عليه، من خلال علاقة تبادلية بين الفرد والمساحة. جاء انفجار 4 آب ونسف كل ما هو يومي وعادي، وهذا آخر ما كان يحتاجه سكان بيروت، في ظل الانهيار الاقتصادي الحاد الذي يعيشونه وتفشي وباء كورونا.

كيف أعيد ترتيب يومياتي؟ قصّة هبة

بنيت حياتي في هذه المنطقة منذ حوالي الـ 10 سنوات، حين انتقلت من الجبل إلى بيروت. منزلي هنا، عملي، الرجل الذي أحب ويومياتي. كنت في منزلي القائم في الجميزة أتحضر للخروج ولقاء صديقتي حين وقع الانفجار. لا أذكر الكثير ولا أفكر بالأمر يومياً، وأعتقد أن هذه وسيلة عقلي لحمايتي من الوقوع في التروما والاكتئاب، لكني مدركة تماماً لكل التغييرات التي تحدث، لا أعرف كيف أشرح الأمر، يمكن الكلمة الأكثر دقة هي: "تكركبت".

قبل انفجار المرفأ كانت الأمور واضحة، وكان لكل منطقة طابعها الخاص الذي يفرض نفسه على الناس، والناس بدورهم يفرضون أنفسهم عليه، من خلال علاقة تبادلية بين الفرد والمساحة. جاء انفجار 4 آب ونسف كلّ شيء

لم أكن أنتبه في السابق كيف أن تفاصيل حياتي مرتبطة بطريقة جذرية بالأمكنة التي أقصدها وبالشعور الذي آخذه منها، إن كان من خلال الجلوس في مقهى لإنجاز عملي، أو الاستماع إلى موسيقاي المفضلة على الشرفة. الآن حين أخرج أرى الحطام الناتج عن الانفجار. المنطقة والحي والناس لم يعودوا مثل السابق، ولا أرى هذا الأمر بالضرورة على أنه سيء، لكني أتساءل باستمرار متى سيأتي الوقت الذي سأعيد فيه ترتيب يومياتي؟ وأعتقد أن الجواب هو: حين تعيد المدينة ترتيب نفسها وتصبح جاهزة لاستقبالنا.

هذه المنطقة تحديداً شهدت ذروة فرحنا وذروة حزننا، أمضينا ليالينا نرقص فيها ونجونا فيها من الموت بأعجوبة

تعود بيروت اليوم إلى الحياة شيئاً فشيئاً، بين الأبنية والزجاج المحطّم، تفتح المحال أبوابها فتجلس الجموع، قرب حائط مهدّم أو مبنى تشرد سكّانه، ليظهر أمامنا مشهد الحياة مقارنة بالموت. في هذه الزاوية فقد شخص قطعة من جسده، وفي هذه الزاوية أيضاً تجلس الآن امرأة جميلة مع أصدقائها، كأن كل الموت الذي حصل لم يحصل، فيستمر الأحياء بالعيش على الرغم من أن هذه المنطقة فقدت جزءاً من كيانها السابق، وهي عالقة الآن بين ما كانت تشكّله وبين ما ستكونه.

نأتي لإعادة تشكيل ذاكرتنا: قصّة سالي

انظري إلى الحائط المحطّم إلى جانبنا، وانظري إلينا نجلس على هذه الطاولة العالية، كوسيلة منا للمحافظة على طقوسنا الأسبوعية. حين علمت أنهم سيعيدون افتتاح حانتنا المفضلة، قررت أنا وأصدقائي أننا سنعود ونسهر هنا، حتى لو أن الشارع أصبح معتماً وخالياً من البشر.

بالنسبة لي فقدت جزءاً كبيراً من مشاعري العامة، أي أن الرغبة التي كانت تعتريني كي أقصد مكاناً ما لرؤية أحدهم في الجميزة ومار مخايل، تحولت إلى حنين. ففي نهاية المطاف نحن نأخذ الراحة والأمان من خلال الأماكن التي نصبح روّادها، وتجمعنا ألفة ومعرفة بالأشخاص الذين نصادفهم فيها ونتعوّد عليهم. اليوم بفقداني أمكنتي فقدت هذه المشاعر، ولهذا نحن هنا، لنعيد ترتيب مشاعرنا، ولنصنع مشاعر وأفكاراً حاضرة في المكان الذي نحبّه، ولنشكل من كل هذا ذاكرتنا الجماعية القادمة.

في نهاية المطاف نحن نستمدّ الراحة والأمان من الأماكن التي نصبح روّادها، وتجمعنا ألفة ومعرفة بالأشخاص الذين نصادفهم فيها ونتعوّد عليهم. اليوم بفقداننا لهذه الأماكن  فقدنا جزءًا منّا

بعد الانفجار انسلخت أجساد هؤلاء الذين نجوا عن الفضاء العام، فكانوا يمشون في الشوارع غير مكترثين لكل ما يحيط بهم، أو بالأحرى غير مدركين لحجم الفاجعة. اليوم وبعد مرور حوالي الـ 3 أشهر، ينقسم الناس بين من يؤمنون بإعادة إرجاع بيروت مثلما كانت، وبين من يوضبون حقائبهم ويجهزون أنفسهم للرحيل.

الرحيل عن بيروت ليس رحيلاً اقتصادياً فقط بل جسدي أيضاً، فالمدينة كما عرفناها وتعودنا عليها لم تعد موجودة، ولهذا نتصارع يومياً مع أنفسنا كلّما هربنا من منازلنا إلى الأماكن العامة، والعكس صحيح، فماذا يعني من الناحية الجسدية أن نتواجد اليوم في الخارج، وما هو شعورنا تجاه المدينة؟

منطقة الفرح والحزن: قصّة طوني

شعورنا تجاه المدينة لا يرتبط بالانفجار فقط. الانفجار كان لحظة الصدمة التي حددت مساراً زمنياً فاصلاً يتمثّل بـحياتنا ما قبل الانفجار وما بعده. لكن في الواقع هذا الشعور بدأ قبل حوالي العام، حين قصدنا الساحات لتغيير النظام، حين انتمينا كلّنا لبعضنا البعض ولوطننا، فكنا نضع أجسادنا في مقدمة المواجهات، ونقصد الجميزة ومار مخايل لنرتاح ونختبئ من قوى الأمن والقنابل المسيلة للدموع، حاملين أعلامنا وشعاراتنا.

اليوم وبعد مرور حوالي الـ 3 أشهر على الإنفجار، ينقسم الناس بين من يؤمنون بإعادة بيروت مثلما كانت، وبين من يوضبون حقائبهم ويجهزون أنفسهم للرحيل

ما يبهرني هو كيف أن هذه المنطقة تحديداً شهدت ذروة فرحنا وذروة حزننا في ظرف عام واحد فقط، وكيف أننا رقصنا بأجسادنا فيها وعدنا ونجونا منها. لست من المؤمنين باستعادة ما كان، كل هذا الفرح الذي اختبرناه انتهى، وكذلك الحزن. نحن الآن في الوسط بين الماضي الذي نريد عودته والمستقبل الذي لم نصنعه بعد، ومن الصعب التعامل مع هذا الكم الهائل من التغييرات، ولذلك علينا أن ننتظر.

يوماً ما سيتفكك الطوق الأمني، سيعود السكان ومعهم الحياة الطبيعية، وسنعود نحن لنملأ المنطقة من أول الجميزة إلى نهاية مار مخايل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image