شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
كيف نُقنع دبابة بأنها على خطأ؟

كيف نُقنع دبابة بأنها على خطأ؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 2 فبراير 202111:24 ص

ـ هل يعرف السجين مدة محكوميته؟

ـ سيكتشف بنفسه!

(من رواية "في مستوطنة العقاب" – فرانز كافكا)

يُصاب العسكر بالوهم. يظن العسكري أنه الأجدر بكرسي الحكم من أي مواطن مدني ويعتقد أن النجوم المعلّقة على كتفيه هي السماء وأن رأسه الفارغ أسمى من رؤوس جميع البشرية. يعتقد بدون أي مجال للنقاش أنه خُلق ليكون على رأس السلطة، رغم كل خيباته.

أن تأتي على دبابة فولاذية أمر يختلف بكثير عن أن تأتي حاملاً ورقة اقتراع. لطالما خسرت الورقة أمام المقص في لعبة حجرة ورقة مقص.

آخر الأمثلة عن شيوع هذا الوهم ما يحدث حالياً في ميانمار. قرر الجيش الانقلاب. نعرف ما يحدث هنالك أكثر من غيرنا حتى لو لم نكن متابعين للتفاصيل. منطقتنا تتميز، مثل غيرها من دول الجنوب، بشيوع فكرة غريبة تعتقد بحماية الجيوش للديمقراطية.

كيف يمكن لمجموعة ذكور غالباً ما يكونون موتورين وشعارهم "نفّذ ثم اعترض" أن يحموا الديمقراطية؟ كيف يمكن لرصاصة أن تحمي ديمقراطية الجميع فيها سواسية؟ كيف يمكن لخنجر البندقية أن يحمي حناجر الناس؟

إنه وهم العسكر، وما أدراك ما وهم العسكر. هو حين تولد وتموت ويحكمك الجنرال الخالد المعظم الذي يقول في رواية "خريف البطريرك" لغابريال غارسيا ماركيز: "ها أنا أشعر بأنّي قادر على الاستمرار في الحكم… لأنّي أعتقد أنني لن أموت".

تحت جنح الظلام، بدأت كل الانقلابات العسكرية. في الليل حين ينام البشر، يستيقظ العسكر. تمزق جنازير الدبابات الإسفلت المتعَب، تُقطع الاتصالات، تغلق المطارات ويصدر البيان رقم واحد: "أيها الشعب العظيم...". تبدأ الاعتقالات وتمتلئ السجون والزنازين، وأحياناً الملاعب والمدارس، بالمعتقَلين.

لطالما كان الناس يسخرون في سوريا من أشكال المدارس، فهي أقرب إلى السجون منها إلى المدارس: الألوان قاتمة، السور الذي يحيط بها مرتفع، شِباك معدنية تكبّل شبابيك فصولها... باختصار، كانت أقرب إلى ثكنات عسكرية تُخرّج مجموعة كبيرة من ضباط وعسكريي المستقبل.

كيف ننسى ما كان يُسمّى حصة التربية العسكرية؟ كانت تعلّمنا النظام واهترأت ثيابنا بسبب العقوبات العسكرية قبل أن نتعلم نظرية تالس عن المثلث!

"مَن قضى على أحلامك؟"

تقسَّم الكرة الأرضية إلى عالمين أو نمطين من الدول، دول الشمال ونحن، مَن نعيش في الجنوب. لطالما اعتدنا واعتاد الناس من حولنا على حواجز التفتيش العسكرية التي ما تكاد تختفي بضع سنوات حتى تعود بأشرس مما سبق، تستوقفنا أحياناً بالساعات.

قد نخسر عملاً أو امتحاناً أو موعداً مع حبّنا الأول، نقف في قيظ الصيف داخل وسيلة نقل تعج بالعشرات، ننتظر صعود العسكري البطل المخلص المغوار إلى الباص كي ينظر نظرة ساذجة إلى بطاقات التعريف.

"تخيّلوا أنكم تزورون مدينة ما، وعلى مدخل المدينة تشاهدون دواراً كبيراً وضعت على أطرافه أحذية عسكرية مزروعة وروداً. هذا مشهد حقيقي في مدينة اللاذقية السورية. هل تشعرون بعبثية ما نتحدث عنه؟ انتظروا حتى أخبركم عن المجسم العملاق للبسطار"

كم من شخص تمنّى أن يذهب إليه ويربّت على كتفه ويقول: مَن آذاك في طفولتك؟ مَن قضى على أحلامك أيها الفتى وألبسك هذا اللباس؟ لماذا أنت بيننا وماذا تفعل بعيداً عن ثكنتك وخندقك على الحدود؟ ماذا تفعل في أحيائنا وحياتنا؟

في الأعوام الأولى من الثورة السورية، لطالما ردد محبّو الرئيس السوري أنه سيلبس البدلة العسكرية قريباً. لاحقاً، صارت صور القائد تملأ الشوارع وهو يرتدي لباسه العسكري ويوجه إصبعه مهدداً، في تمثيل كوميدي للصورة التي انتشرت خلال الحرب العالمية الثانية في الولايات المتحدة لعجوز يوجّه أصابعه نحو مَن يقرأ وهو يقول: نحن نريدك (We want you)، حاثاً إياه على التطوّع في الجيش.

كان الناس يرددون صباح كل جمعة وهم يشترون الإفطار: "سيرتدي الرئيس البدلة وستنتهي كل هذه الأحداث". كان الوهم قاتلاً لأصحابه، وهمُ النصر المرتبط باللباس العسكري لجيش لم يفز في حرب خلال تاريخه المعاصر وغير المعاصر.

خفت الصوت شهراً بعد شهر، يئس الناس من البزة العسكرية التي بدأت تتحول إلى كابوس على أصحابها وغير أصحابها.

آلاف من الشباب يذهبون بثيابهم الملونة، ليعودوا بتوابيت خشبية يرتدون اللباس العسكري. بدلات عسكرية تستغل الناس على حواجز التفتيش. عنف لفظي وجسدي. تكريس للهجة تزرع الخوف في النفوس. لباس عسكري تصوّره الكاميرات سراً وهو يسرق دراجة من منطقة هجرها أهلها، براد، غسالة، أنابيب… لباس عسكري يخترق طابور المنتظرين على دور الخبز بجبروت حذائه، الحذاء الذي يشبه الساعة التي يستخدمونها في الأفلام للتنويم المغناطيسي.

حذاء على مدخل المدينة

تخيّلوا أنكم تزورون مدينة ما، وعلى مدخل المدينة تشاهدون دواراً كبيراً وضعت على أطرافه أحذية عسكرية مزروعة وروداً. هذا مشهد حقيقي في مدينة اللاذقية السورية. هل تشعرون بعبثية ما نتحدث عنه؟ انتظروا حتى أخبركم عن المجسم العملاق للبسطار (الحذاء العسكري) أيضاً في نفس المدينة.

"أن تأتي على دبابة فولاذية أمر يختلف بكثير عن أن تأتي حاملاً ورقة اقتراع. لطالما خسرت الورقة أمام المقص في لعبة حجرة ورقة مقص"

عندما خرج الناس في مصر منذ عشر سنوات تقريباً، صرخوا "الجيش والشعب إيد وحدة". يا للسذاجة! ثورة على نظام يسيطر عليه الجيش والمتظاهرون يهتفون بحبهم للجيش. سنوات قليلة مضت، وها هم العسكر يعيثون فساداً في مصر.

في سوريا، الحذاء العسكري لم يبرز فقط في دوار السيارات. وضعه البعض على رؤوسهم في مسيرات هتفوا فيها بحياة مَن يرتديه. ماذا سيخبر شخص أبناءه عندما يسألونه بعد سنوات: لماذا يوجد حذاء عسكري على رأسك؟

من العراق إلى سوريا في القرن الماضي، مروراً بمصر وتركيا والسودان وميانمار في العقد الأخير، ثمة مَن يخبر العسكر بأنهم الأجدر بالحكم، ويصدّقونه. مَن يستطيع أن يقنع دبابة أنها على خطأ؟ عشرات السنوات مرّت على دول العسكر، ولم يكن مصيرها إلا الفشل.

في الفيلم الأوروغوياني "ليلة الاثني عشر عاماً" A twelve Year Night، وموضوعه مستمد من قصة سجن ثلاثة مناضلين يساريين في سبعينيات القرن الماضي ضد الحكم العسكري في الأوروغواي، بينهم خوسيه موخيكا الذي سيصير عام 2010 رئيساً للبلاد، نرى العسكري مرتعداً خوفاً من نقوش غريبة خطّها سجين على لوح صابون، ونسمع السجان يقول للسجناء: "نحن لن نقتلكم لكننا سندفعكم إلى الجنون، فمن الآن وصاعداً، لم تعودوا سجناء، بل أسرى نفعل بكم ما نشاء".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard