غرق كثيرون وراء تلك القوة المحركة لمعاني الضحك ودروبه، لذا فنحن لا نعلم على وجه اليقين متى نضحك وعلامَ نضحك؟ فها هو أرسطو يقول: "نحن نضحك على مَن هُم أقل منا، والفرح يأتينا من الشعور بأننا طبقة أعلى منهم"، وسقراط يقول إن "السخرية تنبع من تجاهل الذات"، وهيغل: "ينشأ الضحك نتيجة وجود التناقض بين المفهوم والمعنى الحقيقي الدفين الذي يقدمه هذا المفهوم".
أما هنيدي فلا ينشغل بنظريات الضحك وتحليله، فهو يمارسه على أتفه الأسباب ربما، كما يمارس فعل الإضحاك بمفهوم مصري، خلاصته أن كل شيء يمكن تحويله إلى نكتة، حتى الحزن بإمكانه أن يشارك هنيدي الضحك بصخب شديد. إنه يلاعب كل شيء بالضحك... حتى المقدس يتحول لديه لشيء من الضحك، ولا يتأذى جمهوره منه بل يغفرون له ذلك في إطار نمطه الهزلي.
موضة جديدة
في نهاية تسعينيات القرن العشرين لفت شاب ضئيل الحجم، شقيّ الوجه -بمفهوم المصريين- نظر صناع السينما، وكانت انطلاقته في فيلم لم يكن أحد يتوقع له كل هذا النجاح والضجيج، حتى أنه أحدث تحولاً في صناعة السينما إلى مسار كوميديا الشباب. فكانت قنبلة فيلم "إسماعيلية رايح جاي" بمثابة لفت نظر وجّهه "هنيدي" لجيل كامل يبحث عن الضحك فلا يجده.
كان عادل إمام، مُتسيِّد الضحك على مستوى العرب، يعيش في تسعينيات القرن الماضي فيما يمكن تسميته بمرحلة الــ"وحيد حامد- شريف عرفة"... كان جاداً بما لا يتلاءم مع تهريجه المعتاد، فيما جاء "هنيدي" من خلفية ضحك الأصدقاء في الرحلات وأيام الشقاوة. جاء صعلوكا من حي إمبابة الشعبي، أحد أحياء محافظة الجيزة المصرية. جاء بإفيهات الشارع مصبوغة بما يراه هو من تشخيص بارع ينضح بجدية شديدة التفاهة، وهنا يحدث التناقض، أو المفارقة، أحد مسببات الضحك الكبرى.
كان المُضحك الرسمي للدولة، كما أحب أن أسميه، هو عادل إمام، ابن النظام الحاكم وأبوه، لكن العقوق الذي جاء به "هنيدي" كانفلاتة مُحبّبة من نظامية عادل إمام كان جديراً بتفضيل الشعب له
كان المُضحك الرسمي للدولة، كما أحب أن أسميه، هو عادل إمام، ابن النظام الحاكم وأبوه، لكن العقوق الذي جاء به "هنيدي" كانفلاتة مُحبّبة من نظامية عادل إمام كان جديراً بتفضيل الشعب له. فلم يدّعِ في نفسه أي شيء يحمل جدية وهمًّا. بل جاء من خلفية المقالب وكثافتها، جاء من مبدأ "الضحك للضحك"، فكسب قلوب ناس الألفية الثالثة التي توشك على الولادة، واستثمر هو ذلك بحرفنة بائع جوّال فبنى لنفسه محلاً مُقيماً بمنطقة الضحك بفيلمه الأبرز "صعيدي في الجامعة الأمريكية"، إنتاج 1998، والذي كان قاطرة جيل كامل من الممثلين، غير مقتصر على الكوميديين، كما مثّل نقلة في لغة أفلام الضحك تأثر بها الشارع المصري، لدرجة أن انتقلت أغنيته "شوكولاتة"، التي يغنيها ضمن أحداث الفيلم، لتكون جزءاً من أفراح المصريين، كلماتٍ ورقصات.
لعنة القضايا الكبرى
تلك الحالة "الهنيدية" الغارقة في خفة الطرح، أصابتها شروخٌ لاحقة حينما حاول أن يكون جاداً، وأن تكون أفلامه ذات مضمون وقضية، وليس أدل على ذلك أكبر من طرحه البدائي لإيقاظ الحلم بوحدة عربية، تلك الفكرة المستهلكة في أفواه الناس والأنظمة منذ خمسينيات القرن العشرين، مثلما حاول أن يفعل في فيلم "عندليب الدقي".
لقد ظنّ "هنيدي" فيما يبدو نفسه، بعد بطولة مطلقة لأفلام عدة، أنها صارت نجم شباك مسؤولة مسؤولية الرؤساء والزعماء. يقوله لنفسه: لقد كبرت وصرتُ رمزاً للشباب، وبالتالي عليَّ مناقشة ما هو على مستواي، لكن حجمه وتكوينه الجسدي وملامحه وفكره ومعالجاته خذلته، فالجمهور قد سبقه وخزّن عنه صورة نمطية، كالعادة، صورة الطفل المُشاكس الذي يصارع الكبار بقوة وهمية فيبدو مُضحكاً، لكنه –وهذا مسعى معقول ومقبول لو خدمته الإمكانيات- أراد أن يُضخّم ذاته وأعماله بمسْحة صراع لا يستدعيها أمرُه البسيط، فصراع العرب وإسرائيل ليس محله فيلماً لهنيدي، لأن وجه الضحك هنا لا يصلح لإسقاطه على وجه زعيم سياسي. ومحاولة إلباسه وتنفيذه فكرة كمسلسل "أرض النفاق"، المقتبسة من رواية للكاتب يوسف السباعي قام بتمثيلها منذ عشرات السنين المبدع فؤاد المهندس في فيلم سينمائي بارز، مملوءة بالمخاطرة، فالبطل هنا -بشكل واقعي- ليس بحجم البطولة.
لا يمكن اعتبار هنيدي مطرباُ طبعاُ ولا مونولوغيست كإسماعيل يس، لكنه ابتذل فكرة الغناء ومزجها بدُعاباته العفوية.
تيمة الغناء العفوي
لا يمكن اعتبار هنيدي مطرباُ طبعاُ ولا مونولوغيست كإسماعيل يس، لكنه ابتذل فكرة الغناء ومزجها بدُعاباته العفوية، فلا بأس لديه وهو يغني "يا هولندا يا حبيبتي بقى بينا راندفو"، أن يضيف خارج اللحن المُعد نُطْق جملة من عنده يُترجِم بها كلمة "راندفو" بقوله: "يعني معاد"، فيترك الجمهور اللحن والأغنية كلها ويلتفت فقط إلى دعابته وخروجه المحبب غير المنضبط، أي إنه جعل من الهامش مَتْنًا بطلاً يساويه هو نفسه في معادلة التمثيل. فلا أحد ينظر معه إلى قضايا أو أفكار أو معقولية سيناريو، بل يلتفتون ويشترون بضاعته المفروشة خارج المحل، أما ما تم وضعه في أرفف المحل الداخلية فلا ينشغل بها أحد.
لا يمكن لعلمي النفس والاجتماع تفسير دُعابات هنيدي وفكاهته وتأثيرها الواضح إلا من منطلق قبولها كما هي، وقبول مؤديها كما هو، باعتبار أنه هو الظاهرة وليس ما يقدِّم. فلو أننا استبدلنا بـ"هنيدي" أي ممثل آخر ليقول إفيهاته، لربما فشلت فشلاً ذريعا في إحداث نفس الصريخ لحضوره وأدائه.
هنيدي، الباقي في مخيلة المصريين كشاب صغير مشاكس يتوقعون منه ابتسامة في كل لحظة، يبدأ اليوم عامه السادس والخمسين من العمر
"هنيدي"، الباقي في مخيلة المصريين كشاب صغير مشاكس يتوقعون منه ابتسامة في كل لحظة، يبدأ اليوم عامه السادس والخمسين من العمر، ولا أظن أن كثيراً من جمهوره يدرك أن مُضحِكَه المفضل وصل بشكل أو آخر إلى أعتاب سنَّ الشيخوخة، بل إنهم لا يزالون يحتفظون له بصورة خفيفة كقفزة كنغارو، وعليه فإنهم ينتظرون منه ألا يُحيل ضحكهم إلى رف الذاكرة والعجز مع اقترابه هو من سن المعاش.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...