دائماً ما يعمل المجتمع على رسم هالة كبيرة حول شخصياتهم الفنية المحببة، ودائماً ما يقوم بإعطائهم "كارت أبيض" يسمح لهم من خلاله بقول ما يريدون، ليستقبل جمهورهم كلامهم بكل رحابة صدر، وكأن ما قالوه منزّه عن الخطأ ولا يمكن المجادلة فيه حتى.
ولكن كيف يستخدم بعض فناني الوقت الحالي هذه الثقة التي مُنِحَت لهم من قبل جمهورهم؟
أعتقد جازمة بأنهم أضاعوا هذه الثقة والأمانة، إذ لا يمرّ وقت قليل، حتى يخرج لنا فنان أو فنانة بتصريحات تسعى لتكريس السلطة الأبوية ومفهوم الذكورية، وتضرب جميع المعايير المدنية الحديثة والأخلاقيات المجتمعية الإنسانية، التي سعت لأجلها شخصيات ومنظمات وجمعيات على مرّ التاريخ، في محاولة منهم لصنع فارق داخل المجتمعات التي تعاني من التمييز بين جنسيها.
إذ لا يمرّ وقت قليل، حتى يخرج لنا فنان أو فنانة بتصريحات تسعى لتكريس السلطة الأبوية ومفهوم الذكورية، وتضرب جميع المعايير المدنية الحديثة والأخلاقيات المجتمعية الإنسانية.
سنوات طويلة من النضال للحصول على الحقوق قانونياً، يرافقها الكثير من الصراعات والتحديات المجتمعية التي تقف كالسدّ لاستحصال تلك الحقوق، ضمن فئات مجتمعية ترفض التغيير، فبين ستار الدين والخوف من تجاوز الأعراف والتقاليد، وبين تحميل الأنثى في مجتمعنا جرم كونها "أنثى" ويجب أن تحاكم عليه، يبقى بعض الفنانين العرب، أصحاب القاعدة الجماهيرية الكبيرة ذات التأثير القوي على عقول متابعيهم، رهن تلك العادات والمفاهيم المجتمعية ويسعون بكل ما أوتوا من قوة للدفاع عنها.
فمن تصريحات الفنانة نينا عبدالملك، التي اعتبرت وظيفة المرأة في مجتمعنا هي "التكاثر"، وقبلها تصريح الفنانة نجوى كرم، التي شاركتها في نفس المفهوم وأكّدت على أنها ضد عمل المرأة خارج المنزل، وأن وظيفتها هي الكنس والمسح وتربية الأطفال.
وبين هذه الفنانة وتلك، فنانون آخرون، لبنانيون وعرب، وجهوا أصابع الاتهام ضد المرأة، في محاولة انتصار واضحة للرجل ضد حقوق النساء القانونية والمجتمعية.
ومؤخراً، خرج لنا الفنان رامي عياش، بتصريح يعارض فيه سنّ قانون يُجرّم زواج القاصرات، ضمن برنامج "جعفر توك"، ومن هنا كان يجب الحديث عن دور الفنانين في القضايا الاجتماعية، وعن مدى تأثير هذه التصريحات التي تحمل في طياتها استخفافاً تجاه قضايا حقوقية، وحقوق المرأة بشكل خاص، على الرأي العام، وهل يجب أن تبقى الأسئلة الموجهة للفنان فقط عن فنّه، دون الخوض في أي قضية مجتمعية؟
أزمة ثقافة؟
"أنا أو لا أحد"، هكذا وصف الصحافي الفني، ربيع فران، الحالة العامة لبعض الفنانين، في حديثه لموقع رصيف22، معتبراً أن البعض منهم لديه نوع من الغلوّ والكبرياء، يعتقد بأنه يفهم في كل شيء، ويمتنع عن تغذية ثقافته الإنسانية والمجتمعية والسياسية، وحتى "الفنية"، مضيفاً أنه في العالم العربي، يفتقد الفنانون لإدارة الأعمال الفنية، أو المستشار الذي يسعى لتدريبهم على الكلام وتنمية ثقافتهم وحتى مساعدتهم فنياً، كما هو الحال لدى فناني الغرب، مشيراً إلى أن هذا النوع من الأسئلة الذي يتمحور حول القضايا الاجتماعية قد فضحت ثقافة الفنانين، ولكن ليس هناك مجال للعودة للأسئلة التقليدية التي كانت في زمن السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، التي تتمحور فقط حول حياة الفنان، وماذا يحب أو يكره، بل يجب على الفنان أن يثقف نفسه وأن يعطي رأياً يتماشى مع الأجواء العامة الجديدة.
ومن وجهة نظر أخرى، لا تختلف فيها الناشطة اللبنانية النسوية، علياء عواضة، مع فران، تأسفت فيها للطريقة التي يصرّح بها فنانون، حيث أنه بمقدورهم الوصول إلى كل أنواع الثقافات والمراجع التي تجعلهم أكثر ثقافة، وتتابع: "هؤلاء الفنانون يقومون بزيارة بلدان العالم التي من المفترض أن تجعلهم أكثر انفتاحاً، ولكنهم مازالوا يدافعون بطريقة شرسة عن آرائهم الذكورية. هم مقتنعون بها، وليست مسألة أنهم يريدون أن يتماهوا مع فئة من المجتمع مازالت ملتزمة بفكرة العادات والتقاليد".
بسبب تصريحات فنانين، لا بدّ من الحديث عن دورهم في القضايا الاجتماعية، وعن مدى تأثير تصريحات تحمل بعضها استخفافاً تجاه قضايا حقوقية، وحقوق المرأة بشكل خاص، على الرأي العام، وهل يجب أن تبقى الأسئلة الموجهة للفنان فقط عن فنّه، دون الخوض في أي قضية مجتمعية؟
التأثير على الجمهور
تؤكد عواضة من خلال حديثها لرصيف22، أن هذه التصريحات ستؤثر على الرأي العام بطريقة سلبية، لأن بعض الفنانين الذين يصرحون هذه التصريحات الذكورية، لديهم قدرة وصول رهيبة عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي إلى ملايين الناس الذين يتابعونهم، منهم الفتيات الصغيرات اللواتي في عمر 11 و12 سنة أو أكثر.
وتتابع: "هذه الفئة هي الأكثر تأثراً، فالخطر الأساسي هو تأثير هذه التصريحات على الرأي العام وسلوكياته، حيث يعتبر الناس بأن كل فنان هو شخص (مثقف)، وفي حالة رامي عياش، سوف يعتقد من يسمع رأيه بأن موضوع زواج القاصرات هو أمر سهل وليس به أي مشكلة، دون الاطلاع على الأضرار النفسية والجسدية والحقوقية التي قد تلحق بهذه الطفلة بزواجها".
أما على الصعيد القانوني، فلا تعتقد عواضة بأن لرأي الفنان أي تأثير، فالموضوع هو صراع مباشر بينهن كنسويات وكمنظمات نسوية، وبين الحكومة والمُشرّع اللبناني.
من جهته يرفض فران فكرة أن رأي الفنان قد يؤثر على الرأي العام إن لم يكن عليه إجماع، فاليوم برأيه العالم يتجه نحو الانفتاح، وعربياً قد شوهدت التحولات التي حدثت والتي تتجه نحو المدنية.
ويتابع: "وإن كان لرأي الفنان أي تأثير، فسوف يؤثر عليه سلباً، وذلك في المستقبل القريب جداً، حيث لاحظنا كيف أن هناك عدداً من الفنانين الذين قد تمت مقاطعة حفلاتهم، لأن لديهم رأياً سلبياً تجاه قضية إنسانية معينة".
المسؤولية على عاتق مَنْ؟
في موضوع رامي عياش، يُحمّل فران كامل المسؤولية للصحفي، لأنه من المفترض أن يكون هناك جلسات عديدة بينه وبين الضيف قبل الحلقة، وألا يقوم بإحراجه بطريقة الأسئلة، إن كان رامي غير مؤهل ليعطي رأيه في موضوع غير مُطّلع عليه، وإن كان من المفروض أن يعرف عنه كفنان.
ويتساءل فران عن الهدف وراء سؤال رامي عياش في موضوع عن زواج القاصرات، ويتابع: "ما الذي سيضيفه لموضوع كهذا؟ فالسؤال يجب أن يكون موجهاً لرجال الدين أو الأطباء والأخصائيين، لنعرف أضرار هذا الزواج على الفتاة، وإن كنت لست ضد طرح الفنان لرأيه، ولكن يجب أن يكون هذا الرأي يتماشى مع المسلمات التي أصبحت توضع بعد تعب ومجهود لأشخاص ناضلوا للحصول عليها، في الشارع وفي وسائل الإعلام".
أما عواضة فتعتقد بأن العمل يجب أن يكون مع الصحفيين والصحفيات الذين يستقبلون هؤلاء الضيوف، وأن يجبروهم على التعهد منذ بداية الحلقة بعدم إصدار أي تصريح منحاز جندرياً، يهين النساء، يشجع على التمييز ضدهن أو يشجع على منع وصول النساء والفتيات لحقوقهن.
"وإن كان لرأي الفنان أي تأثير، فسوف يؤثر عليه سلباً، وذلك في المستقبل القريب جداً، حيث لاحظنا كيف أن هناك عدداً من الفنانين الذين قد تمت مقاطعة حفلاتهم، لأن لديهم رأياً سلبياً تجاه قضية إنسانية معينة"
هل يُجدي التبرير؟
بعد الانتقادات التي طالته حول تصريحاته عن اعتراضه لسنّ قانون يجرّم زواج القاصرات، خرج رامي عياش بتبرير لموقفه من خلال بوست على صفحته الخاصة في الإنستغرام، يقول في جزء منها: "أوضح أنني لم أقل ولا أشجع على الزواج دون الـ 18، وأحيي نضال من يعمل وتعمل ليكون السن القانوني، ولكن أنا لست مع التجريم، لأنه في كثير من الحالات والمجتمعات هذا أمر واقع للأسف، واعتباره جرماً سوف يكون أداة يمكن أن يتضرر منها فتيات بطريقة غير مباشرة".
تقول عواضة بأن التبرير الذي قدمه رامي عياش، بعد انتقاد تصريحاته، مازال يحمل في طياته ذات التصريح ولم يغيّر فيه شيئاً، فالموضوع ليس له علاقة بالوعي أو عدمه، وإنما له علاقة أولاً بالموضوع الحقوقي لهذه الطفلة، وثانياً بصحتها الجسدية التي يجب أن تتقدم على أي موضوع آخر.
ويوافق فران عواضة رأيها بهذا الشأن، فقد اعتبر بأن تبريره الذي كتبه على صفحته الخاصة في الإنستغرام لم يضف أو يغير شيئاً.
وعلى الرغم من أن هذه التصريحات والأفعال التي يقوم بها بعض الفنانين في العالم العربي، تجعلنا نشعر بالأسف لطريقة تعاملهم مع قضايا باستطاعتهم، من خلال منابرهم، أن يساهموا في تغييرها للأفضل، إلا أنه رغم هذه الضبابية الموجودة عند البعض، يبقى هناك من دافع عنها وساندها، وذلك على سبيل المثال لا الحصر، الفنان المصري خالد أبو النجا، المخرج التونسي وليد الطايع والفنان المصري هشام سليم في دعمه العلني لابنه العابر جندرياً، نور، وغيرهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...