بثّت شبكة arte مؤخراً العرض الراقص "Nomad" أو "الرُحّل"، لمُصمّم الرقصات والراقص البلجيكي ذي الأصول المغربية، سيدي العربي الشرقاوي، الذي طغت شهرته في أوروبا والعالم. لن نقدم بورتريه عن الشرقاوي، لأن كل المعلومات موجودة عنه بالعربية والإنكليزية عبر أي بحث سريع، لكن ما يثير اهتمامنا أنه في أحد اللقاءات معه، وَصفنا، نحن العالقين وراء شاشاتنا بـ"الكائنات المفاهيمية"، نتحرك بين الأفكار لا في "العالم".
تستفزّ هذه التهمة القارئ، خصوصاً أن "العالم" الآن والفردانية التي يروّج لها، قائمة على أساس "اللاحركة"، والرهان على الاسترخاء ورأسمال الاكتئاب من أجل تكوين الفرد، أسير "أناه" التي لا بدّ أن يبحث عنها، ويداوي جروح دماغه بالزانيكس أو اليوغا المنزلية، أمام كاميرا حاسوبه، كي يراه "الجميع".
"العالم" الآن والفردانية التي يروّج لها، قائمة على أساس "اللاحركة"، والرهان على الاسترخاء ورأسمال الاكتئاب من أجل تكوين الفرد، أسير "أناه" التي لا بدّ أن يبحث عنها، ويداوي جروح دماغه بالزانيكس أو اليوغا المنزلية، أمام كاميرا حاسوبه، كي يراه "الجميع"
لكن، كيف نكتب فعلاً عن عرض راقص من تصميم الشرقاوي، أو أي عرض رقص معاصر؟ رصد الحركات وتأويلها ومحاولة إيجاد مرجعيتها يتركنا كمن ينجز شرح مفردات لنصّ غامض. ذات الأمر إن حاولنا أن نضع عناصر العرض مقابل بعضها البعض (الموسيقا، الحركة والمكان...) لإيجاد المعاني المتزامنة التي ينجزها الراقصون الـ11، ويمكن أن نستطرد في التأويل ونستعيد المرجعيّة القرآنية لهذا الرقم، خصوصاً أن العرض يوظف النصّ القرآني والموسيقا الشرقية ضمن فضائه.
مرة أخرى، هل نكتب حقيقة عن "الرقص" نفسه؟ خصوصاً أننا نشاهد العرض على الشاشة لا في فضاء المسرح، أي لا نسمع النَفَسْ وصوت ضرب الأرض، ولا نرى التفاصيل التي لا يمكن لعدسة الكاميرا التقاطها. يبدو الأمر كأننا أمام صحراء تعبرها قافلة، ولنا حريّة تأويل مسيرها، ومن أين أتت، وإلى أين تتجه، ومن هم أفرادها.
ما سنقوم به هو محاولة ارتجال مُعجم مفاهيم جمالية-سياسية يوظّفها العرض. هذه المفاهيم تحرّك الأفكار وتنتجها، فإن كان "لوغوس" العقل، المدينة "بوليس" و "السيد"، محرّكات الثقافة الغربية، سنفترض محركات أخرى شرقية، ونؤكد على الاختلاف بين "العالمين". هذه المفاهيم التي سنبتدعها، تتغيّر وتتحوّل وتظهر على الخشبة أمامنا بوصفها معالم ما قبل الوعي، أو تلك التي يكون الوعي واحداً من أعراضها، لتتحوّل خشبة المسرح إلى مساحة فلسفية تقرأ التاريخ بأدواتها الخاصة.
الرمل
يظهر الرمل في العرض ضمن الخلفية على شاشة إسقاط، كما نراه كمكوّن مادي على الخشبة، سبق له الظهور في عروض سابقة للشرقاوي. الرمل، أرض لا ثبات عليها ولا ملامح راسخة لها. هو أرض متغيّرة ذات حُبيبات، إن اجتمعت تصحّرت، وإن تفرّقت ريحاً، أعمت من يختبرها.
غواية الرمل تنشأ من عدم قدرتنا على تقفّي آثارنا إن انمحت. هو مخاطرة وخطوة أولى نحو الفناء، أرض متشابهة، لا يترك العابر في الرمل علامة مهما اشتدّ ضربه للأرض
غواية الرمل تنشأ من عدم قدرتنا على تقفّي آثارنا إن انمحت. هو مخاطرة وخطوة أولى نحو الفناء، أرض متشابهة، لا يترك العابر في الرمل علامة مهما اشتدّ ضربه للأرض.
يوحي الرمل بماض أو مستقبل ما، فلا زمن خطياً في أراضيه، هو مساحة الأسرار التي يستحيل إخفاؤها، لأنها إن اختفت، تلاشت، ولا يدركها إلا من يؤمن بالرمل ذاته، ليصبح سرّاً مثل ذاك الذي ضاع. لكن من يدخل في الرمل لا بد أن يخرج حتى سراباً.
أول الصحراء، حبّة رمل في المخيّلة.
تتنوع أشكال الرمل في العرض، يتشقق، يتلبّس الأجساد، يمشي الراقصون عبره على قدمين ويدين، وأحياناً نرى رأساً يدور مدفوناً في الرمل، يلوّح بأربعة أطراف للسماء.
الهائِم
نقرأ في المعجم أن الهائم هو من خرج ولا يدري إلى أين يتجه في المدينة، أما في الصحراء، هو من عَطِشْ. المعنى اللغوي هنا مثير للاهتمام، ففي الأول هناك الحركة، إذ يمكن أن نضيع في المدينة دون أن نفنى، في الثاني هناك العطش، لا حركة ولا ضياع، وكأنهما مسلّمتان، وما يجب الحذر منه: العطش واحتمالات الهواء.
نشاهد تجليات للهائم في العرض، أرض مشققة بلا ماء، 11 راقصاً يتحركون على الخشبة ويستعرضون مهارات الحركة وتغيير تكوينات الجسد، من المنتصب على قدمين، حتى الذي تتداخل أطرافه حدّ التشابك. ذات التنويع مع الموسيقا، من صوت الآذان حتى الموسيقا الإلكترونية. الملفت أن الهائم لا يتوقف، عليه الاستمرار في المشي مهما تغيّر تكوينه، وهنا القرار الوحيد الذي يمكن أن يراهن عليه الهائم: الاستمرار في التقدم إلى الأمام أو ربما الخلف، خصوصاً أنه لا مناص من العطش.
أن تهيم على وجهك هو قرار يمكن اتخاذه في أي لحظة. كل حركة يمكن أن تفقدك الاتجاه، أنت ومن معك، فلا هويّة للهائم إلا في حركته، من هنا يأتي اسم العرض، "الرُحّل"، من لا بيت لهم ولا مدينة، فقط حركة في الصحراء، تحت سطوة الرمل والفناء.
الوحش
تتعدّد الوحوش وعلاقتها مع الهائم في العرض، فالرمل يخفي كائناته وتحولاتها، فهناك التي نألفها وتألفنا، وبعضها يعادينا ونعاديه، لكن الشرط القاسي يفعّل بهيميّة الوحش، أي حريته القصوى التي بسببها يفضّل حياته على حياة راكبه أو صاحبه.
تتحول أشكال الراقصين في العرض، يستوحش بعضهم وتتطاول ذراعاه وقدماه ليغدو دابةً، والبعض الآخر يبقى تحت قدمي الوحش الخشبيتين. الوحش قرينٌ وخليل وعدوّ وخصم، لكنه الأشدّ حرية ووعياً، فلا سراب يخادع الوحش في عطشه.
أسمعت مرةً بجمل مات يلاحق سراباً؟
نألفُ الوحش مرّةً لأجل قصيدة، ونراقصه لأجل حشد من ظلال، ونخافه لأنه، في بهيميته، حرٌّ من رغباتنا.
القافلة
نقرأ في المعجم أن القافلة هي "الرفقة الكثيرة الراجعة من السفر، أو المبتدئة به"، أي شرط القافلة هو الكثرة. لا نعلم بدقة كم العدد، خصوصاً أن التثنية لا تعني الجمع، ولا نعلم إن كانت الوحوش والدواب تُحسب، فهل 10 وحوش وهائم تعني قافلة ؟
نقرأ في المعجم أن القافلة هي "الرفقة الكثيرة الراجعة من السفر، أو المبتدئة به"، أي شرط القافلة هو الكثرة. لا نعلم بدقة كم العدد
تظهر القافلة في العرض أمامنا بعد العطش، فالفرد إن رغب الماء توهّمه حد الفناء، أما القافلة إن أرادته وجدته، إما سراباً، أو مطراً، كلما اشتدّ ضرب الأرض رقصاً أو رحيلاً، ازدادت احتمالات تساقطه.
والسؤال، أي قافلةٍ نمشي معها جواباً للعطش؟
الماء
اختلفت العرب على جمعه، بين أمواه وأمواء.
الفناء
ينتهي العرض بفطر نووي يلد في الصحراء، ويخرج ناجيان منه بدمائهما، أشبه بنبوءة تحرّك الهائم والقافلة والوحش، وكأن الوعد بالفناء هو اليقين الوحيد في الرحلة عبر الرمل، وأيضاً هو الوعد الذي يوفى دوماً.
يُذكر عن أحد الرُحّل في كتاب لم يُؤلف بعد، بيت واحد رديء، بيتٌ منسيّ ترنمه ربما هائم، جاء فيه: يخطو في الرمل لا مُحيّا له... ففي كل حبةٍ وجهٌ وأسماءُ
أثر الفناء لا يرتبط فقط بنجاة الجسد، فالهائم يرتحل الصحراء كـ"زيد"، وإن نجا منها جسداً، انتهى به الأمر كـ"عمر". لا بدّ من فناء ما يُهدد كل من يُؤمن بالرمل، حتى أن البعض يفقد جلده فيتشابه مع الرمل نفسه، وهذا ما نراه نهاية العرض: طين ورمل غطى الراقصين حدّ التشابه المرعب.
يُذكر عن أحد الرُحّل في كتاب لم يُؤلف بعد، بيت واحد رديء، بيتٌ منسيّ ترنمه ربما هائم، جاء فيه: يخطو في الرمل لا مُحيّا له... ففي كل حبةٍ وجهٌ وأسماءُ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون