شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"هي دي مصر"... هي دي دكتاتورية اللغة وتحولاتها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 2 فبراير 202102:02 م

لم يتوّقف علماء اللغة وأساتذة علم النفس بمصر أمام أسباب الانقلاب الدلالي الجذري لجملة "هي دي مصر"، من النقيض إلى النقيض، من الزهو بالثراء الحضاري، إلى الرثاء والأسف على الانحطاط، في اعتراض عمومي صامت تختزله سبعة أحرف. لو علم صناع فيلم "الصعود إلى الهاوية"، قصة صالح مرسي وإخراج كمال الشيخ عام 1978، المصير المشؤوم للجملة لحذفوها من مشهد النهاية، فلا يستغرق سياقها إلا أربع عشرة ثانية، يلوم فيها ضابط المخابرات طريدته، وقد نجح في اصطيادها وإعادتها إلى البلاد. وعبر كاميرا مدير التصوير رمسيس مرزوق، يُريها من نافذة الطائرة ما تعرفه: هذا هو الهرم، وهذا هو النيل، "دي مصر يا عبلة".

السياق يصنع اللغة، ويبثّ فيها الروح، ويمنح الكلمات دلالتها اللائقة المنضبطة بصدق مع الحالة المزاجية. سياق آخر مهزوم يسلب الكلمات نفسها هذه الدلالة، وأحياناً لا يكتفي بذلك، وإنما يتمادى في العناد ويعطيها دلالة مضادة، وقد تحلو له مواصلة استبداده فيمحو الدلالة الأولى تماماً، حتى أن مصرياً لا يتصور الآن أن جملة "هي دي مصر"، في منشئها العفويّ، كانت عنوان فخر وإنجاز.

وها هي الجملة، بعد انتكاسات جسّدتها تراجيديا التبعية منذ نهاية عصر أنور السادات، تُستدعى للدلالة على مظاهر التخلف، فلا يخلو موقف تتجلى فيها وقاحة، أو استبداد بنفوذ يكسر القانون، من تنهيدة "هي دي مصر"، قرفاً من استعصاء الحالة المرضية.

حين تسمى الأشياء بأسمائها، يمكن الرهان على احتفاظ جملة "هي دي مصر" بحمولتها الأصلية، الأصيلة. كان العدوّ الصهيوني عدوّاً، ونسمّيه "العدوّ"، ويعلم أنه "العدوّ". ولأجل العدوّ يتغيّر النشيد الوطني، ويزاحمنا الأعداء، ولا يضطرون إلى ارتداء أقنعة صحفيين وسائحين من دول غير معادية. يدخلون بجوازات سفر كيانٍ التَهَم فلسطينَ، ويرتادون مقهى "ريش" بالقاهرة، في تحقّق لنبوءة نجيب سرور الذي ينسب إليه بيت: "يا خوفي من يوم النصر/ ترجع سينا وتضيع مصر".

ولم يكن نجيب سرور يؤمن بجدوى الإصلاح، فلا يرضيه أقلّ من ثورة. وفي افتتاحية ديوانه "بروتوكولات حكماء ريش" يستعير مقولة يوجين أونيل: "إن الإصلاح الوحيد الجدير بالاستحسان هو الطوفان الثاني!".

حين تسمى الأشياء بأسمائها، يمكن الرهان على احتفاظ جملة "هي دي مصر" بحمولتها الأصلية، الأصيلة. كان العدوّ الصهيوني عدوّاً، ونسمّيه "العدوّ"، ويعلم أنه "العدوّ

في ذلك الزمان، وقعت الطالبة المصرية هبة سليم، التي حملت اسم "عبلة كامل" في فيلم "الصعود إلى الهاوية"، فريسة للموساد. كانت تدرس في باريس، وتم إغراؤها وتجنيدها، وقامت بتجنيد خطيبها الضابط المرموق، ومن موقعه كمدير مكتب قائد سلاح الصاعقة أمدّها بمعلومات سرية عن خطط دفاعية للجيش في حرب الاستنزاف، ومنها حائط الصواريخ الحامي لسماء البلاد.

وفي خطة محكمة تمّ إقناع أبيها الذي يعمل في ليبيا باستقدامها. وبوصولها إلى مطار طرابلس، قبض عليها، وأعيدت إلى مصر، وأعدمت شنقاً رغم تدخل هنري كيسنجر في زيارته الأولى لمصر، لتخفيف الحكم. وفي الفيلم أسمعها ضابط المخابرات الجملةَ التي تحوّلت دلالتها تماماً، في السياق المهزوم.

الأدب شاهد على تحولات دلالة معالم جغرافية، بتوثيق يحصّن الأماكن من مكائد الزمن. في "الجريمة والعقاب" أورد دوستويفسكي نماذج على ألسنة أبطال الرواية. يقول راسكولنيكوف لنفسه: "بعد ثلاثة أسابيع، سأكون في الفرسخ السابع". وفي الهامش إيضاح، لا أدري هل كتبه المترجم السوري الدكتور سامي الدروبي أم المراجع المصري أبو بكر يوسف أنه كان يوجد "مستشفى للمجانين"، على مسافة سبعة فراسخ من مدينة بطرسبرغ، وأطلق عليه اسم "الفرسخ السابع"، كما يطلق اسم "العباسية" في القاهرة على مستشفى الصحة النفسية شرقيّ هذا الحي. ويطلق على المختل عقلياً، في مصر، وصف "عبّاسية" أو "خانكة" لوجود مستشفى آخر للأمراض النفسية بمدينة الخانكة شمالي القاهرة.

في الرواية نفسها يصف دوستويفسكي حديقة في بطرسبرغ فيها أشجار صنوبر، وحانة صغيرة يشرب فيها الشاي، أُطلق عليها اسم "فوكسهول" من باب التفخيم. أولى النتائج، بالبحث في غوغل عن "فوكسهول"، أنها شركة سيارات بريطانية، هي حالياً فرع من شركة جنرال موتورز. ولكن هامش الرواية يؤكد قدرة الإبداع على تثبيت لحظة من عُمر مكان، وحيوية كلمة تسري وتتجاوز الزمن والجغرافيا والأبجديات.

كانت "فوكسهول"، في القرن الثامن عشر، اسماً لضاحية لندنية أصبحت حديقة للملاهي الشعبية، وأنشئت في أوروبا حدائق تشبهها، وحملت اسم "فوكسهول"، وإحداها بالقرب من محطة "بافلوفسك" الروسية. وصارت "فوكسهول"، في نطقها الروسي "فوكزال"، وتعني أي محطة من محطات السكك الحديدية.

في أحد مشاهد "مدام بوفاري" يشير فلوبير إلى كفر ناحوم. دخلت إيما بوفاري صيدلية السيد "هوميه"، وسمعت الصيدلي يصيح في مساعده الشاب "غوستان" متسائلاً: "من قال لك أن تبحث عنه في كفر ناحوم؟". ولم تفهم إيما شيئاً، فأوضح لها هوميه أنه يسمي غرفة صغيرة في المعمل تمتلئ بالأوعية والمواد الكيماوية "كفر ناحوم".

بعد وقوع ثورة 25 يناير في حجْر الإخوان، بشروا بمشروع النهضة، وبسرعة اكتشف الشعب عدم وجود هذا المشروع، فأطلق عليه "مشروع الفنكوش". واضطر الإخوان، الذين يسخرون من الفنون، إلى الاستعانة بالسلاح نفسه في مظاهراتهم

في الهامش إيضاح، أظنّه لمترجم الرواية الدكتور محمد مندور، يعرّف كفر ناحوم بأنها "اسم قرية بفلسطين كان المسيح يتردد عليها كثيراً للتبشير برسالته وإظهار معجزاته". ولم يعد القارئ الفرنسي يحتاج إلى هذا التعريف، بعد فوز فيلم نادين لبكي "كفر ناحوم" بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان عام 2018.

في "الجريمة والعقاب" أيضاً يرى الثري السفيه "سفدريغايلوف"، في أحد أحلامه وهي كثيرة، صبية تتظاهر بالنوم، ويتابعها وهي تطلق ضحكة "صريحة، وقحة، فيها تحدٍ واستفزاز، تتفجر في وجه لم يبق فيه الآن شيء من طفولة. هو الآن وجه العهر والانحلال، وجه وقح زايله الحياء".

كل هذا التراكم الوصفي ليصل إلى تلخيص وجه الصبية، بإيجاز تغني عنه كلمة "كاميليا"، إذ صار للصبية وجه كاميليا. هذا الاكتناز السردي يوضحه الهامش بالتأثير الطاغي لرواية ألكسندر دوما "غادة الكاميليا" (1848)، وقد لقيت في روسيا رواجاً كبيراً كرواية وعرض مسرحي، حتى أصبح اسم كاميليا "يعني البغيّ الراقية". تجسّدت "كاميليا" بطلة لرواية، ولكن "الفنكوش" كان وهماً.

في الفيلم الكوميدي المصري "واحدة بواحدة" (1984) كان "الفنكوش" كذبة، خداعاً، ووعداً باختراع لا شيء، ولا يعرف من اخترع الاسم ملامح هذا المسمى الوهمي. ولكن الوهم الدرامي انتقل من الكوميديا إلى الشارع كحقيقة ولو فارغة المضمون، وبمرور الوقت شقّ "الفنكوش" طريقاً في الوعي الجمعي ليصير عنواناً على أيّ وهم.

بعد وقوع ثورة 25 يناير في حجْر الإخوان، بشروا بمشروع النهضة، وبسرعة اكتشف الشعب عدم وجود هذا المشروع، فأطلق عليه "مشروع الفنكوش". واضطر الإخوان، الذين يسخرون من الفنون، إلى الاستعانة بالسلاح نفسه في مظاهراتهم، وتبنوا هتاف "مشروع النهضة مش فنكوش". بالفنكوش وكاميليا وهي دي مصر يمكن القول: هي دي دكتاتورية اللغة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image