شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"في الثورة الحقيقية لا تأتي أفضل الشخصيات في المقدمة"... و"يناير" ليست استثناءً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الاثنين 25 يناير 202104:27 م

"في الثورة الحقيقية لا تأتي أفضل الشخصيات في المقدمة. في البداية، تحدث ثورة عنيفة في أيدي المتعصبين الضيّقي الأفق والمنافقين الغاشمين. ثم تقع الإخفاقات الفكرية الطنانة في ذلك الوقت. هؤلاء هم الرؤساء والقادة. المخلص والعادل والنبيل والإنساني وعاشق الطبيعة وغير الأناني والذكي من الممكن أن يبدأوا ثورةً. لكنها تفلت منهم، فهم ليسوا زعماء الثورة وإنما ضحاياها".


هذا ما بيّنه ونبّه إليه الروائي البولندي جوزيف كونراد في روايته "تحت عيون غربية" التي نُشرت عام 1911. ويمكن اعتباره نبوءة دقيقة في ما خص العديد من الثورات حول العالم، لا سيما الثورات العربية التي اندلعت بين نهاية عام 2010 ومطلع عام 2011. 


لن نكون مخطئين إذا قُلنا إن كلمات كونراد ترسم إطاراً عاماً ينطبق على ثورة المصريين والمصريات في 25 يناير عام 2011. قامت الثورة لغايات نبيلة وبمشاركات وطنية خالصة، ثم انحرف المسار وسيطر عليها الانتهازيون ليبيت أولئك النُبلاء الذين وقفوا خلفها ودعموها بالوقت والجهد والدماء ضحايا، بين معتقل ومطرود إلى منفى خارجي، وملاحق في الداخل ومحرض ضده من أعدائها والخائفين من اتقاد جذوة شرارتها مرة أخرى.

ثورة 25 يناير لمعت فيها نماذج غير مخلصة

على مدار السنوات العشر الماضية، تعرضت "يناير" للتشويه والاتهام، خاصةً مع كل حادثة حاد فيها أحد من تصدروا المشهد الثوري وأُطلق عليهم اصطلاحاً "رموز ثورة يناير" عن الخط الذي رسمته ونادت بتطبيقه: "عيش... حريّة... عدالة اجتماعية". علماً أن الثورة لم تسمِ يوماً رموزاً لها بل هي في صميم مفهومها ترفض منح الحصانة والقدسية لأي شخصية مسؤولة وقامت لأجل تطبيق المساءلة على الجميع، كما أن مفهوم "الرمز" يعد فضفاضاً ولا يعكس معنى واضحاً.


حين انضوى مؤسس حركة تمرد النائب البرلماني الحالي، محمود بدر، في نظام الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، متحولاً عن خط الثورة الواضح في الانحياز للشعب، اُتهمت "يناير" بأنها قامت لأجل المصالح الشخصية.

"الثورة لن تتأثر بفساد سين أو صاد"... تعرضت ثورة 25 يناير إلى الاتهام والتشويه مراراً كلما لمح في الأفق اتهام لأحد المحسوبين عليها، لكن لماذا النظر للنماذج السلبية وليس لأولئك الذين فقدوا حياتهم أو مستقبلهم: شيماء الصبّاغ مثلاً أو أحمد دومة؟

وعندما اتُهم المحامي الحقوقي خالد علي عام 2018 بـ"التحرش" بسيدة من المشتغلات في المجال الحقوقي والسياسي، في واقعة اشتهرت بـ"فتاة الإيميل"، قال البعض: "هم دول رموز يناير". ولمّا واجه يسري فودة اتهامات مشابهة في نفس العام، تكرر الاتهام: "هم دول ثورجية يناير".


وأخيراً، حين كشف وائل غنيم عن خيانته لزوجته وتفاصيل صادمة عن نمط حياته الخاصة وتغير رؤيته لثورة يناير وما جرى بعدها، وعندما ظهرت شهادات تتهم الناشط السياسي وائل عباس بالتحرش الجنسي والاغتصاب، أٌلقي باللوم على ثورة يناير.


في هذا الصدد العديد من النقاط التي تستوجب الإيضاح. علماً أنني لا أرى "يناير" متهمةً أو تستحق الدفاع عنها.


الثورة فعل بشري 

الثورة في مفهومها المجرد هي فعل بشري، ومن الطبيعي أن تسقط عليها جميع الصفات والاضطرابات التي تصيب البشر، وليس الثورة المصرية فقط. كما أن غالبية السقطات والانهيارات التي أعقبت ثورة يناير أمر متكرر في الثورات.


على سبيل المثال، قال الأديب الألماني فرانز كافكا: "كل ثورة تتبخر وتترك وراءها وحلاً لبيروقراطية جديدة". 


توضح المحامية الحقوقية والمدافعة عن حقوق الإنسان، عزة سليمان، لرصيف22: "مين قال إن كل ثورة لازم تكون شريفة عفيفة؟ أنا اللي يهمني المبادئ اللي بنخرج بيها منها: عدالة، حرية، وكنسويّة كان يهمني جداً مساحة أكبر للمرأة وحريّات وحقوق مستحقة يتم تضمينها في القوانين والدستور".

ثورة 25 يناير لمعت فيها نماذج غير مخلصة

"الثورة يفجرها مجانين بعشق أوطانهم يموت فيها الشرفاء ويستفيد منها الجبناء"، الزعيم السياسي والنقابي التونسي فرحات حشاد.


وتابعت: "أي انتكاسات ليست مشكلتي. أنا أركز على الانتصارات مثل التابوهات التي كُسرت بشكل غير مسبوق… حتى هذه ‘الرموز‘ المتهمة لا علاقة للثورة بهم، لأن الثورة نادت بالمحاسبة حتى لأكثر الطغاة فساداً مثل (وزير الداخلية الأسبق) حبيب العادلي و(الرئيس آنذاك) حسني مبارك".

"تواتر الشهادات عن شخص ما قرينة على أنه متحرش… سواء كان المتهم وائل عباس أو غيره. أما محاولة المتهم بذلك القول إنها مؤامرة عليه، فعليه أن يثبت العكس؛ أن يثبت لماذا تتهمه العديد من سيدات من خلفيات مختلفة بتهم كهذه"

ويرى الصحافي المصري أحمد شوقي العطار أن الثورة "انهزمت كحركة لكنها انتصرت كفكرة"، ويؤكد أنها "صفحة لم تنطوِ بعد"، ويتساءل في حديثه مع رصيف22: "من قال إن الثورة عليها أن تدفع فاتورة من تحدثوا باسمها؟ صحيح أن الثورة فعل بشري فيها النزيه والفاسد، لكن النموذجين لا يصح أن نُسقط أفعالهما أو سقطاتهما على الثورة، لأن الثورة ملك كل الملايين التي شاركت فيها، وأهدافها كانت واضحة: ‘عيش حرية عدالة اجتماعية‘، فإذا أردنا أن نحاسب الثورة فلنحاسبها على شعاراتها وأهدافها وليس على تصرفات قلة منتمية إليها".


"الرموز الحقيقية" للثورة

حتى مع الارتكان إلى هذا المعيار غير السليم للحكم على الثورة - أي من خلال من تصدروا المشهد - يتعجب العطار: "كيف لا يتحدثون (منتقدو الثورة) عن نماذج مثل عماد عفت، ومينا دانيال، ومحمد يسري سلامة، وعلاء عبد الفتاح، وشيماء الصبّاغ وغيرهم. كل هؤلاء من أطهر وأكثر شباب مصر وطنية وبعضهم ضحى بحياته من أجل مستقبل أفضل".


مع ذلك، لا يُنكر العطار الذي شارك في الثورة منذ الانطلاقة الأولى أنه كان ينبغي لمن تصدروا المشهد وتحدثوا باسم الثورة "دون توكيل" الالتزام بالقيم والشعارات والأهداف التي قامت من أجلها. ويستنكر: "لماذا شاركوا فيها من الأصل؟ كيف لشخصٍ نادى بالحرية أن يصبح جزءاً من نظام قمعي لا يحترم الحريات؟ وكيف لمن طالب بالحقوق أن يتحرش ويغتصب؟".

 نماذج غير مخلصةثورة يناير لمعت فيها

وهو يعترف بأن "أول خطأ ارتكبه ثوار يناير" وترتب عليه الكثير من السقطات هو عدم تشكيل كيان سياسي يجمعهم ويمكنهم من التحرك لخوض المعارك السياسية على أرض صلبة، "لاعتبارات كثيرة أهمها سوء تقدير وقلة خبرة من البعض رغم صدق النوايا، واندفاع  مجموعة منهم نحو تحقيق مكاسب شخصية أو حزبية".


"واقع كل ثورة… بعد سقوط الديكتاتور، يذهب الثائر ليخلد للنوم، للراحة، ويستيقظ المتخاذل من نومه بكل نشاطه ليتسلم السلطة"، المفكر الإيراني علي شريعتي.


ويعتقد العطار أن "القوى المعادية للثورة نجحت في إلقاء الضوء على الخلافات بين الثوار وقلة خبرتهم وانسياق بعضهم نحو مكاسب شخصية، وتعمدت تلميع أسوأ من شارك في الثورة إعلامياً لاستغلال سقطاته في ما بعد لضرب الثورة نفسها وتشويهها أمام جموع الشعب المصري، وبالأخص الكتلة السلبية التي لم تؤيد ولم ترفض الثورة وكانت تنتظر النتائج على الأرض".


من جهتها، تلفت د. ليلى سويف، الأكاديمية والناشطة السياسية البارزة، إلى أن هذا الخطاب الاتهامي لثورة يناير في كل مرة يوضع فيها أحد المشاركين البارزين فيها في موضع اتهام، ليس نابعاً فقط من "أعداء أو كارهي الثورة" وإنما أيضاً من "فئة من الشباب المحبطين مما آل إليه الوضع بعد الثورة في محاولتهم لمعرفة لماذا وصلنا إلى ما نحن فيه بالقول مثلاً: ‘دا شعب ميستاهلش‘ و/ أو ‘رفاقنا الثوريين مكنوش يستاهلوا الثورة تنتصر‘".


وهي تشدد في ذات الوقت على أن من أساءوا إلى مبادئ الثورة ممن شاركوا ضمن صفوفها الأولى "يتعدّوا على صوابع الإيد"، مبرزةً أن "أغلب رموز يناير الناس بتحترمهم وده اللي مجنن النظام الحالي".


وتستطرد بالقول: "يناير عند الناس اللي مؤمنة بيناير لم تتأثر بهذه النماذج، لكن الناس اللي كانوا مع الثورة وشايفين الدنيا سودا وأن يناير في أزمة بسبب النماذج اللي شذّت دول قطاع ضيّق صعبان عليهم الهزيمة".


تصديق الناجيات Vs التلفيق وتشويه السمعة 

كان اتهام نشطاء محسوبين على يناير بالتحرش الجنسي والاغتصاب شائكاً على وجه الخصوص لأن المرأة المصرية كانت من أكثر الرابحين في الثورة التي كسرت التابوهات الاجتماعية وشجّعت النساء على الاستقلالية والتحرر. ظنّ البعض أن هناك تعارضاً بين مبدأ "تصديق الناجيات" والتخوّف من وجود "مؤامرة" أحياناً لتلويث سمعة مَن يفضحون فساد الأنظمة كإجراء عقابي انتقامي أو لصرف الحشود عن هؤلاء النشطاء والمؤثرين.

"اعتبار أن شهادات الناجيات ضربٌ في الثورة وتشويهٌ لها، لمجاملة بعض الأشخاص المحسوبين للأسف على الثورة، يعني أننا نحذو حذو الأنظمة التي قامت ضدها الثورات، هم أيضاً يدافعون عن فاسديهم لأنهم جزء من النظام"

غير أن سويف توضح أن "تواتر الشهادات عن شخص ما قرينة - في رأيي - على أنه متحرش… سواء كان المتهم وائل عباس أو غيره. أما محاولة المتهم بذلك القول إنها مؤامرة عليه، فيجب أن يثبت العكس؛ أن يثبت لماذا تتهمه بضع سيدات من خلفيات متعددة بتهم كهذه". 


لكن سويف التي لا تؤمن بمبدأ "تصديق الناجيات" على إطلاقه، لا ترى أن شهادة واحدة يمكن أن ينطبق عليها هذا المبدأ"، مشيرةً إلى أن "اللي بيعمل حاجة بالفجاجة دي بيعملها مع ستات كتير". أما عن وجه اعتراضها على المبدأ، فتقول: "تصديق الناجيات على عيني وراسي لو دعم نفسي مثلاً، لكن ما دام بنتكلم على اتهامات وتحديد جاني فأنا أدعم مبدأ المتهم بريء حتى تثبت إدانته" و"الإخلال بمبدأ قرينة البراءة مش صح في رأيي مهما كانت الجريمة".


سليمان أيضاً لا تقتنع بالقول بوجود مؤامرة، تماماً كما تتفق مع سويف في "تصديق الناجيات لكن بالعقل"، واستفاضت قائلةً: "الدعم غير المشروط مش وارد عندي. لازم يكون عندي رؤية أدعم وأنا مبصرة وعينيا مفتوحة أشوف أدعم ازاي وأد إيه. أما فكرة إني أمشي ورا الضحية عمياني صعب، فأنا نسويّة مبدأي العدالة والإنصاف للجميع".


بدوره، يرى العطار أن الحديث عن تصديق الناجيات من وقائع التحرش والاغتصاب في حال كان مرتكبها أحد رموز الثورة أو أحد المنتميين لها، "أمر يجب عدم طرحه للنقاش أصلاً"، مؤكداً أنه "مع الناجيات قلباً وقالباً، وأشجعهم على نشر شهاداتهم والتقدم ببلاغات فوراً، جنباً إلى جنب مع التبرؤ من هذه الجريمة ومرتكبيها مهما كانت صلتهم بنا (كمنتمين للثورة)".


كذلك يُصر على اعتبار أن شهادات الناجيات "ضرب في الثورة وتشويه لها، لمجاملة بعض الأشخاص المحسوبين للأسف على الثورة، فإننا بذلك نحذو حذو الأنظمة التي قامت ضدها الثورات، هم أيضاً يدافعون عن فاسديهم لأنهم جزء من النظام". ثم استدرك: "الثورة لن تتأثر بفساد سين أو صاد. فالثورة تعني ملايين تجمعوا على أهداف واحدة، ولا يمكن ولا يجوز اختزالها في شخص أو اثنين أو حتى ألف".


خلال الآونة الأخيرة، اعتبر "صمت" و/ أو هجوم آخرين من متصدري المشهد الثوري معيباً، فلام نشطاء حقوق المرأة "الشلليّة" و"التواطؤ مع المتحرشين" و"تجاهل إدانتهم" و"إرهاب الناجيات والضحايا"، محيلين ذلك إلى "الخوف على سمعة الثورة". على الجانب الآخر دفع نشطاء التهم عنهم بالإشارة إلى وجود "مؤامرة لتشويه الثورة والنيل من سمعة معارضين".


اتهم البعض سويف وأسرتها بالانحياز إلى خالد علي خلال اتهامه بالتحرش. لكنها شرحت لرصيف22: "حالة خالد كانت أبسط مما يتوقعه البعض. كل الحكاية أن ما قرأته في الإيميل (رسالة البريد الإلكتروني التي اتهمت الفتاة علي بالتحرش عبرها) وصدّقته لم أر به تحرشاً. كان تصرفاً غير مستحب أو عرضاً لعلاقة لكن دون وجود عنصر ضغط أو فرصة لاستغلال النفوذ. لم أجده تحرشاً. ولم يكن موقفي انحيازاً لخالد ولا تخوفاً على سمعته كرمز ثوري".


في هذا السياق، تقول سليمان: "عندما تكون هناك اتهامات لشخص ويلتزم الصمت آخرون تربطهم به صداقة شخصية، لا ينبغي لومهم. قد يكون هناك حرج من اتخاذ موقف علني. كثيراً ما تكون التفاصيل غير واضحة. لذا نطالب بتحقيقات ومحاكمات عادلة عقوبة على قدر الجرم. ‘مش هندبح الناس‘".


وتضيف: "الناس مش آلهة. الأنبياء خلصت بالنبي محمد. كلنا بني آدمين مصابين بأمراض بيئتنا غير تعقيدات النفس البشرية. فوارد أن الناس تغلط، المهم متكملش في الغلط أو متكرروش".


على الرغم مما سبق، يؤمن العطار أن "كل ما يحدث هو في مصلحة الثورة التي لم تمت بعد ولكنها تعثّرت... الثورة تطهر نفسها، وتصحح مسارها بنفسها إلى أن تحيا مرة أخرى"، في حين تختم سليمان: "صحيح يناير مهزومة وحزينة ومكسورة على المستوى السياسي، لكن لازم دائماً نبحث عن ضوء لأن لو استسلمنا للانكسارات هنموت".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image