"كلّ ما تهلّ البشاير، من يناير كل عام
يدخل النور الزنازن
يطرد الخوف والظلام."
كتب الشاعر أحمد فؤاد نجم هذه القصيدة، عقب أحداث 18/19 يناير 1977، التي نعتها الرئيس السادات بـ "انتفاضة الحرامية"، لكن يناير كان على موعد جديد في عام 2011، كفاتحة لعام جديد ورؤيا جديدة.
قبل عشر سنوات من الآن، عرف العالم بأسره ميدان التحرير في القاهرة، كميدان انطلقت منه الاحتجاجات ضد النظام المصري الطغياني، صحوة بدأتها تونس وانتهت، للمفارقة، بـ 14 يناير أيضاً، بفرار الرئيس بن علي، مع عائلته وثروته.
"كلّ ما تهلّ البشاير، من يناير كل عام يدخل النور الزنازن، يطرد الخوف والظلام"كتب الشاعر أحمد فؤاد نجم هذه القصيدة، عقب أحداث 18/19 يناير 1977، لكن يناير كان على موعد جديد في عام 2011، كفاتحة لعام جديد ورؤيا جديدة
لا يجدي الحديث عن المآلات التي انتهت إليها الثورتان، التونسية والمصرية، ولا ما لحقها من ثورات في المنطقة العربية، في ليبيا وسوريا والبحرين والعراق وأخيراً لبنان والسودان، إذ لا يجدي الحديث عن الخيبات والدخول في تفاصيل التدخلات الأجنبية غير الداعمة للحريات وحقوق الإنسان كما تتشدق، كما ركوب التيارات الإسلامية الراديكالية صهوة الثورة وحرفها، لا باتجاه "مورد الماء"، إنما باتجاه الهاوية التي أعادت إنتاج أنظمة شبيهة بالأنظمة التي تسيّدت لعقود، من قمع أشدّ واستقلالية بالحكم أفظع وأكثر قمعاً.
"ربيع الشعوب العربية" الجديد، في إشارة تاريخية لربيع أوربا في عام 1848، حمل آمالاً بالانفتاح السياسي والاجتماعي بمواجهة أنظمة مفلسة ومسدودة الأفق، أعاد تعريف المنطقة العربية ومنح أملاً، ولو ذا عمر قصير، لشعوب المنطقة بوضع ذواتهم من جديد، على سكة بناء المستقبل، بعدما أغلقت الدكتاتوريات المتوارثة هذا الطريق لعقود.
بالنسبة للشباب الذين كانوا في العقد الثاني في تلك الثورات، والذين خبروا، بشكل طفيف، عقم الأنظمة الاستبدادية في انتزاع الحقوق العربية وصناعة مجتمعات مستقرة تسود فيها الحقوق، كانت الثورة بداية لتعريف ذواتهم.
تقول ليلى، وهي سيدة أميركية من أصول مصرية، إنها تركت عائلتها في كاليفورنيا وبيتها وحديقتها، وجاءت لتكتشف نفسها كمصرية، لتعرّف نفسها كمصرية فقط، تقول: "كانت فرصتي لأن أتخلص من عقدة الدونية التي انتابتني طوال إقامتي في الولايات المتحدة: مصرية سمراء، ومن بلد متخلّف يحكمه مستبد أخرق، ويستعدّ لتوريث ابنه الحكم من بعده"، جاءت لتستعيد احترامها لذاتها وتستعيد هويتها الضائعة تحت عقود الاستبداد والقمع والمنفى القاسي.
روح التمرّد التي أشاعتها الثورات العربية، انبعثت من جديد، أطلّت برأسها المدمى من بين الرماد والدمار والخراب، في المدن المحروقة والعنف المتزايد، ولا شيء يمكنه أن يعيدها إلى الخلف
سعيدة، التونسية تقول: "ثورة ياسمين بدون رائحة الياسمين، لكنها برائحة حرية خفيفة"، عندما سمعت سعيدة ببدء الاحتجاجات في مصر، إسوة بالتوانسة، أحسّت أنها استعادت شيئاً من "أنوثتها" التي أفقدتها إياها سنوات العيش تحت ظلال حكم أبوي استبدادي، تقول: "عدت امرأة مجدداً في تونس الثورة، كنت قبلاً كائناً غامض الهوية، وعندما وصلت أنباء ثورة يناير في مصر، وما تفعله النساء هناك، وكيف يقدن الحراك أحياناً والمظاهرات، أحسست أني امرأة حقاً، صرت أستمتع أكثر بالقبلة والحب والعناقات، الثورة أعادت لي أنوثتي".
لقد غيرت الثورات قصيرة العمر، بنهاياتها المقنعّة في تونس ومصر وبمآلاتها الدموية، في ليبيا وسوريا، شيئاً في الواقع السردي لشعوب هذه المنطقة، لم تعد تسمية "العربي" أو "المسلم" تهمة، يحاول المغتربون، اللاجئون والمنفيون إخفاءها، بمزيج من الخنوع وتقبل الظلم أو العنصرية والاستعلاء، صارت شرفاً "إقليمياً" يعتدّ به.
تقول إينا، السورية التي تعيش في إنجلترا منذ أن هربت مع عائلتها بعد أحداث 1982 في حماة: "كنت أخشى من الاعتراف بأني سورية ومسلمة، كنت أقلّد الإنكليز بلكنتهم الممطوطة وحنكهم الرخو. غيرت اسمي من فاطمة إلى إينا لأخفي هويتي، صرت أشرب الشاي مثلهم وأنا المغرمة بالمتة. لكن بعد بدء الثورة السورية في آذار 2011، وقبلها في تونس ومصر، صرت أقول إني سورية وعربية ومسلمة، وأنتمي لهذه المنطقة التي تغيّر الآن واقعها بعد عقود".
"حتى أن نظرة الغربيين لنا، نحن العرب، تغيّرت"، تتابع إينا، "وكأننا، بثوراتنا هذه، قد اكتسبنا محبتهم واحترامهم، وليس شفقتهم واستعلاءهم، كما كان يحصل سابقاً. أصبحوا أكثر اهتماماً بما يجري في مجتمعاتنا، بثقافتنا ونظرتنا للحياة ومشاريعنا السياسية، ونفضوا عنهم تلك النظرة الاستشراقية السخيفة التي كانوا يتخموننا بها، والكثير منهم شارك في الوقفات الاحتجاجية، الاعتصامات والمسيرات الليلية أمام السفارات، كتبوا مقالات ونشروا وجهات نظر داعمة للثورات العربية وحلمنا بالحرية والكرامة، وبعضهم خسر حياته في سبيل توضيح ما يجري للعالم أجمع".
لم تغيّر الثورات الكثير، لكنها أوضحت أن التغيير ممكن وأن الحرية تتسلل حتى من بين جدران الحديد المصمتة، وأن درجة الصفر يمكن البدء منها إلى حيث لا حدود
"جارتي الإنكليزية الباردة ذات الأصول الإيرلندية، وضعت علماً سورياً على سور حديقتها، وصارت تدعوني لشرب الشاي معها وتناول الفطائر، بل وجربت ارتداء حجاب والدتي المسنّة، أحسست بخيط من الحب يربط بيننا، يصل بين روحينا كامرأتين وكثائرتين، بعد أن كنا بالكاد نتبادل التحيات صدفة".
روح التمرّد التي أشاعتها الثورات العربية، وإن انكفأت مرحلياً، لكنها انبعثت من جديد، أطلّت برأسها المدمى من بين الرماد والدمار والخراب، في المدن المحروقة والعنف المتزايد، ولا شيء يمكنه أن يعيدها إلى الخلف.
لم تغيّر الثورات الكثير، لكنها أوضحت أن التغيير ممكن وأن الحرية تتسلل حتى من بين جدران الحديد المصمتة، وأن درجة الصفر يمكن البدء منها إلى حيث لا حدود.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت