تندرج المقالة ضمن مشروع "بيروت بلا نوافذ" وهي مساحة مخصصة لشابات صحافيات يتحدثن عن بيروت بعد الانفجار. يقدم رصيف22 السلسلة ضمن منحة "قريب" من CFI، الممولة من قبل AFD.
عندما سقطت النوافذ، كاشفةً دواخل منازل بيروت، كبداية عرض لمسرحية عبثية، كلهم كانوا يشاهدون: غرف المعيشة، غرف النوم، المطابخ والمراحيض، جميعها كانت مفتوحة للعالم أجمع، داعية المشاهد المحلي والأجنبي للدخول: ادخلوا منازلنا، أو على الأقلّ، ما تبقى منها. القوا نظرة عبر الثقوب المحفورة حديثاً، أو تلك القديمة التي خلّفتها الحرب الأهلية.
شاهدوا صورنا تتطاير على جوانب الطرقات وملابسنا تغطي الأشجار.
الجدران تداعت وانهارت، والذي كان يوماً ما يُعتبر مساحة شخصية، أصبح فجأة مباحاً وغير محمي.
المباني أصبحت كبيوت الدمى، لكنها بيوت دمى حزينة وقبيحة، لم يستمتع أي طفل بها.
بيت دمى ليلعب به الكبار، ليتنقلوا بداخله بخطوات متثاقلة، لينظروا إليه وليعرضونه أمام الآخرين.
عندما سقطت النوافذ، كاشفةً دواخل منازل بيروت، كبداية عرض لمسرحية عبثية، كلهم كانوا يشاهدون: غرف المعيشة، غرف النوم، المطابخ والمراحيض، جميعها كانت مفتوحة للعالم أجمع، داعية المشاهد المحلي والأجنبي للدخول
وصلت الكاميرات وأجرت المرأة جولةً لهم داخل منزلها. أشارت نحو هذه وتلك، نظرت نحو الكاميرا التي كانت تبادلها النظرات، واستسلمت للفكرة التالية: "إن لم يروا بأعينهم، لن تشملني المساعدات".
أبواب متضررة، نوافذ متضررة، كبرياء متضرر، لكن لا بأس، طالما أن العالم يشاهد، يتحقق، يتعاطف، كأنه تجوّل داخل متحف، لكن من دون "بروشور".
لم أشارك في أيٍّ من الجولات التفقدية التي أُجريت داخل المنازل. الصور التي تم تداولها في أنحاء البلاد كافية لرؤية ما رأوه. المنازل في بيروت لم تستطع مقاومة هذا "الاجتياح". كل شيء كان هناك: الصور العائلية التي كانت سابقاً معلّقة على الجدران، بقايا الطعام، أغطيتهم ووسائدهم...
جلست المرأة على سريرها وفي يدها كتاب، وأعادت تمثيل المشهد أمام الكاميرا. هكذا كانت تعيش سابقاً. الدب "ويني ذا بو" يجلس في خزانة ملابسها وينظر إلى الحائط. "ويني ذا بو" يخجل من الكاميرا قليلاً. ثم كان هناك كلّ تلك الصور، لوجوه مختلفة تقف وسط الغرفة، إمّا مشيرة نحو شيء كان يوماً موجوداً هناك، أو تبدو مذعورة.
دخلتُ بيوتاً لم تطأها قدمي من قبل. رأيت ما لا يرغبون على الأرجح أن أراه. كان هناك مكتبة في إحدى تلك الصور: مكتبةٌ راقية في المكان الخطأ، صورة من داخل منزل أُناس أثرياء.
بعد هذه المشاهدات، يصبح ضرورياً ألا نهتم بالآمال الكاذبة مهما كانت نواياها صادقة.
عندما نشاهد دمار المنازل، سواء كانت منازل الفقراء أو الأثرياء، نستخلص سريعاً أن الجميع تأثر بالطريقة نفسها، والشيء نفسه ينطبق على أبناء هذا الجيل الصغار في السن، المنتمين لعائلات ثرية، الذين ينضمون إلى المحتجين "ليثوروا" ضد النظام.
التصوير يُظهر تضامناً زائفاً ويخدم أيديولوجيا مرّ على موتها وقت طويل.
من جهة، ينتهك التصوير خصوصية الناجين/ات ويمنح أي شخص الإذن بأن يدوس في هذه الخصوصيات بحذائه المتّسخ، ومن جهة أخرى، يسجل حياة أولئك الأفراد الذين أصيبوا، شُردوا، ولم تبال بهم حكومتهم.
أولئك الأشخاص الذين تُركوا دون أبواب ليقفلوها ودون نوافذ تقيهم، كان عليهم حراسة منازلهم بأنفسهم، كان عليهم أن يبقوا مستيقظين كي يراقبوا في حال قرر "زوار" أخذ تذكار من منزلهم. كانوا عراة، مجردين من ممتلكاتهم، وتُركوا هناك ليخوضوا حرباً أخرى كي يستعيدوا هويتهم.
ثم هناك الذين كانوا يعيشون في منازل بأبواب ونوافذ بقيت مفتوحةً أمام الآخرين، لكي يستخدموا غرف نومهم، حمّاماتهم، فرن الغاز والثلاجة. شاركوهم الخصوصية والإنسانية. لكن الذكريات استمر تداولها في العلن، والمراسلون/ات استمروا بالمجيء والتحدث مع نفس الأشخاص. قيِّموا الأضرار وغادروا. الصحفيون/ات صوروا/رن الجنائز والوجوه أثناء حزنها على فقدان أفراد من عائلتها، فحتى هذه الدموع باتت ملكاً للعلن.
في منازل البرجوازيين، لا غرف النوم تظهر ولا المطابخ أو المراحيض. خصوصياتهم تبقى محفوظة أمام أعين الناس، ذكرياتهم محمية وغير مرئية. أما في أوقات اليأس، فقط أبناء الطبقة الوسطى والفقيرة يخضعون لخرق مساحتهم الشخصية
الجميع الآن أخذ ملكية اللحظات الخاصة والعاطفية من هذه المنازل، وكانوا عملياً يسحقون خصوصية كلّ منزل. كلهم بدأوا يصبحون متشابهين، بما في ذلك الناس وكيفية تموضعهم أمام الكاميرا. وهكذا، وبهذه الطريقة، تُنسى الذكريات عندما يتوقف الضحايا عن تقديم أي شيء جديد للعلن. صناعة الذكريات، برعاية السُيّاح والمراسلين/ات الأجانب، سَرقَت الأفراد داخل منازلهم.
لم أشارك في أي من الجولات التفقدية التي أجريت داخل المنازل. هناك شيء غير أخلاقي بالدخول إلى منزل أحد ما وتصوير كل شيء، فليس فقط أن الناس يمثلون طبقات مختلفة من المجتمع، بل كذلك ذكرياتهم.
في منازل البرجوازيين، لا غرف النوم تظهر ولا المطابخ أو المراحيض. خصوصياتهم تبقى محفوظة أمام أعين الناس، ذكرياتهم محمية وغير مرئية. أما في أوقات اليأس، فقط أبناء الطبقة الوسطى والفقيرة يخضعون لخرق مساحتهم الشخصية.
تركع المرأة، ترفع تمثال مريم العذراء وتنفض عنه الغبار.
هذا المقال لكاتبته زينة عمرو باللغة الإنكليزية أصلاً، وتمت ترجمته إلى العربية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...