علامة كي بالمكواة على مؤخرة صغيرها ذي الثلاثة أعوام، عقاباً على تبوله في فراشه، كانت اللحظة الحاسمة في قرار علا البحث عن سكن بعيداً عن أسرتها، بعدما حصلت على الطلاق، قبل عام من ذاك اليوم.
علا، ريم، لينا، بيسان هن أربع سيدات من مصر وتونس والسعودية ولبنان، حكين لرصيف22 عن رحلتهن بحثاً عن سكن مستقل بعد طلاقهنّ.
"الشقة موجودة ونسلّي بعض"
حروب على عدة جبهات، خاضتها علا خلال سنة طلاقها، يرفض طليقها الإنفاق على طفله، ويستنزف محاميها نصف راتبها لمقاضاة زوجها، ويحاول أحد زميليها في المدرسة التي تعمل بها التقرب إليها، بينما حاول الآخر التحرش بها.
"الجميع يضرب فيه طفلها، ويسبه".
وأما منزل أسرتها (الذي التجأت إليه) فكان الجميع فيه يضرب طفلها، ويسبه، حتى هي يطالها التوبيخ إن اعترضت، فهي من "ابتلتهم به"، كما يقولون لها دائماً.
بدأت المعلمة الثلاثينية رحلة بحثها عن شقة في حي تابع لمحافظة الجيزة، ولم تتوقّع حجم الرفض الذي تلقته، كانت تعتقد أن المؤجر لن تعنيه حالتها الاجتماعية (متزوجة أم مطلقة) ما دام يحصل على بدل إيجار شقته، ولكن الجميع نصبوا لها "محاكمة"، بحسب قولها.
"للعائلات فقط"، "مابأجرش لست عايشة لوحدها"، "هتسيبي بيت أهلك عشان إيه"، "اتأجرت"، ومضاعفة للإيجارات كطريقة أخرى للرفض، كان ذلك كل ما تلقته علا، بعد شهر من البحث بمساعدة بعض معارفها، واستخدام الإنترنت.
"الشقة موجودة وإيجار شرك للسيدات فقط"، تحمست علا للرد على إعلان صادفها في إحدى صفحات موقع فيسبوك، فهو يعني لها تقليل بدل الإيجار الذي يجب أن تدفعه، وثمة ساكنات لهن ظروف شبيهة، سيتقبلنها بعد الارتياب الذي واجهته وهي لا تستحقه.
"الإيجار بسيط، والشقة حلوة، وهتعجبك، ومحدش هيضايقك... ونسلي بعض، ونتبسط"، قضت الكلمات الثلاث الأخيرة، التي نطق بها مالك العقار على آمال علا. أوضح بعد سؤالها (مصدومة) عن قصده أن إعلانه واضح؛ يطلب سيدة تسكن معه، و"يبسطها وتبسطه"... لم ترد، وحجبت رسائله.
"الإيجار بسيط، والشقة حلوة، ومحدش حيضايقك... ونسلي بعض، ونتبسط"، صُدمت علا من الكلمات الثلاث الأخيرة، وسألت مالك العقار عن قصده، فأجاب: "الإعلان واضح"
وقّعت علا عقداً بإيجار شقتها، بعد مرور ستة أشهر من البحث اليومي، وخفّض المالك مدة العقد من ثلاث سنوات (كما هو معتاد، وكما كتب على إعلانه) لعام واحد، وحين سألته عن السبب، قال: "أنا مابأجرش غير لأسر بس، إنتي شكلك بنت ناس، لكن برضو بطولك، فنجرب السنة دي ونشوف"، ولم ينس تنبيهها أن استقبال الرجال غير مسموح.
رسمياً، تستطيع النساء في مصر، وبينهن المطلقات، التقدم بطلبات للحصول على وحدات سكنية مدعومة من وزارة الإسكان، ولكن الإجراء الاجتماعي الأكثر شيوعاً هو عودة السيدات للإقامة مع أسرهنّ في حال وقع الطلاق.
قاطع أهل علا ابنتهم وطفلها، بعد أن فشلت محاولاتهم لإجبارها على العودة إلى منزلها، لا رغبة في قربها أو دعمها، ولكن لتعفيهم من "كلام الناس".
في سياق منفصل، تشهد مصر، معدلات طلاق مرتفعة، فقد وقعت 225 ألف حالة طلاق في 2019، بمعدل حالة طلاق كل دقيقتين تقريباً، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
"أخي هدّدني بالقتل"
تطلقت ريم، وهي شابة سعودية، بعد خمسة أعوام من الزواج وإنجاب طفلين، كان طليقها دائم الاعتداء عليها بالضرب منذ البداية، ولكن عائلتها كانت ترفض طلاقها، وتعيدها إلى بيته كل مرة مع وعوده بأنه لن يضربها مجدداً.
في المرة الأخيرة، أُصيبت بارتجاج في المخ بعد أن صدم رأسها في الحائط، هددت بالانتحار إن أعادوها، فقبلت أسرتها طلاقها على مضض، لتبدأ ريم جولة جديدة من تعنيف وإهانة أشقائها، رداً على محاولاتها إبعاد أيديهم عن طفليها.
قررت ريم (33 عاماً)، المقيمة في الأحساء، الانتقال لسكن خاص، رغم صعوبة ذلك بسبب عدم حصولها على فرصة للعمل، ولكنها قررت استخدام بعض مقتنياتها حتى تتحصّل على عمل، وكانت تعلم أن أسرتها لن تقبل بسهولة، لذا قررت البحث سراً، وإن عثرت على مكان مناسب، تحاول إقناعهم.
كان نصيب ريم الرفض من ثلاثة مؤجرين، قال أحدهم: "لا نؤجر لنساء، لا نريد مشكلات"، أما الآخران فقالا إنهما لا يؤجران سوى للعوائل، ولما عرف شقيقها الأكبر بمحاولتها، كان رده هو أنه "سيقتلها إن فعلت مجدداً، وأنه يكفيهم منها عار طلاقها".
"لم أشك في أنه قد يقتلني فعلاً".
توقفت محاولات الشابة السعودية بعد الرفض والتهديد، تقول لرصيف22: "لم يقبل أحد أن يؤجر لي شقة دون رجل، أما أخي فعيناه كانتا مليئتين بالغضب، لم يكن تهديداً، لم أشك في أنه قد يقتلني فعلاً".
تقول وزارة الإسكان السعودية إنها تدعم استحقاق المطلقات للحصول على الدعم السكني الذي تقدمه عبر برنامجها "سكني"، ولكن من شروط ذلك وجود دخل ثابت، ومضي عامين على الطلاق.
كذلك تشهد المملكة معدلات طلاق مرتفعة، فمقابل 138 ألف عقد زواج تم توقيعه في 2019، وقع 51 ألفاً عقود طلاقهم، بنسبة 37%، بحسب تقرير الهيئة العامة للإحصاء بالسعودية.
"مطلقة والعين عليكِ"
بيسان (29 عاماً)، تسكن في مدينة صيدا اللبنانية، وتعمل موظفة، ظنت أن طلاقها سيضع حداً لمعاناتها بعد أن قضت ثلاثة أعوام تصارع لكمات طليقها وإهاناته، ومحاولات أسرتها لاستمرار الزواج.
مجدداً، في بيت أسرتها، بدأ والدها وشقيقها الأصغر يضعان لها قواعد جديدة: مواعيد العودة للمنزل، وما يجب ولا يجب أن ترتديه، ومن تحدثه، وهو ما لم يكونا يفعلانه حينما كانت أصغر سناً، وكان ردهما: "أنت مطلقة، العين عليكِ".
ضاقت بيسان بملاحقة شقيقها الذي كان يراقبها أحياناً، ويوجه لها الإهانات إذا ما اعترضت على طريقته، حتى قام بضربها في إحدى مشاحناتهم، حينها قررت أن تترك البيت، وتسكن وحدها، ولكن والدها وشقيقها رفضا، وحبساها في المنزل أسبوعاً، كانت غاضبة، ومكتئبة فحاولت الانتحار.
على مضض، انتقلت بيسان لمنزل إحدى قريباتها، اعتقد والدها أنها ستقضي بعض الوقت حتى تتحسن حالتها، ثم تعود، ولكنها كانت تفكر في حل يضمن لها سكناً مستقلاً، يبعدها عن إهانات أسرتها غير المبررة.
تخطط بيسان للسكن في العاصمة بيروت، تعتقد أن الحصول على سكن خاص سيكون أكثر سهولة منه في مدينتها، وسيمنحها وجودها بعيداً عن أسرتها فرصة للتعافي من سنوات الزواج، وما بعد الطلاق، الصعبة.
في هذا الإطار، تقدر الشركة الدولية للمعلومات في لبنان نسب الطلاق بـ 20% قياساً بعدد عقود الزواج عام 2018، ويعتقد رئيس الشركة جواد عدرا أنها مرشحة للازدياد بشكل كبير، خاصة مع محدودية حالات الطلاق بالمحاكم الروحية المسيحية، ووجود حالات انفصال غير منفذة بسبب الظروف الاقتصادية والاجتماعية، مما قد يرفع النسبة الفعلية كثيراً.
"جاراتي يتجنّبن معاملتي"
لينا، مترجمة تونسية، تطلقت في عمر 35 عاماً دون أطفال، بالكاد حصلت على سكن مستقل، ظننتُ أنها أوفر حظاً من جاراتها العربيات، وحتى التونسيات، لحصولها على طلاق بالتراضي من زوجها السابق، ولإقامتها بالعاصمة تونس، حيث حصول امرأة مطلقة على سكن خاص أيسر.
يقع الطلاق في تونس في ثلاث حالات هي: التراضي بين الزوجين، أو بناءً على طلب أحد الزوجين لتعرضه للضرر، أو لرغبة الزوج تطليق زوجته منفرداً أو مطالبتها به، وفقاً للفصل 31 من مجلة الأحوال الشخصية.
تقول لينا إن جارها الشاب استقبلها بحميمية مبالغ فيها، ولاحقها برسائل تدعوها لزيارة شقته، و"قضاء الليل معه"، أما الجارات فكن يتجنبن التعامل معها.
تقول لينا إن جارها الشاب استقبلها بحميمية مبالغ فيها، ولاحقها برسائل تدعوها لزيارة شقته، و"قضاء الليل معه"، أما الجارات فكن يتجنبن التعامل معها، ومالك العقار يتجاهل شكواها
شكت لينا لصاحب العقار من سفالة جارها الشاب، فقال الرجل إن "هذه الأمور من أسباب كراهيته لاستئجار للنساء"، ولكن ملاحقة الشاب توقفت بعد أن هددته بأن تشكوه للشرطة.
وتضيف: "صاحب العقار كان رجلاً محترماً من الجميع، توقعت أن يلوم الشاب، ولكني فوجئت أنه يلومني بدلاً منه".
أشارت إحصاءات قدمتها وزارة العدل التونسية عام 2020 إلى تسجيل 46 حالة طلاق يومياً، و13 ألف قضية طلاق سنوياً، بزيادة قدرها 12% مقارنة بالعام 2017.
رفضُ أصحاب العقارات تأجير الوحدات للنساء المطلقات هو أحد أشكال التمييز الشائعة ضدهن، وكذلك زيادة قيمة بدل الإيجار، وتقليل مدة العقد، للتضييق على حقهن في الحصول على مسكن خاص، يضاف إلى ذلك كله إكراه قطاع كبير من الأسر للسيدات على الإقامة بمنزل الأسرة.
ورغم التمييز الواضح الذي تعانيه السيدات، فلا يوجد إجراء قانوني يتضمن إجبار صاحب العقار على إسكان مستأجر دون رضاه، لذا يبقى الأمر في قبضة المجتمع، ودفتر حالات التمييز مفتوحاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...