شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
الملك الكردي غير المُتوّج… قصص صغيرة عن محمد شيخو

الملك الكردي غير المُتوّج… قصص صغيرة عن محمد شيخو

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 21 يناير 202111:53 ص

إلى غادة الفلسطينية، تلك التي تحبُّ الموسيقى الكردية وتطلب مني بشكل دائم روابط لموسيقى وترجمة لكلمات أغنيات كردية تُحبها.

صدفةٌ سعيدة قادتني إلى الاستماع إلى برنامج صوتي (بودكاست) اسمه "دُمْ تَك"، وفي إحدى الحلقات، التي سُميت بـ"صوت كوردستان"، تحكي مقدّمة البرنامج بلهجتها اللبنانية قصة حياة محمد شيخو، ملك الأغنية الكردية غير المُتوّج. قادني البرنامج، في عشرين دقيقة، في رحلة سمعية، إلى أرجاء كوردستان المختلفة التي عاش فيها محمد شيخو، إضافة إلى لبنان التي عاش ودرس فيها لمدة غير قصيرة. استمعتُ إلى صوته وهو يغني أغنيات وقصائد كردية أحفظها عن ظهر قلب، كذلك عرّفني البرنامج على محمد شيخو جديد، لم أكن أعرف أنّه قد غنى بالعربية من قبل. لقد غنى بالعربية بلهجة لبنانية، ربما غناها أثناء إقامته هناك.

أثار البرنامج شجوني، ورقرق الدمع في مقلتي، فما كنتُ أحلم منذ سنوات قليلة بأن أسمع برنامجاً عربياً يحكي عنّا، عن الأكراد وموسيقاهم. برنامج عربي يقدّمه ويعدّه عربٌ يذيع أغاني كردية، يا لها من معجزة!

لا أدري سبباً للانفتاح. صرنا نرى متسابقين أكراداً في برامج مواهب عربية، وصرنا نرى عرباً يغنون بالكردية، وصرتُ أنشر نصاً في موقع عربي عنوانه باللغة الكردية، أهي الشعوب تقبل بعضها بعضاً؟ أهي الحكومات والطغيان فرقانا، ونحن كشعوب منفتحين بعضنا على بعض؟ لماذا إذن يمتلئ العالم بتعليقات عنصرية وكراهية ما زلت أسمعها حتى اليوم؟


أذكر المرة الأولى التي سمعتُ بها أغنية كردية على إذاعة سورية. كان هذا بعد بدء الثورة السورية بثلاث سنوات. حينذاك بثت إذاعة "سوريالي" أغنية "آمان دٍلُو" لمحمد شيخو. أحسستُ بأنّ الثورة قد حققتُ إحدى أمنياتي، وهي سماع أغنية كردية على إذاعة سورية وأنا المُحب للاستماع إلى الراديو. لم يحدث هذا قط. كانت بداية الثورة نقطة تحوّل في هذا السياق. آه كم كنّا محرومين!

أثار البرنامج الإذاعي شجوني، ورقرق الدمع في مقلتي، فما كنتُ أحلم منذ سنوات قليلة بأن أسمع برنامجاً عربياً يحكي عنّا، عن الأكراد وموسيقاهم. برنامج عربي يقدّمه ويعدّه عربٌ يذيع أغاني كردية، يا لها من معجزة

حين كنّا صغاراً، كانت عائلتي تعيش في مدينة القامشلي شمال البلاد، كان التحدّث باللغة الكردية ممنوعاً خارج البيت. في مدينة معظم سكانها يتحدثون بالكردية لم يكن مسموحاً لنا التحدث بلغتنا. تعلمناها سرّاً في البيوت. تعلمناها شفوياً من آبائنا وأمهاتنا وجدّاتنا وأجدادنا الذين حافظوا على اللغة من الضياع، وتعلمناها من بعض الكتب التي كنّا نتناقلها سرّاً ونخبئها خلف الكتب العربية، فحيازة كتاب كردي كانت جريمة يُعاقب عليها المرء في دولة البعث الأسدية، فيُتهم باقتطاع جزء من أراضي الدولة العربية أو بوهن نفسية الأمن أو إثارة النعرات الطائفية، وتلك كانت التُهم الجاهزة التي يواجه بها الأكراد، لمجرّد أنّهم أكراد.

كان في بيتنا في الشام، مثل كلّ بيوت الأكراد، صورة لمحمد شيخو معلّقة على الحائط.

كان في بيتنا في الحي الغربي، في مدينة القامشلي، كتاب مُخبَّأ، فيه القصائد التي غناها محمد شيخو، وعلى الغلاف صورة له. كنّا أطفالاً يتعلمون العربية في المدرسة ويُمنعون من تعلّم الكردية، وكان الفقر يلبسنا كثوب، فكنّا نتعلم اللغة بجهود أهالينا البسيطة -وهم كانوا قد تعلموا الكردية شفهياً كذلك بفضل دكتاتوريات مُتلاحقة فتكت بالأكراد، فلا يعرفون قواعد اللغة ولا أُسسها- كنّا نتهجى حروف القصائد وكلمات الأغاني، فنفشل في مطابقتها مع اللحن الذي في رأسنا. نتعذب حتى ننهي قراءة الجملة الأولى، فنترك الكتّاب ونغني الأغنية التي نحفظها كما نحفظ أسماءنا.

في إحدى سنوات التسعينيات ذهبنا، عائلتنا وعائلات أصدقاء والدي، في رحلة إلى منطقة عين ديوار، أبعد نقطة في شمال شرقي سوريا، عند المثلث الحدودي العراقي التركي السوري. افترشنا الأرض على ضفة نهر دجلة، لنرى طرف كوردستان الآخر ممتداً على الضفة الأخرى. كنّا صغاراً نلعب كرة القدم ونقلّد الكبار في مشيتنا وطريقة كلامنا.

كان من أصدقاء أبي الفنان الكردي كنعان شيخو، وهو أخو محمد شيخو، كان معه الطنبور، فيعزف أغنيات كردية، يغنيها معه الباقون أو يرقصون في حلقات.

مثل حلم بعيد يبدو لي المشهد، وهو يغني أغنية أخيه الشهيرة "أيتها البيضاء"، التي تبدأ بما ترجمته: (ذات مرة لمحتُ امرأة بيضاء/ عيناها سوداوان لامعتان/ دخلت إلى قلبي/ وقد أحببتها كثيراً). 

Carkî min ji xwer dî gewrek

Çavê wê reş û belek

Xwe bera nav dilê min

Min jê hez kirî gelek


كنّا صغاراً ملاعين. كنّا نغير كلمات في الأغنية فيتغير المعنى. فمثلاً كنّا نبدّل المرأة البيضاء بالحمار، ونغني: (ذات مرة قابلتُ حماراً/ عيناه واسعتان سوداوان/ رفسني علي جسدي/ فتوجعت منه كثيراً). كنّا نضحك ملء أشداقنا، وكأنّنا نملك الأرض والسماء.

كان في بيتنا في الشام، مثل كلّ بيوت الأكراد، صورة لمحمد شيخو معلّقة على الحائط. ومثل كلّ بيوت الأكراد كان في بيتنا آلة البغلمة الموسيقية. تقول الأسطورة إنّ في كلّ بيت كردي آلة موسيقية، قد تكون البغلمة أو الطنبور أو ما يشبههما، وإنّ في كلّ بيت شخصاً واحداً على الأقل يعزف على هذه الآلة. وفي عائلتنا يعزف اثنان من أعمامي وأخي على البغلمة والطنبور.

 يُعيد فنانون قد فاقوه شهرة بكثير أغنياته وكأنّ الكردي لا يكتمل إلا بصوت محمد شيخو وأغنياته، أغنيات الحب وأغنيات الحياة وأغنيات مقارعة الطغيان والظلم

لا تمرُّ جولة عزف دون أن تمر أغنية لمحمد شيخو، إن لم نقل أغنيات كثيرة. يحفظ ويتداول ويغني الأكراد أغنيات محمد شيخو إلى اليوم. يُعيد فنانون قد فاقوه شهرة بكثير أغنياته وكأنّ الكردي لا يكتمل إلا بصوت محمد شيخو وأغنياته، أغنيات الحب وأغنيات الحياة وأغنيات مقارعة الطغيان والظلم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard