لعلّ مفهوم الانتماء هو من أهم ما يعانيه الشباب السوري في ظل الحرب الطاحنة التي يعانيه البلد منذ ما يقارب الثمانية أعوام، والشباب الكردي ليس استثناءً في هذه الحالة، بل ربما هو يعاني أكثر من غيره، فإذا كان جدلية الانتماء للوطن السوري الذي يعاني من شقاق ما بعد العام 2011 والتغرّب ما قبله، فالكردي يعيش أزمة هوية وطنية في بلد لا يعترف بتعدد الهويات قيد أنملة. والعمل بمبدأ تدجين المواطنين على قاعدة القومية الواحدة والحزب الواحد والهوية الوطنية المحددة بفئة معينة، والتعامل مع المكونات الأخرى بصفة ضيوف، أو لاجئين.
يُقدر عدد الكُرد في سوريا بنحو ثلاثة ملايين، وهو ما يشكل نسبة (10-15)% من سكان سوريا، وما يقارب الثلث منهم كانوا محرومين من الهوية السورية، وذلك بسبب إحصاء استثنائي جائر عام 1962 في عهد الرئيس السابق ناظم قدسي، وحرم بموجبه آنذاك آلاف الكُرد من حق الحصول على جنسية بلدهم، بحجج كثيرة، منها مجيئهم من تركيا إبان الثورات الكردية ضد الحكومة التركية أوائل القرن الماضي. الآلاف حينها أصبحوا ملايين حالياً، وكبرت مآسيهم جيلاً بعد جيل، وأصبحت مشكلتهم قضية تهدد واقع ومستقبل منطقة الجزيرة، حيث يقطنون، والوطن كله.
كانت الحكومات السورية المتعاقبة تسوّف حل قضيتهم ما أمكن لها ذلك، وتَعِدُهم بحل مأساتهم بأقرب فرصة ممكنة، لكن تلك "الأقرب" امتدت لعقود. خلال انطلاق الأحداث السورية عام 2011 وبعد سنوات طوال من الانتظار، أصدرت الحكومة السورية مرسوماً يقضي بحق حصول ما أسمته "أجانب الحسكة" (أي المسجلين في الدوائر الرسمية السورية بصفة أجنبي) على الجنسية السورية، واستثنت منهم فئة تُسمى مكتومي القيد (صفة تطلق على مَن لا وجود له في السجلات الرسمية)، فهؤلاء يعيشون دون أي حقوق في بلدٍ لا يعرفون غيره.
الانتماء لبلد لا يتمتع فيه الشخص بأدنى حقوقه الإنسانية هو ضرب من خيال، فليس من الوجاهة بشيء أن يعتز شخص بانتمائه إلى وطن لم يميزه بتميز وطني، وعليه فإنه سيبحث عن وطن يعترف به، دون أي عناء في إقناع نفسه بحتمية الانتماء إلى بلده الذي سيعطيه الجنسية وحقوقه المدنية تالياً. كانت الهجرة سبيلاً أقرب إلى المستحيل لهؤلاء، فإجراءات المنع من السفر والتكاليف المادية الباهظة وعدم حصولهم على أي شهادة رسمية، كانت أسبابًا، من ضمن أخرى، جعلتهم يبقون في السجن المسمى وطناً.
لقي العشرات من الكُرد، كغيرهم من السوريين، حتفهم في رحلة الموت تلك، ووصل الباقي بشق الأنفس في طريق الغابات الأوروبية أو سلوك طريق البحر المربوط بهيجان الأمواج وعواصفها، وكذلك جشع تجار البشر من المهربين.
فإذا كان جدلية الانتماء للوطن السوري الذي يعاني من شقاق ما بعد العام 2011 والتغرّب ما قبله، فالكردي يعيش أزمة هوية وطنية في بلد لا يعترف بتعدد الهويات قيد أنملة.
الحرب السورية هدمت البلاد والسكان، ويبقى الأمل أن يكون ذلك مخاض ولادة جديدة لوطن كان مواطنوه يعيشون في أدنى درجات الحرمان.
خلال سنوات الحرب السورية منذ عام 2011 أصبحت الهجرة أيسر من ذي قبل، وكان "الأجانب" و"مكتومو القيد" هم أول من شدوا رحالهم من بلادهم التي رفضت الاعتراف بهم، وحاولوا بدء حياة أخرى في بلد لا يجمعهم بها أية ثقافة مجتمعية، وكان الاضطهاد الذي تعرضوا له في "بلدهم" عاملاً مساعداً في حصولهم على حق الإقامة في بلد اللجوء، وباتوا -لأول مرة- بشراً ذوي انتماء رسمي، ولو أنه منقوص هذه المرة أيضاً، لكن بقي العامل المادي مانعاً للكثير منهم لتحقيق حلمهم في الهروب من واقعهم، ولبثوا في انتظار حلمهم في العيش، ولو ضمن أدنى شروط الحياة. كانت رحلة هجرة الكردي "المكتوم" هي أشبه بنحت الصخر في سبيل شق طريق نحو حياة فقدها في بلد لفظه إلى المجهول.
لقي العشرات منهم، كغيرهم من السوريين، حتفهم في رحلة الموت تلك، ووصل الباقي بشق الأنفس في طريق الغابات الأوروبية أو سلوك طريق البحر المربوط بهيجان الأمواج وعواصفها، وكذلك جشع تجار البشر من المهربين.
ولعلّ بقاء العديد من الأهل في البلد الأصلي كان عاملاً منغصاً لحياة المكتومين هؤلاء، وبقيت حالتهم تلك بلا نهاية سعيدة لهم، فالخطر المحدق بمن هم في الداخل السوري الذي يعيش أسوأ فتراته منذ نشوئه بدايات القرن الماضي، وصعوبة الخروج من البلد الذي لم يعد أحد يستطيع التنبؤ بمستقبله القريب، فضلاً عن البعيد.
لم تكن الهجرة خلاصاً أبدياً من مأساته، فمحاولة الاندماج مع مجتمع بعيد عنه كل البعد هي مهمة عسيرة للغاية، يضطر فيه أحياناً للتفاضل بين واقع غريب عن ثقافته التي عاشها منذ نشوئه، وبين ماض لا يمنعه من التأقلم مع حاضره، كما لم يشفع له قبل الهجرة.
لا يبدو أن لمشكلة "المكتوم" حلاً يلوح في الأفق، فالحكومة السورية تعتبر أن ليس ثمة مشكلة في بقائهم دون هوية، والحال كذلك، فلا ضغوط سياسية كُردية باتجاه المطالبة بالانتهاء من مأساتهم التي حرمت البلد من آلاف المبدعين. ربما ودّ الكثير من الناس أن يكونوا مجردين من هوية لم تُعطهِم إلا النزر اليسير من حقوقهم الأساسية، في بلاد تعتبر توفير الأمن للبلاد منّة على مواطنيها.
ألم الحرمان من أبسط حقوق الحياة يفوق الظلم الذي يعانيه مواطنو بلدان الشرق الأوسط، وعليه فإن مهمة تعويم حالتهم تلك هي أشبه بالمستحيل. يعيش الشعب السوري منذ ما يقارب ثماني سنوات حياةً بطعم الموت، فالحرب السورية هدمت البلاد والسكان، ويبقى الأمل أن يكون ذلك مخاض ولادة جديدة لوطن كان مواطنوه يعيشون في أدنى درجات الحرمان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...