شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
سلطانة الكردية وحكايتها، حكاية البلاد المخفية

سلطانة الكردية وحكايتها، حكاية البلاد المخفية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 24 أبريل 201705:23 م

عرفتها مذ كنت رضيعاً، كنتُ أراها على الدوام حتى اليوم الذي غادرتُ فيه سوريا سنة 2011. بعد ذلك التاريخ، التقيتُها مرة واحدة فقط. ترتدي سلطانة ثيابها الكردية دائماً، لا أذكر أنني رأيتها بغير هذا الزي؛ ثوبٌ طويل مزركش يغطي كامل الجسد وحجابٌ أبيض. تمشي منتصبة مشدودة الكتفين وكأنها لا تهتم بعثرات الزمن. ذاكرتي مرتبطة معها بمدينة دمشق، هي جزء لا يتجزأ من تاريخ هذه المدينة، وإن كانت تنتمي إلى الجزء المخفي غير المكتوب في الكتب وغير المعروف لعامة الناس، لكن سلطانة وأمثالها هم أصل الحكاية ومنبعها. تشبه نساء الروايات، تشبه أم حسن في رواية باب الشمس لإلياس خوري. هي أم الناس جميعاً. تمشي نحو بيتها، الذي أشرفت على بنائه في منطقة العشوائيات في حارة الأكراد في حي ركن الدين، برأس مرفوع، حاملة أكياس الخضر واللحوم، واضعة الخبز على رأسها، شامخة لا شيء يستطيع جرح كبريائها. تشبه نساء الأفلام، العجائز الذين نقع في حبهم قبل أن نغادر صالة السينما من دون أن ندري كيف. نأخذ وجوههن معنا إلى البيت كأننا نعرفهن منذ الأزل. لأنها زوجة السياسي الكردي المعروف كانت تتحمل ضربات عناصر المخابرات وجنود الجيش بدلاً عن زوجها الهارب. سلطانة القادمة من شمال البلاد، والتي عاشت انقلابات سوريا في الخمسينات والستينات وحكم الديكتاتور ومن ثم ابنه الذي هَجّر أبناءها وحرمها من دمشقها، ما زالت تضحك حين أحدثها على الهاتف مرة كل شهرين أو ثلاثة.

سلطانة امرأة كردية قوية لا تسكتُ عن حق مهما كلفها الأمر رغم لغتها العربية المُكَسّرة. مرة قال لها فتى في متجر اللحوم في منطقة الشيخ محي الدين: "لماذا لا تعودين إلى بلادك؟ هناك تستطيعين أن تتحدثي كما تريدين دون تكسير في اللغة". فقالت له بلغتها العربية الصعبة: "هذه بلادي، أنا من حفيدات صلاح الدين. من أنت ومن أين أتيت؟". حدّثت كل الناس بهذه القصة. كانت تعيد تلك الجملة التي قالتها للفتى وتضحك على نفسها وعلى لغتها العربية. سلطانة تعيش في الشام منذ سبعينيات القرن الماضي لكنها كانت دائماً تقول المثل الكردي: "الشام حلوة كالسكر لكن الوطن أحلى". وحين أسألها: "أين وطنك؟" تقول: "هنا... هذا البيت هو وطني". "لكن هذا البيت في الشام" أقول بخبث، فتقول: "والشام بلادي". لم أعرف أحداً أحبّ دمشق الشام بصدق مثلها. لم تكن تعرف الكثير عن تاريخ الشام المكتوب في الكتب أو ذلك التاريخ الذي نتعلمه في المدارس لكنها كانت تعرف مقامات المدينة جيداً وتعرف شوارعها وأسواقها وحاراتها ودكاكينها. كانت تشعرك أحياناً أن شوارع دمشق هي امتداد لجسدها.

قصة سلطانة التي تنتمي إلى الجزء المخفي من تاريخ البلاد، بينما هي وأمثالها أصل الحكاية ومنبعها...
سلطانة كانت تشعرك أحياناً أنّ شوارع دمشق هي امتداد لجسدها
كانت في الصيف تلتقي صديقاتها النساء في الحديقة العامة وفي أيام الشتاء كانت تلتقيهم في بيتها. كانت محور هذه الجلسات وجامعة النساء والرابط بينهن. كانت صديقة الكل تضحك معهم وتبكي معهم. أقول لها مداعباً: "سلطانة، كيف حالك؟" تضحك ثم تقول بحب لمن حولها: "قليل الشرف لا يقول يادة". ويادة تعني أمي بالكردية. كانت تحب أن تكون أمّنا. كانت تحب أن تكون جامعة الكل. كانت تعدد دائماً أسماء من عاش في بيتها ومن أتم دراسته الجامعية في بيتها ومن أدى خدمته العسكرية في بيتها. كانت تحبهم جميعاً كما لو كانوا قد خرجوا من رحمها. وكانت تغضب منهم جميعاً كما لو أنهم أولادها وبناتها الذين تعبت في تربيتهم. كانت تفرح لفرحهم وتبكي عند مصائبهم. تحتفظ سلطانة في ذاكرتها بذكريات كل من مرّ على بيتها وإن نسيها بعضهم. اليوم وأنا أجلس في هذه البلاد الباردة البعيدة أفكر في سلطانة وفي ذاكرتها المليئة بأقارب وأبناء وأصدقاء تفرقوا من حولها، مِنهم من هُجّر ومنهم من قُتل، بعضهم يعيش في المنافي وفي مخيمات اللجوء والبعض يقاتل مع المتقاتلين في البلاد والبعض ما زال يكافح من أجل رغيف الخبز وكأس الماء في هذه البلاد الخراب. أفكر اليوم في سلطانة الوحيدة التي عاشت أكثر من سبعين عاماً في ضجيج حياتها وضجيج حيوات الآخرين من حولها. سلطانة التي فقدت الجزء الأكبر من حياتها برحيل من أحبت. سلطانة العاشقة دون عشيق. سلطانة التي تحب العالم كله وحيدةٌ اليوم، وأنا أخاف الاتصال بها، إذ ليس لدي ما أقوله لها. أفكر بالكتابة عنها لتكون الكلمات هي طريقة تواصلي مع سلطانة التي أحب، فأكتب.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image