شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"بعض أصدقائي تركوني"... حكاية فتاة مصرية احترفت مهنة الجزارة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 5 يناير 202102:03 م

تخطف ناظريك من بعيد وهي واقفة في قلب محل الجزارة ممسكة السكين بقوة، فتعجبك سرعتها المتزنة في تقطيع اللحم، وأداؤها الرشيق في البيع، وتشعر وكأنها ولدت في هذا المكان، ثم تأخذك ابتسامتها في وجه الزبائن لعالم آخر من البهجة، وتسأل نفسك "كيف استطاعت هذه الشابة أن تقف بجدارة هنا؟".

إسلام حسن ذات الأعوام السبعة والعشرين من المصريات القلائل اللواتي دخلن عالم الجزارة الذكوري.

"الجزارة بالنسبة لي مغامرة صعبة أحببتها"، بهذه الكلمات بدأت إسلام حسن ذات الأعوام السبعة والعشرين حديثها لرصيف22 حول رحلتها داخل "مهنة المعلمين"، وكيف كانت بدايتها قبل سبع سنوات مع عالم الجزارة في مدينة الإسماعيلية بمصر.


نقطة البداية

تقول إسلام إن إحدى صديقاتها اقترحت عليها العمل في محل جزارة على آلة بيع تذاكر شراء اللحمة للزبائن، وهي رحبت بالفكرة كونها حريصة على الاستقلال المادي وتسعى إلى الاعتماد على بناء ذاتها بنفسها، خاصة أنها في هذه الفترة كانت تنفق على دراستها بكلية السياحة والفنادق.

بعد فترة قررت إسلام أن تنتصر على الخوف وتغامر بدخول هذه المهنة الجديدة والغريبة، لا سيما أن صاحب الجزارة نفسه كان يرغب في رفد كوادره بالفتيات وجعلها نسائية فقط إن أمكن.


إسلام حسن أثناء عملها في محل الجزارة


تحكي إسلام عن رد فعل أهلها عندما تلقوا خبر عملها الجديد، إذ تفاجأ الجميع وانقسمت أسرتها بين فريقين أحدهما مؤيد والآخر رافض، ومثلت والدتها الفريق الأول ودافعت عن رغبتها بل شجعتها على خوض التجربة، أما والدها فقد رفض خوفاً عليها، وحذّرها من الانصياع وراء رغبتها، لكنها أرادت أن تثبت له أنها قادرة على التحدي.


الطريق إلى مهنة المعلمين

لم يكن الأمر سهلاً في البداية على شابة مقبلة على حياة تحاصر فيها فتيات جيلها نوافذ شبكات الإنترنت من كل حدب وصوب، وتخطف عدسات الشهرة أعينهن إلى الظهور خلف الأضواء، لكن ضوءاً أخر خطف قلبها بغية النجاح الحقيقي وإثبات الذات بعيداً عن معارك "الترند".

بدأت تشق طريقها في "مهنة المعلمين" أي الجزارين المحترفين، وشعرت بصعوبة الخطوة لكن حب التجربة كان يدفعها يوماً بعد يوم للاستمرار. كانت كلما راقبت حركة أناملها وهي تحتضن قطعة اللحم تشعر بالتميز، وتقول: "لقد مررت بنحو ثلاث سنوات حتى أدرب نفسي على طريقة قبض السكين بشكل احترافي".


إسلام حسن أثناء عملها في محل الجزارة


والد إسلام يعمل موظفاً بهيئة قناة السويس، لم يدفعها إلى العمل بالجزارة أي شيء سوى رغبتها الشخصية بذلك، وبالرغم من مخاطر المهنة استطاعت أن تقودها باحترافية حتى تمكنت من أن تدخل "المذبح"، وربما كانت الفتاة الوحيدة بمدينة الإسماعيلية التي استطاعت أن تمسك السكين وتدخل في عقر دار الجزار وتذبح الأبقار، وتضيف في حديثها: "كثيرون كانوا يعتقدون أنني تعلمت فنون الجزارة من أبي لكنه لم يعمل بهذه المهنة من قبل".

خوف شديد كان يحاصرني من المهنة نفسها ومن رفض الناس لي، لكن مديري أخذ يدربني على رائحة التوابل التي يستخدمها في إنتاج اللحم، ثم يقفز معي بالسكين من قطعة لحم إلى أخرى، فمن الفخذ إلى الكبد إلى الكلى ثم إلى الصدر حتى أزال الخلاف والحساسية بيني وبين اللحم

انتقادات ورفض وكراهية

لم تسلم إسلام من الملاحظات السلبية التي لم يكف الكثيرون عن توجيهها لها مع عدم تقبلهم وجودها في هذا المكان، على اعتبار أن هذه المهنة مخصصة للرجال فقط ولا تناسبها كأنثى. تقول: "بعض أصدقائي تركوني عندما قررت العمل بالجزارة وكأني وصمة عار خافوا أن يوصموا بها، لكن زملائي بالعمل جعلوني أتناسى كل هذه الأقاويل، ودفعوني بقدر من الحب حتى أعمل على تطوير مهاراتي وقدراتي في المهنة".

وتتحدث عن تعرضها ذات مرة لوعكة صحية قاسية شارفت بسببها الموت، فلم تجد لجوارها إلا زملاءها بالجزارة يدفعونها إلى الحياة وينتظرون حضورها ليعود ويملأ المكان، حتى تغلبت على آلامها وعادت من جديد.


إسلام حسن مع زملائها في مجل الجزارة


آمنت إسلام بنفسها، وتأكدت أن العمل في مهنة يحتكرها الرجال في مصر سمة فريدة تميزها عن جميع الفتيات وتجعل لها بريقها الخاص وشخصيتها المنفردة، تقول: "خوف شديد كان يحاصرني ربما من المهنة نفسها وربما من رفض الناس لي، لكن مديري تمسك برغبتي في هذا العمل وأخذ يدربني على رائحة التوابل التي يستخدمها في إنتاج اللحم، ثم يقفز معي بالسكين من قطعة لحم إلى أخرى، فمن الفخذ إلى الكبد إلى الكلى ثم إلى الصدر حتى أزال الخلاف والحساسية بيني وبين اللحم".

تعامل إسلام جميع من حولها بقوة وحزم، فلا تقارن نفسها بالرجل ولا ترى أنها أقل منه. الجميع في نظرها متساوون إذ تقول: "لا فرق بيني وزميلي في العمل، وشيء من الفخر يزيدني تعلقاً وحباً لعملي، سواء تقبلني المجتمع أو رفضني".


العمل بالجزارة لا يمنعني من الاهتمام بنفسي

تتحدث إسلام عن الارتباط النفسي بينها وبين مهنتها، وعن الحب الذي نشأ بينهما في غفلة الاحتياج إلى العمل والبحث عن الذات وسط ضجيج الحياة. تقول إنها وجدت خلف السكاكين الحادة كينونتها وكيانها الذي أرادت وشخصيتها التي اختارت.

لا يمنعها عملها من أن تختار حُليها بدقة وأن تضع عطراً فواحاً يلمسه جميع زبائن المحل. تتألق كل يوم بثياب أنيقة ووجه مشرق بشوش، ووجهها الحسن وابتسامتها الرقيقة هما مصدر ابتهاج وقبول لدى الزبائن، فيقبلون على محل الجزارة كي يأخذوا بركة الرزق من وجهها المبتسم

وترى نفسها صاحبة قلب صامد يستطيع أن يقف في وجه كل مانع ليصنع نفسه في مهنة الجزارة، فهي تتألق كل يوم بثياب أنيقة ووجه مشرق بشوش، وكما يقولون في المثل المصري "ما محبة إلا من بعد عداوة"، فكيف كانت إسلام لا تطيق رائحة اللحم ثم تثور في وجه هذا الكره فيصبح هذا الطريق مسارها وناصية حلمها.

كما أن وجهها الحسن وابتسامتها الرقيقة كانا مصدر ابتهاج وقبول لدى الزبائن، فيقبلون على محل الجزارة كي يأخذوا بركة الرزق من وجهها المبتسم كما يقولون، وينبهرون بها في كل مرة تطل عليهم، فلا يمنعها عملها من أن تختار حُليها بدقة وأن تضع عطراً فواحاً يلمسه جميع زبائن المحل. تقول إسلام: "عندما أقف في الجزارة وأتعامل مع الزبائن وأرى نظرة انبهار بي في أعينهم، أشعر أن لي كياناً خاصاً وتقديراً كبيراً لديهم".


إسلام حسن أمام محل الجزارة الذي تعمل فيه


وتعلمت إسلام في مهنتها أن تفصل بين كونها أنثى ترسم المكياج ببراعة وترتدي ملابسها كعارضة أزياء وتحمل حقيبتها كنجمة سينما، وبين كونها جزارة تقطع اللحم وتدخل المذابح وتتعامل مع الزبائن وتدير العمال، وتنافس كبار رجال المهنة وكأنها معلمة تعيش دور الفتوة في زمن فتوات السوق، لكن كل ذلك صنع منها فتاة قوية ترفض أي شيء قد يحول بينها وبين تمكين نفسها مجتمعياً أو يحرمها من حقوقها كأنثى.

لقد كان كل حلم إسلام أن تصنع ذاتها وأن تغامر حتى تخرج كينونتها إلى النور، واستمر حلم تحقيق الذات بمغازلة ليلها ونهارها، ولما كانت المغامرة هي السبيل الوحيد أمامها فلم تمانع، ووقفت على عتبة النجاح لتجد نفسها بعد سنوات من الكد والعمل واحدة من القلائل اللواتي خضن هذه المهنة في مصر، ومن أصغرهن سناً.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard