هل أتوقف عن ممارسة الفن وأعمل في مهنة أخرى؟ سؤال يطرحه العديد من الفنانين في بلادهم فماذا عن المهجر؟
متاهة اللجوء، الأوراق الرسمية، تأمين الحاجات الأساسية والبدء من الصفر، رحلة متعبة لأي إنسان يهرب من الحرب والمعاناة، حتى يصل منهكاً إلى ما يسميه "بر الأمان"، تاركاً خلفه حياة كاملة بكل تفاصيلها، ليولد من جديد.
الفن واللجوء
وقد يزيد "الطين بلة" كما يقال، أن تكون فناناً، حيث يمر الفنان بصعوبات يومية عبر مسيرته في بلده الأصل، فماذا عن بلد جديد لا يعرفه ولا يتكلم لغته، وربما ستمرّ أشهر أو حتى أعوام حتى يعترف هذا الوطن الجديد به، ولكن هل يمكن أن يكون الفن أحياناً هو الحل، وتذكرة العبور التي تمكّن الفنّان من الاستمرار عبر المسافات وتخطي الحدود، ليكمل التعبير عن ذاته كما كان وكما يريد؟
"بما أن اللجوء ليس بمهنة، ولأن دور الفن هو قول وإظهار الأشياء المقلقة، والعمل على إسماع أصوات المظلومين. إذ من خلال أصوات هؤلاء الفنانين ستخلّد ثقافات البلدان المهددة بالخطر، لذا فمن المهم أن يستمر الفنانون بممارسة فنونهم". هكذا تُعرِّف "ورشة الفنانين في المنفى" سبب إنشائها، فأزمة استضافة اللاجئين السوريين في باريس عام 2015، حين وصل العديد من العائلات السورية إلى فرنسا، لكنها لم تجد مأوى حقيقياً، إذ لا تقدم الحكومة الفرنسية للاجئين مكاناً للإقامة حتى يحصلوا على الأوراق الرسمية، وفي أغلب الأوقات، حتى بعد حصولهم عليها تبقى مسؤولية تأمين السكن ملقاة على عاتق اللاجئ.
الانتساب لـ"ورشة الفنانين في المنفى" هو كالعثور على مرساة، حيث تمكن الفنان من الحصول مجاناً على مساحة عمل، والوصول إلى المواد والمعدات لممارسة فنه. والهدف أن تكون الورشة ملاذاً وبيتاً آمناً، يحمي الفنان ويقدم له دعماً فنيًا واجتماعياً
دفعت هذه الأزمة فنانين سوريين مقيمين في فرنسا، وبالتعاون مع فنانين محليين ونشطاء إنسانيين، للعمل على التعريف باللاجئين من خلال التعريف بثقافتهم الغنية التي تتلاشى خلف أخبار الحرب والدمار، ما أوحى لـ "جوديث ديبول" و"أرييل سيبل"، وهما مديران سابقان في Confluences (مؤسسة فنية ودار للعروض) استقبلت بعضاً من العائلات السورية، وركزت بعدها على إنتاجات فنية سورية.
وبعد أن شهدا المعاناة والفن، قررا المبادرة عام 2016 لتأسيس مساحة تحتضن الفنانين، لا السوريين فقط، وإنما كل من يعتبر فرنسا "منفى"، للتركيز على الإبداع الذي يبقى في الظل عند الحديث عن دول تعيش أزمات إنسانية، ولفهمهم ضرورة الاستمرار بالنشاط الفني الذي يعكس غنى البلدان التي تعاني من الفقر أو الحرب، وبعضها بات إنتاجه الفني والثقافي مهدداً بالزوال، وقد دعمت هذه المبادرة وزارة الثقافة الفرنسية، مدينة باريس، وزارة العمل وبعض المؤسسات الخاصة.
وقدمت بلدية مدينة باريس موقعاً مساحته أكثر من 1000 متر مربع في قلب المدينة، مقسماً إلى مكاتب وغرف تدريب مجهزة ومراسم وصالات للإنتاج والعرض، وبذلك باتت الورشة مكاناً فعالاً ومركزاً ثقافياً ناشطاً. وعمّا تقدمه للفنان، تقول جوديث ديبول، مديرته: "الانتساب للورشة هو كالعثور على مرساة، حيث تمكن الفنان من الحصول مجاناً على مساحة عمل، والوصول إلى المواد والمعدات لممارسة فنه.
والهدف أن تكون الورشة ملاذاً وبيتاً آمناً، يحمي الفنان ويقدم له دعماً قانونياً واجتماعياً وطبياً وفنياً، ويساعده على تعلم اللغة الفرنسية عبر دورة تعليمية يومية (تعلم الفرنسية من خلال الفن). هو مكان للمشاركة والتبادل واللقاء مع فنانين آخرين ومهنيين من مختلف ألوان الفن وكافة الجنسيات. هي الرغبة في تكوين مجتمع بطريقة مختلفة والبقاء فناناً".
ورشة الفنانين في المنفى
ومن فكرة إلى خلية فنية لا تتوقف، تضم الورشة اليوم نحو مئتي فنان يمارسون الفنون البصرية، الهندسة المعمارية، تصميم الأزياء، الرقص، المسرح، الأداء والموسيقى، قادمين من 45 دولة، 35% منهم من النساء. لكل واحد منهم حكاية يمتزج فيها الألم والخلق، ويمكن التعرف عليهم من خلال موقع الورشة الإلكتروني، معظمهم يعيش في باريس وضواحيها، لكن الورشة تساعد أيضاً فنانين في مدن فرنسية أخرى، عبر تأمين أماكن للتدريب والعرض.
من فكرة إلى خلية فنية لا تتوقف، تضم "ورشة الفنانين في المنفى" اليوم نحو مئتي فنان يمارسون: الفنون البصرية، الهندسة المعمارية، تصميم الأزياء، الرقص، المسرح، الأداء والموسيقى، قادمين من 45 دولة، 35% منهم من النساء
تقول إحدى الفنانات المنتسبات للورشة: "حين وصلت إلى باريس لم أكن أعرف أحداً، لم أعرف من أين أبدأ وكيف يمكنني التواصل مثلاً مع فنانين فرنسين لمتابعة ممارسة مهنتي، فأنا ممثلة معروفة في سوريا والعالم العربي، ولكن لا أحد يعرفني هنا، عدا عن الصعوبات الشخصية التي كانت حملاً ثقيلاً، كالعثور على منزل واستكمال الأوراق الرسمية وتعلم اللغة، كل هذا بات أسهل منذ انتسابي للورشة التي لم تفرض أي قيود، بل ساعدتني على الوقوف على قدمي من جديد والحصول على عروض عمل فنية. أستطيع القول إن الورشة باتت كعائلة لي، احتضنتني ودعمتني لأستمر، لا أن أبدأ من الصفر".
الانتساب إلى الورشة لا يتطلب الكثير، فأي فنان "مهاجر" أو "لاجئ" يستطيع التقديم للانتساب عبر عرض مشروعه الفني على الإدارة، كما تعمل الورشة على التعريف بالفنانين من خلال موقعها الإلكتروني الذي يعرض سيرة ذاتية صغيرة لكل فنان، مع روابط وصور أو فيديوهات لعرض أعماله والتواصل معه في حال الرغبة بالعمل معه.
يقول فنان آخر: "ربما هو ليس الحل السحري للفنان، وإنما تقدم الورشة بعض المفاتيح التي تساعد حقاً على فتح أبواب جديدة للاستمرار".
وكما هناك صعوبات يواجهها الفنان في المهجر، هناك صعوبات بالطبع تواجهها الورشة، وعن ماهيتها تقول جوديث: "تتلخص الصعوبات التي نعاني منها في قوانين الهجرة، المتاهات الإدارية، الصور النمطية وعجزنا عن احتواء عنف المنفى، ولكننا نحاول وسنستمر في المحاولة، لأن أي إنسان يستحق أن يجد مساحة آمنة للإبداع والتطلع للغد".
كورونا وتأثيرها على عمل الفنّانين
أزمة جائحة كورونا قد أثرت على العالم بأكمله، وبالطبع كان لها تأثير كبير على عمل الفنانين والورشة، فرض الحجر الصحي الأول إغلاق جميع الأماكن، وأجبرت الورشة على إغلاق أبوابها، لكن الفريق بأكمله كان يعمل عن بُعد، وحرص على أن يكون لدى الفنانين كل ما يحتاجون إليه، وأنهم آمنون، كما قدمت الورشة مساعدة مالية لأولئك الذين لا ينالون أي شكل من أشكال الدعم من الدولة.
بعد ذلك، خلال فصل الصيف، أتيحت الفرصة من جديد لتقديم العروض الحية والحفلات الموسيقية في الهواء الطلق، وكذلك ورش العمل، ليعلن عن الحجر الصحي الثاني قبل يومين فقط من انطلاق مهرجان الورشة الفني. كان وقع الحظر أكبر على الفنانين، فكيف سيتمكنون من الاستمرار في نشاطهم وعرض أعمالهم في ظل حجر صحي آخر؟
وتعلق جوديث على الحجر الصحي الثاني وتأثيره: "أُجبرنا على إعادة صياغة برنامج المهرجان عدة مرات ليلائم التدابير الصحية التي بدأت بتقييدنا أكثر فأكثر، وبمساعدة بعض الأماكن الشريكة، تمكنّا من إقامة المهرجان ولكن بشكل افتراضي، وقدمت الحفلات الموسيقية والمعارض من خلال البث الحي عبر الإنترنت، من مقرّنا ومن أماكن أخرى، مع الأمل بالقدرة على متابعة الحراك الفني والثقافي كما كان في الأجل القريب".
أعلنت الحكومة الفرنسية في 10 كانون الأول عن عدم إعادة فتح الأماكن الثقافية كما كان مقرراً، حتى شهر كانون الثاني على الأقل، ما حرك الفنانين للنزول إلى الشارع والاحتجاج، فشاركت الورشة في التجمع في ساحة "الباستيي"، للمطالبة بفتح الأماكن الفنية وضرورة ترحيبها بالجمهور مرة أخرى في أقرب وقت ممكن.
واليوم، للتخفيف من حدة الموقف، أطلقت الورشة مشاريع جديدة عبر الإنترنت، كمسلسل يُعرض عبر موقعها، تم تصويره في الورشة، يحكي عن حالة الحبس التي أُجبرت عليها، كما بدأ العمل على صحيفة تم إعدادها في الورشة بالوسائل المتاحة (نسخ، سيريغراف، نقوش)، بالإضافة إلى ورش التدريب الفني المسموح بها في الوقت الحالي، هذا ما يستطيع هذا التجمع الفني الناشط فعله في ظل الظروف الراهنة، والأصعب هو توقع المستقبل، فربما سيُحكم علينا بسنة ثانية بلا أنشطة ثقافية حية، ونتساءل كيف سنعيش خلال هذه الفترة غير المسبوقة؟
رغم أن " ورشة الفنانين في المنفى" تأسست منذ بضع سنوات فقط، إلا أنها حصلت على جائزة الثقافة من أجل السلام، من مؤسسة جاك شيراك عن الثقافة والتنوع 2018، وجائزة Womex للتميز 2020
هل يمكن العمل مرة أخرى كما كنا من قبل؟ هل سيظل من الممكن صنع الفن؟ ألا يؤدي الحبس إلى ازدحام ثقافي كبير؟ أسئلة كثيرة يفرضها الحجر الصحي، لا على الفنان وحسب، وإنما على الجمهور أيضاً، وتقول جوديث عن مستقبل الورشة: "يبدو المستقبل مربكاً وصعباً. لقد وصلنا إلى نقطة اللاعودة، وهو ما توضحه جائحة كورونا. يجب علينا الآن أن نبذل قصارى جهدنا، وأن نؤلف ونجد الوسائل لنكون مبتكرين".
ورشة الفنانين في المنفى هي واحدة من العناوين المفيدة للفنان المهاجر أو اللاجئ ولأي شخص يحب التعرف على إنجازات فنية متنوعة وغنية، تضم مزيجاً مميزاً ومختلفاً، وربما نحن بحاجة لأماكن كهذه تجمع فنوناً قادمة من شتى أنحاء الأرض، تعكس التنوع والخصب الإبداعي الإنساني.
رغم أن الورشة تأسست من بضع سنوات، إلا أنها حصلت على جائزة الثقافة من أجل السلام، من مؤسسة جاك شيراك عن الثقافة والتنوع 2018، وجائزة Womex للتميز 2020. هذه الجوائز تعكس أهمية النشاط الفني الذي يمارسه ويعكسه فنانو الورشة، وهو يزيد من قدرة الورشة كمركز دعم فني ومادي.
وعن نجاح هذه الفكرة تقول جوديث: "هذه تجربة فريدة لا مثيل لها في أي مكان آخر. ومع ذلك، من الصعب أن نفرح بهذا النجاح، لأنه يعكس حالة العالم المضطرب ومحنة الناس الذين أجبروا على الفرار من بلادهم لأسباب تتعلق بالبقاء".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 4 ساعاتوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 5 ساعاترائع
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت