شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
قراءة تأويلية في مشروع ربيع جابر...

قراءة تأويلية في مشروع ربيع جابر... "المابَيْن" في التخييل السردي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 18 ديسمبر 202004:02 م

ربما تحلو لي معارضة عنوان كتاب "البينية في التخييل السردي" للناقدة اللبنانية الدكتورة سمية عزام، معارضة ومحاكاة ليكون عنواني المقترح "في مديح التخييل النقدي"، إيماناً بأن النقد أيضاً قرين التخييل، وأنه في سبيله لتأويل الإبداع لا يضحّي بجماليات "الكتابة"، فلا يليق بالنقد الذي يتابع الإبداع ويتفاعل معه أن يزهد في الإمتاع، وأن يتخلى عن مؤانسة ذهنية هي جوهر رسالته. ومن الظلم للنقد وضعه في حزمة واحدة، تشمل الطيب منه وغير الطيب، والنوع الأخير غير الطيب هو أحد عناصر أزمة النقد. والأزمة لا تتعلق بندرة النقد، وإنما بكثرة "النقاد"، ووفرة ما يُنشر باعتباره نقداً، مثلما تؤدي غزارة "القصائد" إلى أزمة الشعر.

الإفراط أحياناً يؤكد الأزمة. على سبيل المثال بدأ مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، عام 2019، توزيع "جوائز النقاد العرب للأفلام الأوروبية"، واختار 30 "ناقداً" فيلماً واحداً ينال جائزة واحدة، لا "جوائز" كما يدلّ العنوان. وفي عام 2020 بلغ عدد أعضاء لجنة التحكيم 56 من 14 دولة عربية. عدد كبير، كما يبدو، ولو أن كلاً منهم كتب مقالاً واحداً كلّ شهر أو شهرين، عن فيلم أو ظاهرة سينمائية، لكان لدينا حصاد نقدي وافر يثري المكتبة السينمائية. ونظرة سريعة إلى قائمة "النقاد" تشير إلى أن بعضهم لا يقرب النقد، في حين تخلو القائمة من نقاد مرموقين لهم رصيد في النقد والترجمة، ولكنهم بعيدون.

حديث النقد ذو شجون. ومن الكتب النقدية دراسات نادرة تمثّل مصابيح في فضاءات عمياء أعلى فنارات. ما أكثر عثورنا على كتاب نشعر بعدم أصالته، وتشي ملامحه بآبائه الشرعيين أو آبائه بالتبني، ويسهل مدّ اليد إلى أصول الأفكار المؤسِّسة لكتاب يتعدد آباؤه. والكتاب النقدي الحقيقي يحمل سمات مؤلف يظل أسداً مهما يهضم من الخراف. هذا الكتاب الحقيقي يؤكد تمتّع كاتبه بالنديّة، والثقة بالذات، والوعي بالمنهج، والمحبة للنصوص، وحُسن الاختيار لأعمال تصمد على طاولة التشريح، وتزخر بمعانٍ أعمق مما يبديه ظاهر النصوص. ولعل الدكتورة سمية عزام وجدت ذلك مستوفياً لإنجاز كتابها "البينية في التخييل السردي... قراءة تأويلية في مشروع ربيع جابر السردي".

لربيع جابر مشروع، وقد اختار ألا يكتب إلا الرواية، فلا ينشغل بغيرها. وأثمر دأبه نحو عشرين رواية، منذ "سيد العتمة" 1992. وقبل صدور كتاب الدكتورة سمية عزام عن الهيئة المصرية العامة للكتاب (2020)، جذب انتباهي إلحاحها على مصطلح "المابين". ربما لا تكون صاحبة السبق إلى نحت المصطلح، ولكنها أعطته دلالته. ومن مقالاتها في هذا الاتجاه "مرايا الذات في (المابين) البرزخيّ" في موقع "فكر" في 2 فبراير 2019. وفيه ترى البرزخ، بدلالة الاتصال والانفصال معاٌ، ينتقل من الحيّز الجغرافي إلى مجالات الفنون، "حيث صراع التصورات حول لا نهائية الرؤى... فكيف يتبدّى لنا فهم استعارة المرايا في النص، وحضور الهوية في المابين؟"

من بين الفنون التي توّجتها السينما كفنٍّ سابع، لم يحتلّ السرد مكانته كأوّل الفنون، ربما لافتقاد التنظير وتبدّد القواعد. ولعلّ أحد الكهوف لاذ به إنسان خائف أراد اتّقاء الضواري فابتدع القص

ويضمّ الكتاب مقدمة وثلاثة فصول، هي: "المفاهيم النقدية"، "فضاء التجربة الذاتية المأزقي في أفق التأويل"، "الرؤية بين الأيديولوجيا واليوتوبيا تأويلية سيميائية اجتماعي"، وينتهي بما يشبه خاتمة قصيرة تقول فيها المؤلفة إن هناك واقعاً عنيفاً "فرض نفسه على الروائي، وثمة أمل بالخروج من ظلمته قد راوده"، وإن في الكتابة حياةً، ونجاة من النسيان، ونسجاً لعلاقة الذات بالعالم، "وفي هذا الفضاء الروائي يتسنى للكاتب والقارئ معاً هدم الحدود بين التخييل والواقع". وفي مقدمة الكتاب شرح غير وافٍ لمصطلح "المابين"، ويتخذ دلالات وتأويلات متعددة في التخييل السردي، بإشارته إلى شخصيات مأزقية مأزومة، تعاني الاغتراب وتبحث عن الحقيقة، وتتأرجح بين زمنها النفسي والعالم الخارجي.

من بين الفنون التي توّجتها السينما كفنٍّ سابع، لم يحتلّ السرد مكانته كأوّل الفنون، ربما لافتقاد التنظير وتبدّد القواعد. ولعل أحد الكهوف لاذ به إنسان خائف أراد اتقاء الضواري فابتدع القص، لكيلا ينام، واكتشف في الاهتداء إلى الحكي حفظاً للذكرى، وتوسيعاً للتجربة بالخيال، ومواساة للذات على محدودية العالم. وتتفق الكاتبة مع رأي إمبرتو إيكو في أن للسرد "وظيفة استشفائية"، فبدلاً من العالم الواقعي الذي يصعب الإمساك به، يقدم التخييل السردي حياة "متحررة من آليات الضبط والتوجيه القدري الذي لا فكاك منه"، وتكون للتاريخ دلالة هي إمانية المستقبل، فالتاريخ كما يرى سارتر ليس استعادة للموتى، بل "مشهداً لأحياءِ الزمن الغابر".

عن سيمائية العناوين وتأويل الرموز: تبدو هشاشة الأحلام في رواية "الفراشة الزرقاء"، فللفراشة حيوات وأطوار وتحولات، والراوي يصف "أنطون" بالفراشة في السماء، بعد موته طفلا، كما يصف بعضَ الموتى بالديدان التي تتحول إلى فراشات. وتجسد قصص المعاناة والكفاح والغربة "كينونة الماضي، وتجارب من عاشوا ورحلوا؛ فتتبدى الحكايات فراشات تنطلق من إسارها ـ شرانقها ـ إلى فضاء بين دفتي كتاب". وفي رواية "كنتُ أميرا" تحوّل مسخيّ في مستوى الهوية، من أمير إلى ضفدع، وللأماكن المتعددة رمزيتها الطبقية والسلطوية والاجتماعية: القصور، الكوخ، المستنقع، الغابة، البحيرة، النهار، الجحيم. أما رواية "يوسف الإنجليزي" فيحمل عنوانها ازدواجية لغوية تشير إلى أن بطلها رمز للهجنة والاستلاب.

لبيروت التاريخ والأماكن والبشر دور البطل في معظم روايات ربيع جابر، ويقول الراوي إن مدينةً أشبه بالمتاهة مطمورة تحت بيروت الحالية، وإنه اكتشفها بانزلاقه فيها وهو مطارد

لبيروت التاريخ والأماكن والبشر دور البطل في معظم روايات ربيع جابر، وله ثلاثية "بيروت مدينة العالم" صدرت أجزاؤها في أعوام 2003 و2005 و2007. وفي تلك الفترة نشر أيضاً أعمالاً أخرى منها "بيريتوس مدينة تحت الأرض" عام 2005. بيريتوس هو الاسم الإغريقي لمدينة بيروت، ويقول الراوي إن مدينة أشبه بالمتاهة مطمورة تحت بيروت الحالية، وإنه اكتشفها بانزلاقه فيها وهو مطارد. وترى المؤلفة أن الراوية زاخرة "بالدلالات الرمزية، وتُحَمّل بمآزق زمكانية تستنطق الماضي؛ فتُمثّل برمّتها نافذة أمل في الخروج من أنفاق ذاكرة مكلومة. من خلال عوالمها الغريبة يهرب الراوي مع شخصياته من ثقل الواقع ماضيا وراهنا، محذّراً من مستقبل بائس ومصير مشؤوم".

تحت عنوان "قلق الذات في فضائها إزاء معنى الوجود: لِمَ الانتحار؟" تتوقف المؤلفة أمام سبع روايات لربيع جابر منها "يوسف الإنجليزي" و"دروز بلغراد" و"رالف رزق الله في المرآة" وفيها يتمّ اختيار إنهاء الحياة عمداً، "مع تباين الأسباب في ما بينها". في هذا الفضاء تتمرد أنفس على أقدارها، وتهرب من إكراهاتها، فينتحر السجين المنفيّ إلى قلعة بلغراد، وتدور تراجيديا الحرب الأهلية وما شهدته من خطف وفقد وعجز عن مواجهة الموت أو فهم عبثيته. هنا ينتحر المعلم، والأم التي مات طفلها، والأكاديمي المتخصص في علم النفس. ويطرح انتحار المثقف أسئلة: "ما الذي يجعله عاجزاً عن المواجهة؟ وهل لانتحاره دلالة أخرى غير الانهزام؟".

في بعض روايات جابر شيء من عوالم "ألف ليلة وليلة"، وفضاءات "جحيم" دانتي، و"رسالة الغفران" للمعرّي، وتيه عوليس في "الأوديسة"، و"المسخ" لكافكا

الكتابة تستحضر أحياناً قراءات سابقة، وفاءً لها أو إعادةً للاعتبار. وفي هذا الاستحضار تتمثل الكتابة الجديدة كتابات كلاسيكية ليس باستنساخها، وإنما بإعادة تشكيلها في لغة مبتكرة. وتتفق المؤلفة مع بول ريكور في أن القراءة "كما الكتابة، نداء الماضي، لكينونة كتّاب سابقين ولزمانيّتهم، بهدف التفكير في الحاضر". وفي بعض روايات جابر شيء من عوالم "ألف ليلة وليلة"، وفضاءات "جحيم" دانتي، و"رسالة الغفران" للمعرّي، وتيه عوليس في "الأوديسة"، و"المسخ" لكافكا، وغير ذلك من إشارات تناصية ترد في الكتاب، ليس في باب الدراسة الأدبية المقارنة، بل "في إطار التثبّت من أن القراءة وجه من وجوه الوجود مع الآخرين أو اقتحام الـ(أنت) أو الاتصال".

نصل إلى المصطلح الأثير "المابين" تحت عنوان "الذات الكاتبة في (المابين): بين الواقع والتخييل" تقول المؤلفة إن القراءة إذا كانت طريق حياة في الواقع المرجعيّ للروائي، "فإن الكتابة نمط حياة، بل إنها الفكرة التي من أجلها يريد أن يحيا." هكذا انتهى ربيع من دراسة الفيزياء بالجامعة الأمريكية، وسلّم الشهادة لوالده، وأعلن أنها لا تهمّه، وأنه اختار الكتابة. ولهذا الاختيار تمثيلات في أكثر من رواية يشير فيها إلى نفسه "الواقعية" كما في "يوسف الإنجليزي" و"رالف رزق الله في المرآة". واستناداً إلى هذه التصريحات والإشارات ترى الدكتورة سمية عزام أن الذات الكاتبة تبرز كما لو أنها تسكن "فضاء بيْـنيًّاً" بين الواقع والتخييل.

يستهويني النقد المبدع، النصّ النقدي الذي يُقرأ لذاته، ويوازي النص الإبداعي، وينافسه في العذوبة، ويزيد عليه باتساع الرؤية وموسوعية المعرفة، وإثارة الأسئلة، والدعوة إلى محبة الإبداع والتحفيز على قراءته. وكتاب "البينية في التخييل السردي" جهدٌ مهمّ لدارسي الأدب، ولمن قرأوا أعمال ربيع جابر. وأما من لم يقرأواها فأضمن لهم المتعة بقراءة درس نقدي محرّض يضعه في قلب الحالتين؛ الإبداعية والبيروتية بامتدادها التاريخي والبشري خارج لبنان. كما أضمن لهم أن ينتهوا من الكتاب وقد شعروا بألفة "المابين"، وهو مصطلح نقدي يسائل ويحاور علوم النفس والفلسفة والاجتماع، ويشتبك بالتاريخ والتحولات العاصفة للجغرافيا الدينية والمذهبية والعرقية للمدينة، عبر قراءة تأويلية سيميائية لمشروع روائي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard