سَخِرَت مني، معتقدةً أني أستسهل الحديث في الأمر، أو أستسهل الكتابة عنه، لما قلت لها إني أودّ الكتابة عن انطباعاتي وتحولاتها حيال الرقص الشرقيّ. “غرّتكِ الكتب، إذ تظنين أنك إن استطعتِ الكتابة عنها، تستطيعين الكتابة عن الرقص والراقصات”. ربما اشتمَّت صديقتي فيَّ رائحة تعالٍ أو استسهال. وليس الأمر كذلك.
الحق أني كنت، سابقًا، أنظر بشيء من الترفّع الساذَج لهذا النوع من الرّقص. أشيح عنه باعتباره أداة تسلية واستثارة خاصة بالرجال، عرضًا مصمّمًا لأجلهم وعلى مقاس أمزجتهم، بالضبط. خاصة عندما استدعي بضعة مشاهد مرّت بي في أفلام الأبيض والأسود، كانت تقريبًا جلّ رصيدي البصري من هذا الفن. الراقصة ومن حولها الرجال، وهم فاغرو أفواههم أو تاركو أجفانهم تذبل وتسترخي على أعينهم ويصفقون ببلاهة، وهي تتمايل هنا، لتثير هذا، ثم ما تلبث أن تفرّ إلى مكان آخر كأن الريح حملتها حملًا باتجاه ثانٍ، لتشعل انتباه متفرج آخر وتستحثه إما لتوضيب شاله على صدره إن كان بالجلباب والعمامة أو استمالة وضعية طربوشه إن كان بالبذلة والطربوش. الزيّ أيضًا، زيّ الراقصات الشرقيات التقليديّ، ذاك الكاشف مفرط الالتماع والبريق. كاشف، ومحرّض للعين على استراق النظر. والنظر، إطالته، ثم مواصلته، حسب رأيي شأن رجاليّ بحت.
بالمقابل، كنت أراقب بصمت اهتمام أمي والفُرجة كاملة الانتباه التي توليها، بصحبة أبي، لفقرات الرقص الشرقي والاستعراض في الأفلام العربية. أمّي تعرف الراقصات جيدًا، أسماءهن، أنماط رقصهن، اختلاف بنية جسد كلٍ منهن وانعكاسه على أسلوب رقصها، وحتى حياتهن الخاصة وعلاقاتهن، ولها ذوقها في كل منهنّ. أراهن أن أبي له ذوقه الخاص أيضًا، عدا أنه لا يتحدث معنا في هذا الأمر، ويراه خارج نطاق الاحتشام في الحديث. كانا يتفرجان على الرقص في سياقات الفرجة، ولا ينزعجان منه ولا يعتبرانه زائدًا، بل إنه لم يكن حتى، بالنسبة لهما، مشهدًا أقل أهمية يمكن خلاله أن ينقطعا لبعض الوقت، ثم يعودا لأحداث الفيلم الدرامية. كان اهتمام أمّي تحديدًا يهدد نظريتي القائلة بأن الرقص الشرقيّ صمم خصيصًا لأجل إمتاع بصر الرجال ومداعبة أمزجتهم. الأمر الآخر هو محبّة البنات العاديات أنفسهنّ بالرقص، إذ ما يجتمعن ويختلين بأنفسهن، حتى يغلقن الباب، يشغلن الموسيقى، يربطن أسفل الخصور، بإيشارب أو شال، وهات يا رقص.
وبالطّبع، لم يكن هذا لمتعة أحد سواهنّ. كما لم يكن هكذا نشاط يثير حفيظة الأمهات وإن كنّ محافظات. وعليه، فقد صرتُ أكثر تحفظًا حيال الإفصاح عن نظريتي تلك، إذ بدا بالملاحظة أنها غير دقيقة. لكن تبديدها- نظريتي السابقة - جرى على نحو آخر. على نحو جميل، وغير متوقّع.
كنتُ -وأنا من هواة الضحك- أتابع مسرحية كوميدية، عندما باغتتني دينا. الراقصة المصريّة الشهيرة دينا، كان اسمها يتردد كثيرًا وقتذاك، ولم أكن تابعتُ لها شيئًا، ولا لغيرها على الأغلب. كانت تؤدي دور فتاة تزوج حبيبها سواها، ثم تُدعى للرقص في عُرسه، فترقص. استعراض أدائي محمّل دراميًا في هيئة وصلة رقص شرقيّ، وعلى موسيقى “حيّرت قلبي معاك” للسّت. استُدرِجتُ بلُطف. دينا، لم تكن تضحك، ولم تكن ترسل تلك النظرات المعتادة التي ترسلها الراقصات لجمهورها. كانت حزينة جدًا، وترقص. جسدها ينثني بانسياب مع الموسيقى، ثم ما يلبث أن يتكسّر على تقسيمة الإيقاع. ذراعاها كأنما تجدلان خيوطًا في الفراغ، ثم تعودان فتحررانها. كانت تؤدّي، ولم تكن مستعجلة على إرسال اهتزازات تستعرض من خلالها مهاراتها في الرّقص. كان حزنًا جميلًا، ولم تكن الغواية، أو أن رأس الغواية كان يعلو ويخبو وسط موج من الأسى والجمال، معادلة ما فيها متناقضات عدّة تعمل بتناغم في الوقت نفسه. تفرّجت على الوصلة كلّها، ثم أعدتها، وتفرّجتُ عليها مجدّدًا.
كنت، سابقًا، أنظر بشيء من الترفّع الساذَج لهذا النوع من الرّقص. أشيح عنه باعتباره أداة تسلية واستثارة خاصة لهم، لأجلهم وعلى مقاس أمزجتهم. خاصة عندما استدعي بضعة مشاهد مرّت بي في أفلام الأبيض والأسود، كانت تقريبًا جلّ رصيدي البصري من هذا الفن.
كان اهتمام أمّي تحديدًا يهدد نظريتي القائلة بأن الرقص الشرقيّ صمم خصيصًا لأجل إمتاع بصر الرجال ومداعبة أمزجتهم. الأمر الآخر هو محبّة البنات أنفسهنّ بالرقص، إذ ما يجتمعن ويختلين بأنفسهن، حتى يغلقن الباب، يشغلن الموسيقى، يربطن أسفل الخصور، بإيشارب أو شال، وهات يا رقص.
المشهد الثاني، كان في مسرحية أيضًا، وقد كانت متلازمة الراقصة والكوميديان في وقت من الأوقات، تعدّ وصفة أو تركيبة سحريّة لنجاح الأعمال المسرحية التجارية أو ضمان مزيد من مبيعات التذاكر، والباحث عن الضحك، لا بد أن يحظى بحصة ما من الرقص! عمومًا كنت أصبحتُ أقلّ إعراضًا عن الرقص الشرقيّ من ذي قبل. هذه المرة، وقعت بين يديّ فيفي عبده. وهي ترتدي الثوب الرجالي الأبيض، تحمل عصا وترقص. كان المزاج مزاجًا انبساطيًا. فيفي ترقص ضاحكة، بحرفة شديدة، بعتاد كامل من العازفين والإيقاعيين، والمعاونين يناولونها العصا والمنديل وما تحتاج أن تلتقطه أو ترميه. ثوبها الرجالي الأبيض، الفضفاض المستقيم القصّ، أسدى ضربة قاضية لمتلازمة التعري والغواية. فكَّ الارتباط. ترقص مبتهجة، جسدها ينبض بقوة خلف الثياب التي تغطيه بالكامل تقريبًا، يعلن عن نفسه من دون خَفَر. وهي، تضحك، كأنها تعلم، أو لأنها تعلم.
الأخيرة اختلفت بعض الشيء، إذ لا أدري إن كنت أستطيع وصف ما رأيته بأنه وصلة رقص بالأساس. سيدة خمسينية ربما، محافظة على رونقها، تجلس بوقار على مائدة في سهرة خاصة، شعرها الأسود، ملموم بعناية، ومثبّت كثبات جلستها. ترتدي طقم ثياب عاديًا، أسود، لا يسترعي الانتباه. لكنها، هي، بالرغم من هذا الاعتياد كله، تجلس كأنها مختصّة من السماء بشيء، ليس واضحًا، لمن لا يعرفها، ماهيته. لحظات وتُعزف موسيقى راقصة، ثم يلتفت إليها الناس، فتطلق ابتسامة ذات مغزى، ثم تترك لجسدها أن يصنع موجات تنبعث من أسفل خصرها مرورًا بصدرها حتى كتفيها، موجات تروح وتجيء على جسدها، يتبعها تصفيق يتصاعد، فتبعد إحداهن الكرسيّ للسيدة ذات الأسود، لتفسح لها مساحة للرقص ولو وقوفًا في مكانها. ومجدّدا تسمح السيدة لنفسها ببعض التمايل داخل الوقار الذي ترتديه، فتبدو لذيذة وشهية، ومثيرة للاهتمام بشدة. “من هذه؟” أقول لصديقتي، فتجيبني متعجبة من جهلي “سهير زكي، الراقصة الشهيرة سهير زكي بعد اعتزالها”.
هي نفسها، صديقتي التي اطلعت على جهلي بسهير زكي، استوقفتني مؤنبة ومتحدّية عندما أخبرتها برغبتي في الكتابة عن شغفي الحديث العهد بالفُرجة على الرقص الشرقي قائلة :”غرّتكِ الكتب…”!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين