شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"لا نتعلم من العبر القديمة"... قصة حبّ عادية بين رجلين التقيا في القاهرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 14 أبريل 202004:24 م

في كل مرة أزور فيها قاهرة المعز، ينتابني حنين دفين للماضي، ذاك الحنين الذي يأخذني تكراراً ومراراً لقراءة روايات الكاتب الذي استطاع أن يصور لقرّائه تلك المدينة الساحرة بكل تفاصيلها.

نجيب محفوظ، العبقري الذي استطاع الغوص في أعماق شخصياته بنفس الحرفية التي استطاع بها أن يصوّر شوارع القاهرة وأحياءها لكل الذين يعرفونها، وأيضاً لأولئك الذين لم تطأ أقدامهم أرضها.

حين قرأت الثلاثية وثرثرة فوق النيل، كنت لم أتجاوز السادسة عشر من عمري. كنت مبهوراً، ليس فقط بأحداث القصة، وإنما أيضاً بتصويره الدقيق للأحياء والشوارع، ذاك التصوير الذي جعلني أشعر بأنني أعرف القاهرة عزّ المعرفة عند زيارتي الأولى لها وأنا اقترب من منتصف العقد الثالث من عمري.

ففي زيارتي الأولى للقاهرة، تعجب سائق التاكسي بسبب طلباتي "الغريبة" نوعاً ما، فقد كان يتوقع مني أن أطلب منه أن يقلّني لزيارة الأهرامات مثلاً، إلا أنني طلبت أن يأخذني لحي الجمالية والأزبكية والعباسية. تلك الأحياء، وعلى الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على توصيفها في روايات نجيب محفوظ، إلا أنني شعرت بأنني أعرفها جيداً عندما ترجلت في أزقتها. انتابني شعور غريب، نفس الشعور الذي انتابني مع قراءة روايات نجيب وأنا في سن المراهقة، عندما كنت مستلقياً على سريري، متلحفاً ومدعياً أنني نائم كيلا أزعج أخي الذي يشاركني الحجرة.

كل تلك الذكريات خالجتني وأنا أزور القاهرة للمرة الثانية بعد حوالي عشر سنوات مضت على الزيارة الأولى، ومع أن الزيارة الثانية كانت بسبب العمل، إلا أنني كنت مستمتعاً بها بنفس المقدار، كون القاهرة لها مكانة خاصة في وجداني.

ما لم أضعه في الحسبان، أن هذه الزيارة كانت وستكون مختلفة عن الزيارات التي كانت قبلها والتي تلتها.

عند قدومي للقاهرة، لم أتخيل أنني سأقابل أدهم. الشاب الأسمر، ذو العينين باللون العسل الجبلي الداكن والابتسامة التي بإمكانها أن تلقي بسحرها على متلقيها. لم أعر لنظراته أي اهتمام لكوني في محيط عمل محافظ إلى حدٍّ ما، وأي نوع من تلك المشاعر مرفوضة قطعاً لكونها مشاعر "شاذة" في نظر المحيطين

فقد خفق قلبي بالحب...

الحب، ذلك الشعور الذي كنت متأكداً أنني لن أذوق طعمه مرة أخرى بعد مروري بتجربة فاشلة قبل سنوات.

فعند قدومي لمكتب القاهرة، لم أكن أتخيل ولو لوهلة أنني سأقابل أدهم. الشاب الأسمر، ذو العينين باللون العسل الجبلي الداكن والابتسامة التي بإمكانها أن تلقي بسحرها على متلقيها.

لم أعر لنظراته أي اهتمام لكوني في محيط عمل محافظ إلى حدٍّ ما، وأي نوع من تلك المشاعر مرفوضة قطعاً لكونها مشاعر "شاذة" في نظر المحيطين.

بعد انتهاء الاجتماع الصباحي لكل الموظفين، سألت زملائي عن أي صرَّاف في الجوار، كوني وصلت للتو، ولم أتمكن من تصريف النقود التي سأحتاجها طيلة إقامتي في القاهرة، وإذ به يتطوع لكي يقلّني لمكان قريب خلال استراحة الغداء.

وبالفعل، ذهبنا خلال الاستراحة لمحل الصرافة، وفي الأثناء تجاذبنا أطراف الحديث. وإذ به يبدأ بالسؤال عما إذا كنت متزوجاً أم لا! ذاك السؤال الذي لم أستطع التخلص منه، خصوصاً وأني تجاوزت عقدي الثالث بسنوات، فجاوبته بالجواب الذي جهزته لذلك السؤال طوال السنوات الماضية: "بأنني غير مستعد بسبب سفري المتواصل للعمل و و…".

رجعنا للمكتب بعد أن تناولنا الغداء، ولكن شيئاً ما بداخلي جعلني أفكر ولو للحظة بهذا الشاب المفعم بالحيوية، والذي في الوقت نفسه يخفي كمية من الحزن وراء تلك الابتسامة العذبة.

وبدون أي إدراك مني، وجدت أناملي تطبع اسمه على محرّك البحث في فيسبوك لأبحث عنه، وبالفعل كان موجوداً ونتشارك أكثر من خمسة عشر صديقاً، كوننا نعمل في نفس الشركة ولكن في بلدين مختلفين.

وجدنا ملاذاً لكلينا في أن نكون مع بعضنا البعض... لفترة وجيزة فقط.

ترددت لوهلة قبل أن أرسل له طلب صداقة، ولكنني استجمعت قواي وقمت بذلك، وفي غضون أقل من خمس ثوان، قبل طلب الصداقة، وكأنه كان ينتظر تلك اللحظة بفارغ الصبر.

ولم تمض دقيقة إلا ونحن نتجاذب أطراف الحديث. فحدثني عن عمله وحياته في القاهرة بعيداً عن أهله في الإسكندرية، وتحدثت أنا بدوري عن حياتي التي كانت أشبه بالمغامرة المثيرة له، كوني مررت ببلدان وأحداث مختلفة.

وخلال نصف ساعة من المحادثة تصارحنا عن ميولنا الجنسية نحن الاثنين، وتبادلنا الضحك لأنني لم أدرك الإشارات التي حاول أن يرسلها لي عبر كلامه المبطن خلال رحلتنا إلى محل الصرافة.

ولم يمض الكثير من الوقت، حتى وجدنا أنفسنا نقترب من بعض أكثر وأكثر، قرب تملؤه الإثارة والخوف معاً. خوف من مستقبل قريب مجهول ومشاعر قد تؤذيني مرة أخرى، خصوصاً بعد تجربتي الماضية والتي استغرقت وقتاً طويلاً قبل أن أنساها وأتخطاها.

ولكن كان هناك شعور دفين يدفعني لكي أخوض تلك التجربة. تجربة مع شخص لم يتجاوز الثلاثين من عمره بعد، إلا أنه قد مر بظروف صعبة جعلته يختبر الحياة في سن صغيرة، حياة شقية علمته الكثير. شخص قد أنهى مؤخراً علاقة حب دامت ما يقارب عامين، فهل هو مستعد لخوض تجربة أخرى؟!

الآن أستطيع أن أقول بأنه لم يكن... ولكن لم أدرك ذلك وقتها.

فقد كنت أشعر بأنني أريد من يحتويني بعد ظروف عائلية أليمة، وهو كان يريد أن يتعكز على أحد في مواجهة هذه الحياة التي تعصف بنا.

وجدنا ملاذاً لكلينا في أن نكون مع بعضنا البعض... لفترة وجيزة فقط.

ولكن "شهر العسل" لم يطل. فخلال الأشهر الأولى بدأ الخوف يسري في داخله، بدأ بالتساؤل عن مصير هذه العلاقة، ولم يكن لدي جواب. ثم بدأ يدرك بأنه لا يحبني بالطريقة التي أحبه به، ولكنه في نفس الوقت لا يريد أن يخسر ذلك الشخص "الحكيم" الذي يرشده في طريقه المظلم، والذي أشعل له شمعة أمل في طريق ظن لوقت طويل بأن لا نهاية له.

فكانت معضلة بالنسبة له مع بعض الأنانية، والتي تذكرني بإحدى شخصيات الكاتب مايكل كانينغهام، في روايته الشهيرة الساعات The Hours، حيث تقول "We want everything … Don’t we?".

وفي تلك الأثناء، ما بين جذب ورفض لمشاعر متضاربة منه، كنت قد وقعت في براثن حب أليم. حب لشخص أعرف تمام المعرفة أنه يكنّ حباً لي، ولكن الخوف تملكه من أن يمضي قدماً في تلك العلاقة التي تتطلب الالتزام والعطاء كأي علاقة، سواء صداقة أو غيرها من العلاقات.

ولكنه غير مستعد لأسباب كثيرة، أولها أنه يريد التحليق عالياً وبعيداً لكي يتذوق طعم الحياة، حياة حُرم منها طوال السنوات الماضية، حياة عشتها أنا بدوري بالطول والعرض، وحان الوقت لي أن أهبط للأرض وأنا في عقدي الرابع.

ولكن السم قد جرى في الجرح، سمّ الرغبة في البقاء في علاقة ليس لها شكل ولا نوع ولا شيء، سوى الحنين لمشاعر أنتظر أن تكتمل، ولكن الظروف وأدتها، أو بالأصح وضعتها في مكعب ثلجي أنتظر لأجل غير مسمى أن يذوب، وبين أن ألملم جراحي وأن أستأصل ذلك الورم المسموم بالابتعاد، لعل البعد يشفيني من ذلك السمّ اللذيذ بطعم النبيذ.

وبالفعل، تم البعد وقد كان كما كنت أتوقع: اتسم بالمرارة والألم، ولكن كأي عملية جراحية، تكون مؤلمة في البداية والشفاء منها يتطلب وقتاً وصبراً.

مرّت الأشهر الأولى كأنها سنوات، بطيئة، مرّة وقاسية، يتخللها شعور غامض وحنين لمعاودة الاتصال لمجرد سماع صوته فقط، لكي أروي عطش ذلك الإدمان الذي أحاول التخلص منه.

مع الوقت، تغلّبت عليه، أصبح ذكرى أتذكرها بابتسامة تجعلني أتعجب من كيفية سيطرة المشاعر على مصائرنا نحن البشر. مشاعر قد نتخطاها ولكن لا ننساها، لأنها ببساطة حفرت مكاناً لها في ذاكرتنا، مكان يأخذ حيزاً من وجداننا ليذكرنا بين الحين والآخر بالعبر التي من المفروض أن نتعلم منها، ولكن للأسف نكررها في معظم الأحيان

ولكنني كبحت جماح هذه الرغبة الدفينة، كمدمن يتحدى الإدمان اللذيذ والقاتل في نفس الوقت. وبالفعل تغلّبت عليه، أصبح ذكرى أتذكرها بابتسامة تجعلني أتعجب من كيفية سيطرة المشاعر على مصائرنا نحن البشر. مشاعر قد نتخطاها ولكن لا ننساها، لأنها ببساطة حفرت مكاناً لها في ذاكرتنا، مكان يأخذ حيزاً من وجداننا ليذكرنا بين الحين والآخر بالعبر التي من المفروض أن نتعلم منها، ولكن للأسف نكررها في معظم الأحيان!

مرت الأشهر والسنوات ولم نلتقِ، أو بالأحرى تجنبت اللقاء كيلا أواجه تلك الذكرى، والتي أحاول أن أتذكر الجانب الجميل منها كيلا أشيطنه في ذاكرتي.

عاودت حياتي كالمعتاد: عمل، أصدقاء وسفر من بلد لآخر، وإذ بالأقدار تجمعني معه في نفس المدينة، حيث اتخذ عملاً جديداً نقله إلى إحدى دول وسط أفريقيا، حيث كنت هناك في مهمة رسمية.

لمحته في ذلك البار، حيث اعتدت الذهاب بعد العمل، في الساعات الأولى من المساء. الشاب نفسه الذي تطوع لمرافقتي لمحل الصرافة، وقد اكتنز قوامه عن قبل بعض الشيء، ولكنه ما زال يمتلك تلك الابتسامة الدافئة التي سلبت وجداني في يوم من الأيام.

نظرت اليه عن بعد، وفي لحظة ما انتبه إلى وجودي، وإذ بعينيه العسليتين تحدقان بي غير مصدقتين، ابتسم لي بابتسامته المعهودة ورأيته يستأذن من الحضور متجهاً صوبي.

ارتسمت على وجهي نصف ابتسامة، حيث تذكرت ذلك المكعب الثلجي الذي وضعته في قاع الثلاجة، وتساءلت: هل سيذوب الثلج عنه في يوم من الأيام؟ أم أنه سيتبخر كأشياء عديدة دخلت حياتنا؟!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image