الفارق الأهم بين الهاوي والمحترف أن الأول ينشد الاستمتاع، يراوغ على مهل وعينه ليست دائماً على المرمى، ولا يحرز هدفاً نتيجة تسلّل أو خطأ تحكيميّ، ويمتاز بإتقان مهارات تنتمي إلى فنون الرّقص والمعارضات، بقدمين ورأس يثير إعجاب الجمهور ولو من مشجعي الفريق المنافس. أما الثاني فيُخضع الحرفة لدقّة الحساب، وهندسة غزو المرمى بكلّ الطرق، لضمان إحراز هدف يحقّق الفوز، وفي سبيل هذه الغاية يضحي بالإجادة والمتعة، مخلصاً لشعار "الكرة أجوان" (جمع "جون" بالعامية المصرية، Goal في الإنكليزية). هكذا سعدتُ واستمتعتُ بقراءة كتاب عن الإنفلونزا الإسبانية عام 1918 وضحاياها في مصر، للدكتور محمد أبو الغار الأستاذ بكلية الطب قصر العيني بالقاهرة.
يطمئن الفائز البليد، وارث الروح الوظيفية الهادفة إلى حصد نقاط مباراة، أو بلوغ ترقية أكاديمية، فيعتصم باليقين، ويخاصم القلق الذي يظل فضيلة الهاوي الطموح، فيروي عطشه إلى المعرفة، متجاوزاً الإطار المنهجي المحكم، ويطلق خياله بلا ضفاف، باحثاً بدأب ومحبة عن إجابات تفاجئ المتخصصين. هذه الفضيلة حملت محمد أبو الغار، وهو أول من أدخل علم الأجنة وتكنولوجيا أطفال الأنابيب في مصر، إلى تاريخ أهمله شهوده من المؤرخين، ولا يجد أساتذة التاريخ بعد أكثر من مئة عام مسوّغا لوراثة هذا الإهمال؛ إهمال كارثة قتلت نحو 180 ألف مصري هو كارثة بحثية. فكم جنى المؤرخون على البشرية، بتعظيم وقائع صغيرة وطمس كوارث كبرى؟
الإنفلونزا الإسبانية، التي اجتاحت العالم عام 1918، كان تأثيرها عنيفاً في مصر. ويسجل أبو الغار كيف أهملها المؤرخون المصريون المرموقون، باستثناء سطر في حوليات المؤرخ والمحقق أحمد شفيق باشا. أما عبد الرحمن الرافعي "فلم أجد عنده شيئاً عن الوباء في مصر في فترة حرجة وصفها وأرّخ لها الرافعي بدقة، وكانت ذروة الوباء في أثناء زيارة سعد زغلول وصحبه في 13 نوفمبر 1918 إلى المندوب السامي مطالبين بإلغاء الحماية وطلب الاستقلال، وبالرغم من ذلك لم يكتب الرافعي سطراً عنها"، وغاب الوباء عن دراسات أستاذة التاريخ المعاصرين، "حتى أن بعض كتّابنا المحدثين بدأوا يعتقدون أنه ربما لم تصل الإنفلونزا الإسبانية إلى مصر."
الخيط الذي أثمر كتاب "الوباء الذي قتل 180 ألف مصري" لأبو الغار بدأ في ظل شبح فيروس كورونا، ببحثه في تاريخ الأوبئة، وكيفية انتشارها عالمياً، وسبل تفاديها. في يناير 2020 قرأ بحثاً صغيراً كتبه الدكتور كريستوفر روز، الأستاذ بجامعة تكساس، عن تأثير الإنفلونزا الإسبانية على مصر في نهاية الحرب العالمية الأولى، وفيه رصد لعشرات الآلاف من الضحايا، وربط انتشار الآثار المميتة للفيروس بالغلاء، وكيف أدى الفقر إلى سوء التغذية، وضعف المناعة، مع رجوع فيلق العمال المصريين المسخّرين في خدمة جيش الاحتلال البريطاني، من خارج الحدود إلى عموم القرى مصابين بالإنفلونزا. من تلك الإضاءة جاء الربط بين كوفيد 19 وإنفلونزا 1918.
غاب وباء 1918 عن دراسات أستاذة التاريخ المعاصرين، حتى أن بعض كتّابنا المحدثين بدأوا يعتقدون أنه ربما لم تصل الإنفلونزا الإسبانية إلى مصر
فرح الدكتور أبو الغار بهذا الضوء القادم عبر الأطلسي، لعله يهديه إلى حقائق أخرى. سعادة منقوصة أثارت شجونه؛ فغياب المعلومات عن أعمال المؤرخين المصريين كان "محبطاً ومحيّراً؛ كيف لهؤلاء المؤرخين المدققين ألا يرصدوا ذلك؟". واتصل بالدكتور كريستوفر روز، فأرسل إليه بالبريد الإلكتروني مئات الصفحات من وثائق مصلحة الصحة العمومية المصرية المحفوظة في جامعة تكساس، "كاملة ومفصلة بدقة شديدة"، بداية من عام 1914. هنا بدأ مشروع كتاب يسدّ فجوة باتساع جثث 180 ألف مصري من ضحايا الإنفلونزا الإسبانية، واكتملت الصورة بوجود تغطيات واسعة للصحف المصرية، وبالأخص الأهرام والمقطم، فصدق عليها قول أحمد شوقي: "لكل زمان مضى آية، وآية هذا الزمان الصحف".
إلى فجر التاريخ ترجع الأوبئة، ومنها ما قضى عليه التقدم العلمي. وقد انتشر الطاعون من القسطنطينية، عام 541 في عصر الإمبراطور جستينيان، وقتل في أوروبا وإفريقيا بين ثلاثين وخمسين مليوناً هم نصف سكان العالم. وفي عام 1347 حل "الطاعون الأسود" الذي قيل إنه قتل، في أربعة أعوام، 200 مليون هم نصف تعداد البشرية. وفي عام 1834 قتل الطاعون ثلث سكان القاهرة ونصف سكان الإسكندرية. أما الكوليرا فقتلت عام 1831 أكثر من 150 ألف مصري من مجموع السكان البالغ 3.5 مليون. وفي عام 1883 قتلت الكوليرا 58369 مصرياً. وشهد العالم عشرة أوبئة للإنفلونزا خلال 300 عام، فلماذا ارتبطت إنفلونزا 1918 بإسبانيا؟
لم تكن إسبانيا مصدر الوباء. ويرجّح المؤلف أن المخابرات البريطانية والألمانية منعتا النشر عن الوباء وشراسته وضحاياه، تجنّباً للتأثير على الروح المعنوية للجنود. وكانت إسبانيا على الحياد، فنشرت صحفها تفاصيل الوباء الذي ساعد على انتشاره تواضع الخدمات الصحية، وانتقال المجندين عبر الحدود وعلى متن السفن الحربية، وتعرض نصف سكان العالم للإصابة، ومات نحو 50 مليوناً. وفي عام 2018 نشر الباحث النرويجي إيريك ماملوند دراسة عن إصابة الفقراء أولاً عام 1918، ولم يتأثر الأغنياء ولكنهم كانوا ضحايا الموجة الثانية أكثر من الفقراء. وأوصى ماملوند بضرورة البدء بتطعيم الفقراء عند حدوث الأوبئة، لأنهم يصابون أولاً. ويرى أبو الغار صعوبة تحقيق ذلك حالياً.
ممن أصيبوا بالإنفلونزا وتمّ شفاؤهم كان والت ديزني، والرئيس الأمريكي ويلسون، وفرانكلين روزفلت الذي صار رئيساً لأمريكا، ورئيس الوزراء البريطاني لويد جورج، والزعيم الهندي غاندي، وملكة الدنمارك وملك إسبانيا، وإمبراطور إثيوبيا هيلا سلاسي، والرسام النرويجي إدوارد مونك. وكان أشهر الضحايا الرسام النمساوي غوستاف كليمت، والرسام النمساوي إيغون شيلي وزوجته الحامل في شهرها السادس، والاقتصادي الألماني ماكس فيبر، واثنان لا تزال آثارهما سارية هما الأمريكي جون دودج صانع سيارات دودج، والبريطاني مارك سايكس أحد طرفي الاتفاقية التي تحمل اسمه مع الفرنسي فرانسوا جورج بيكو.
كانت سلطة الاحتلال تعنى بصحة جنودها، وألحقت مسؤولي الصحة بالجيش البريطاني، وأهملت علاج المصريين في القرى التي كانت فوق فوهة بركان، وتنتظر شرارة اندلاع ثورة 1919 لتنخرط فيها
مات سايكس في فرنسا عن 39 عاماً، وكان عضواً بالوفد البريطاني لمؤتمر الصّلح في فرساي، في فبراير 1919، حين أصابته الإنفلونزا. وبشهادة طبيب إسكتلندي فإن المريض كان يعاني "أعراض الالتهاب الرئوي بطريقة عنيفة لم أشاهدها من قبل"، ولا يستطيع التنفس ويختنق "بطريقة فظيعة". ودفن "السير" في صندوق من الرصاص، وسمح أحفاده عام 2008 بنبش قبره، لمعرفة نوع الفيروس المتسبب في الإنفلونزا الإسبانية، فلم تكن الفيروسات قد اكتشفت وقت انتشار الوباء. وجدوا الصندوق مكسوراً بسبب ضغط الأتربة، ولم تكن العينات المأخوذة من رفاه جيدة، ولكنهم وجدوا يوميات صديق سايكس الذي "وصف الحالة المزرية للوفاة، وكذلك حال زوجة السير مارك".
في خريف 1918 انتقل الوباء من الشام إلى الجزيرة العربية، وتوفي متأثراً بالإصابة وليُّ العهد السعودي تركي، الابن الأكبر لعبد العزيز. وطلب ابن سعود خدمات الطبيب الأمريكي بول هاريسون الذي وصل إلى الرياض، وكان معظم أهلها مصابين، ومات عشرة في المئة منهم، وکانت "الجثث محمولة على الحمير والجمال". في مصر توفيت داعية الإصلاح الاجتماعي الكاتبة ملك حفني ناصف، في أكتوبر 1918. وفي تقرير الكولونيل كاثكارت غارنر، المدير العام للصحة الوقائية، أن المرض ظهر في الإسكندرية، في مايو 1918 قادماً من أوروبا، وفي يونيو ظهر بوضوح في بورسعيد عبر البحر المتوسط أيضاً. ثمّ انتشر بين أفراد الجيش البريطاني في مصر وفلسطين.
دون الوقوف أمام آثار الإنفلونزا الإسبانية فی مصر، يظل التأريخ لثورة 1919 منقوصاً
من دون الوقوف أمام آثار الإنفلونزا الإسبانية فی مصر، يظل التأريخ لثورة 1919 منقوصاً؛ ففي القرى ظل الوباء يحصد أرواح العائدين من السخرة في خدمة قوات الاحتلال، ويقتل ذويهم ممن أصابتهم العدوى، في ظروف صحية سيئة، وفقر وغلاء أكبر من طاقة الفلاحين، "وكان عام 1918 هو الأسوأ في التاريخ الحديث؛ فانخفض عدد المواليد إلى أدنى حدّ، وارتفعت الوفيات إلى أعلى حدّ". ويسجل تقرير غارنر انخفاضَ الوفيات في المدن عن القرى، كما كانت نسبة الإصابات في المناطق الغنية الأخف ازدحاماً أقلَّ من المناطق الفقيرة. وطبعت تعليمات باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية والإيطالية واليونانية، للتوعية الصحية التي تكررت تقريباً مع وطأة كورونا عام 2020.
فيلق العمال المصاحب للجيش البريطاني لم يأخذ حقه من التوثيق والبحث، ويسجل تقرير عام 1918 عودة 280044 رجلاً، وتمت متابعة 96.9 في المئة منهم، واختفى 8579 رجلاً دون متابعة طبية. وفتح 21 مستشفى عامّاً أبوابها للعسكريين، منها مستشفى السويس الذي أصبح مستشفى حربياً. وأقيم "مستشفى المخيم" على هيئة معسكر من الخيام لمعالجة العمال العائدين، ودخله 2464، مات منهم 408 بسبب الهزال ومشاقّ الطرق التي أهلكت بعضهم أثناء الرجوع. وكانت سلطة الاحتلال تعنى بصحة جنودها، وألحقت مسؤولي الصحة بالجيش البريطاني، وأهملت علاج المصريين في القرى التي كانت فوق فوهة بركان، وتنتظر شرارة اندلاع ثورة 1919 لتنخرط فيها، وتكتسب الثورة طبيعتها الشعبية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع